صفحات العالم

نحو عراقٍ آمنٍ وفاسد

null
بقلم جهاد الزين
تنبني فرصة انبعاث الدولة العراقية الجديدة – في حدها الادنى الجوهري وهو احتكار السلطة الامنية – على الحرب الاهلية الدائرة بين الشيعة والشيعة والحرب الاهلية الاخرى الدائرة بين السنة والسنة.
ليس معنى الأمر ان الحروب الاخرى لم تعد موجودة او انها حتى، تضاءلت تماماً. لكن ما نعنيه هنا ان الدولة العراقية سقطت تماما مع سقوط نظام صدام حسين على يد قوات الغزو الاميركية وما تلاه من التسريح الكامل للجيش العراقي بعد 9 نيسان 2003، ولم يكن ما حدث مجرد سقوط نظام سياسي. الدولة التي سقطت هي الشكل الاخير للهيكلية الادارية والامنية التي عرفها العراق منذ تأسيسه عام 1921.
إمكانية ولادة الدولة الثانية التي اتضحت شخصيتها الدستورية الجديدة كشخصية فيديرالية، ترتبط الآن – بحدها الادنى الامني – بمصير “التفكك” داخل كل من الطائفتين الشيعية والسنية. فانتهاء مرحلة التشكل الطائفي العام لإحدى الطائفتين ضد الاخرى كما حصل بين 2003 – 2006 وبدء الصراعات القتالية داخل كل منهما اعتبارا من 2007 الى 2008 هو ما يتيح اساسا امكان تقدم السيطرة الامنية للدولة… بهذا المعنى إمكان الولادة الامنية للدولة الجديدة، الولادة التي لا معنى لأي ولادة اذا لم تكن قائمة على المستوى الامني.
تستمر الحرب الاهلية الاخرى جزئيا بين ميليشيات شيعية وميليشيات سنية وتستمر المقاومة المسلحة ضد الجيش الاميركي واحيانا ضد الجيوش الاجنبية المتحالفة معه… لكن “الدولة” تصبح ممكنة حاليا بسبب “الفتنة” داخل كل طائفة، لا بين الطائفتين!
هكذا يقدم لنا العراق “خريطة طريق” سبق ان اختبرناها لنهايات الحرب الاهلية 1975 – 1990 في لبنان وهي عبور عودة الدولة بالصراع الداخلي في كل طائفة. كانت الخاتمة الدموية داخل الطائفة المارونية هي التي فتحت “طريق السلام” امام الحل العربي – الاميركي يومها.
ما نسميه في ازمنة الحرب الاهلية “التفكك” في الطائفة الواحدة، سيحمل في ازمنة السلم اسم “التنوع” داخل هذه الطائفة.
تولد – على الارجح – في شوارع الاقتتال الداخلي الشيعية من “مدينة الصدر” في بغداد الى العمارة حتى البصرة ومن الاعظمية في بغداد الى الموصل في شوارع الاقتتال الداخلي السنية، الامكانية “العراقية” الوحيدة حاليا لخلق اجواء انتصاب الدولة الجديدة في العراق.
لكن المعضلة “الحضارية” الاعمق لمعيارية “الدولة” الجديدة في العراق ليست الامن، الامن هو الشرط الضروري، ما اسميناه الحد الادنى لاي دولة كي تكون دولة، لكنه ليس الشرط الكافي قطعا لكي نتأكد من ولادة دولة حديثة وديموقراطية (وبالتالي قابلة للحياة بالمعنى الاستراتيجي).
الطبقة السياسية الجديدة التي يتولى جزء من نخبتها ادارة مؤسسات الدولة، هي طبقة متهمة الآن وعلى مستوى عالمي، بأن فئات منها تقوم منذ ما بعد سقوط نظام صدام، بادارة نظام فساد استثنائي بلغت ارقامه حدا هائلا من سرقة اموال “الشعب العراقي”. فبالاحرف العريضة على رأس صفحتها الاولى كتبت “اللوموند” الفرنسية في عدد 18 حزيران ان منظمة “ترانسبارنسي انترناشيونال” صنفت العراق على مستوى الفساد العالمي، الثالث كدولة بعد دولتي بورما والصومال. والتحقيق المنشور يطرح اسئلة ويثير بعض المعلومات المتعلقة بمدى شفافية العقود التي تجريها شركات اميركية في العراق وتطال المال العام الاميركي وليس فقط العراقي متحدثا عن رقم 23 مليار دولار.
نافست الطبقة السياسية العراقية الجديدة في مدة قياسية مستوى الفساد الذي بلغته الطغمة السابقة، طغمة صدام حسين، حتى ان تقرير بايكر – هاملتون الشهير الذي اعلن في اواخر 2006 تحدث يومها عن رقم تقديري للسرقات من مبيعات النفط تصل الى اكثر من خمسة مليارات دولار سنويا. طبعا لم يحظ هذا الجانب الخطير من التقرير باي تركيز اعلامي. العكس هو الذي حصل، اذ جرى اهماله بطريقة ما لولا بعض الاشارات السريعة. فتقرير بايكر – هاملتون من حيث “مرجعيته” السياسية الرفيعة المستوى في الولايات المتحدة، كونه صادرا عن لجنة مكلفة من الرئيس الاميركي، كان ادانة واضحة لمسار بناء الدولة العراقية، المسار الذي يجعلها تبدأ عالمثالثيا، ويحول عددا من السياسيين العراقيين الى “اساتذة” نهب قياسا بما يحدث في دول عربية اخرى، بل يجعل الفساد السياسي اللبناني حتى باشكاله المتفاقمة في المرتبة الخلفية على مسرح الفساد. ولعل لبنان يجد نفسه هنا في وضعية شبيهة بوضع سويسرا في بعض المجالات المتعلقة بالعراق. فاذا كان الفساد السياسي عاملا “مشتركا” بين لبنان والعراق يمكن القول ان النظام الاقتصادي اللبناني يتيح للبنان الاستفادة المشروعة من تدفق اجزاء من اموال البترودولار العراقي الى الخارج. وكما في سويسرا فان الاموال الواردة في انشطة اقتصادية طبيعية تمر وستظل تمر بحكم الجوار العراقي والانجذاب الخدماتي والسياحي عبر القطاع المصرفي اللبناني. وهذه ميزة تفاضلية للبنان يحق له تشجيعها ضمن المعايير الجارية. ليس هذا ما نحن بصدده هنا، وانما التساؤل عن مدى “متانة” دولة كالدولة العراقية الجديدة تولد مترافقة مع هذا القدر من الفساد الذي يشكو من ضخامته ايضا العديد من السياسيين العراقيين قبل غيرهم؟
انه سؤال يطال “ماهية” الدولة لا فقط فعاليتها!
في عالم معولم، الفساد هو انتهاك السيادة الحقيقي لأي بلد … سواء كان محتلاً، مثل العراق، أو لم يكن مثل لبنان.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى