الديمقراطية… رؤية عالمية
د. برهان غليون
قلت في مقال سابق إن نوعية الدول مرتبطة بموقعها على خريطة المنظومة العالمية الواحدة للدول، وكذلك نصيبها من موارد السلطة الرئيسية، أي السيادة والموارد المادية واللامادية الضرورية لتحقيق الاندماج الداخلي وبناء الجماعة الوطنية وضمان حد أدنى من النمو والاستقرار.فالنخب التي لا تملك في هذا النظام إلا قسطاً ضئيلا من الموارد السياسية اللازمة لبناء الأمة وضمان حد أدنى من التنمية، تجد نفسها محصورة بين نارين، نار النظام الدولي الذي يسعى إلى استغلال تبعيتها خدمةً لأغراض السيادة العالمية، ونار المجتمعات المتطلعة إلى تحقيق مفهومها كدولة للأمة والشعب.
على هذا الأساس تتوزع الدول أصنافاً في أسلوب اشتغالها ومصائرها: تلك التي تفرض أجندتها السياسية على العالم أجمع، وتتصدى لمهام قيادة المنظومة الدولية، وتتصرف كما لو كانت مسؤولة عن المصائر العالمية، وتلك التي لا تملك شروط بقائها، وتخفق أحيانا في إعادة إنتاج ذاتها كدولة، فتصبح “دولة فاشلة”. وعلى هذا الأساس أيضاً يتميز سلوك النخب، فتلجأ الضعيفة والتابعة منها إلى الاستقلال عن شعوبها بمقدار ما يرتبط استمرارها بتلبية حاجات الدول المسيطرة ونيل رضاها، أي بشرعية خارجية. أما التي تستند في وجودها إلى رضا شعوبها وتعتمد على الشرعية السياسية، فهي وحدها مؤهلة لتزعم دولة ديمقراطية أو دولة شعبها.
وهذا ما يفسر تحول الدول، في أكثر مناطق العالم، إلى أداة لقهر الشعوب على نطاق واسع، تحول بدأ يترسخ بعد الحقبة الاستقلالية القصيرة، نهاية الحرب العالمية الثانية. كما يفسر نجاح بعض النخب في مصادرة موارد الشعوب واستخدامها لتحقيق اندراجها في المنظومة الدولية. فبدل أن تكون الدولة إطاراً لبناء الجماعة القومية وتوحيدها في نسق أمة متضامنة ومتكافلة، تحولت إلى موضوع رهان أول، وفجرت النزاعات الدينية والإثنية والمذهبية، حتى ليكاد الصراع على الدولة حالياً يختصر التاريخ السياسي للشعوب التابعة، ويلغي تماما معركة بناء الدولة ذاتها، أي الكفاح المشترك من أجل تأهيلها وتطويرها وجعلها أكثر تطابقاً مع إرادة الجماعة.
وأسبقية الصراع على الدولة، بدل الصراع لتحويلها وتحقيق فكرتها، هو ما يفسر التطور المتفاوت والمتناقض في بلداننا لثقافة النخب التي استقلت بالدولة وحافظت على مظاهرها “العلمانية” أو شبه العلمانية التي تمكنها من التماهي مع النظام العالمي والانخراط فيه والتواصل معه، وبين ثقافة الغالبية الشعبية التي انكفأت على القيم التقليدية وجعلت من التراث الديني مرجعيتها الرئيسية ضد إقصائية النخب الحاكمة وحلفائها الخارجيين معاً.
ولعل خدعة التاريخ الحديث الأهم تكمن في أن تجريد الشعوب من حقوقها وإعادة توجيه آلة الدولة الحديثة التي يفترض أن تساهم في تحريرها، ضدها ومن أجل استعبادها… قد حصل في البلدان التي شهدت صعود نخب ترفع لواء المبادئ الثورية والتغييرات الراديكالية، أي الحرية والسيادة والعدالة والاشتراكية، قبل أن تتحول إلى احتكار للسلطة وقضاء كامل على العناصر القانونية والسياسية والفكرية التي تهيكل المجتمعات، وتسمح لها بتوجيه مقاومة تضمن استقلاليتها إزاء السلطة المركزية. ومن هذه العناصر احترام القانون والمؤسسات والرأي الآخر، وصون كرامة الإنسان وحقه في الحياة والأمن. فباسم التغيير الجذري استباحت النخب الثورية كل المحرمات التي كانت الدول التعددية السابقة (“الرجعية”) مضطرة إلى مراعاتها. هكذا تبدو الشعوب التي انخرطت في الحركات الثورية الأكثر وعداً، والتي بذلت الكثير من أجلها، ضحية الدولة المنقوصة أكثر بكثير من تلك التي أخفقت في ثوراتها أو قبلت بالخضوع للسلطة التقليدية.
فقد مكن ذلك للنخب الجديدة، الانقلابية، من مصادرة آلة الدولة، بعد مصادرة الإرادة الشعبية، واستخدامها لأغراض الاستقرار العالمي، أي لضمان التفاهم والتعاون بين النخب المحلية والدول الكبرى المسيطرة على النظام الدولي.
والقصد أن ظاهرة النظم الاستبدادية عموماً، مما يسود حقبتنا الراهنة، هي وجه من وجوه الدولة المنقوصة أو المشوهة، وأن استمرارها لا يرتبط فقط بالشروط الداخلية لبناء الدولة ولا بإرادة النخب المحلية فحسب، ولكن جذوره تمتد عميقاً في بنية نظام الدول العالمي. وقد رأينا أن موجات التحرر والقضاء على الاستبداد، حتى عندما تكون شعبية حقيقية، غالباً ما تتكسر على صخرة بنية نظام العلاقات الدولية ولا مساواتها العميقة بين الدول والشعوب. فينقلب حلم التحرر إلى كابوس استعباد واستبداد راسخين.
ويعكس تاريخ العديد من الدول التابعة تردد نخبها الدائم بين التمرد على النظام الدولي الذي غالباً ما يقود إلى العزلة والإفقار، فيتم إدخالها في خانة “الدول المارقة”، وبين الالتحاق بالدول الكبرى المسيطرة والتكيف مع حاجاتها الاستراتيجية والعمل تحت إشرافها.
ويعني ذلك أن السعي إلى الديمقراطية، وما تتطلبه من تحويل بنية علاقات السلطة داخل المنظومة الوطنية، لا يمكن أن ينفصل عن السعي الموازي لتغيير بنية علاقات السلطة داخل المنظومة العالمية التي تؤسس للتفاوت بين الشعوب من حيث حظها من التقدم والاندراج في الدورات الحضارية التاريخية، بما فيها الدورة السياسية. كما أن تعظيم فرص إدماج المجتمعات قومياً لا ينفصل عن النجاح في إدماج الدول والبلدان في منظومة السيادة العالمية. وأن أي استراتيجية وطنية للتحولات الديمقراطية، لا يمكن أن تستغني عن استراتيجية دولية لتحويل أو تغيير البنية الإمبريالية التي تطبع النظام العالمي، ولا عن التحولات الأخرى الاستراتيجية والاقتصادية والإعلامية. إن الديمقراطية لم تعد مسألة وطنية محض، ولن تتقدم بوصفها مسألة وطنية، وإنما تتطلب عملا جماعياً عابراً للقوميات، في موازاة تطور عقيدة إنسانية تؤمن بالمساواة بين الشعوب والبلدان والمجتمعات.
ولا يعني هذا أنه لا يمكن العمل داخل حدود الدولة الوطنية لإحداث تحويلات وإصلاحات ذات طابع ديمقراطي. كما لا يعني أن مثل هذه الإصلاحات ليست ممكنة. بالعكس، هذا هو المطلوب والمنشود. لكن ينبغي على العاملين في هذا الميدان أن يدركوا أن نشاطهم لا ينفصل عن سياقه العالمي، وأن حصيلة نضالاتهم مرتبطة أخيراً، أي على المدى البعيد، بتحول بنية النظام العالمي ذاته.
لكنه يعني أيضاً، في ما وراء ذلك كله، أن الديمقراطية لن تستقر في بلد ما إلا بمقدار ما تزداد، داخل النظام الدولي نفسه، ومن خلال تحويله فرص تعميم قيم الحرية والمساواة والدولة القانونية، وتجاوزها نطاق نادي الدول الصناعية الراهن، أي أدماج جميع الدول تدريجياً في هذا النادي ذاته.
الاتحاد