صفحات العالمما يحدث في لبنان

قراءات للقطبة السوريّة المخفيّة

جان عزيز
بحسب مضمون المفردات ووتيرة اللهجات التي سادت خطابات الأيام الماضية والحالية، ثمّة أزمة كبيرة في البلاد، قد تفجّر أو تتفجَّر حرباً في أيّ لحظة. لكن بحسب القراءة الدقيقة لمواقع المعنيين بتلك الأزمة، وخلفياتهم، وقياس العلاقات بين مَن خلفهم، يمكن القول إن ثمّة قطبة مخفيّة في المشهد اللبناني الراهن، أوّلها في دمشق…
بمعنى آخر، ثمّة أسئلة ـــــ مفارقات لا بد من طرحها، جلاءً لتلك القطبة ـــــ اللغز: مثلاً وأولاً، كيف يمكن تفسير الأداء الحريري، بالتوازي مع علاقته السورية المستجدّة؟ فعلى سبيل المثال، تفجّر أزمة عنيفة في بيروت بين رئيس الحكومة وحزب الله، على خلفيّة أحداث برج أبي حيدر. ويبلغ الكلام حد خرق كل السقوف: الحريري يرفع شعار «السلاح المنزوع»، ونصر الله يرد باتهام «السكين المغروز في الجرح»… فجأةً، وفي حمأة هذا العنف السجالي بالذات، يصعد الحريري إلى سحوره الرئاسي الدمشقي. ليتولّى بُعيد عودته، سليمان فرنجية بالذات، «الطمأنة» إلى أن رئيس الحكومة عاد من سوريا مرتاحاً، وإلى أن لا تغيير حكومياً…
وعلى سبيل المثال أيضاً، يُجمع كل زوار دمشق ومسؤوليها، على تكريس مكانٍ ومكانة خاصّة في رؤية القيادة السورية، للعماد عون. حتى إن بعض العارفين بثوابت العقل السوري لا يتردّدون في التأكيد أن علاقة دمشق ـــــ الرابية قد تكون من أبرز علامات المصالحة التاريخية والتسوية الكيانية بين الدولتين، على قاعدة الرؤية الاستراتيجية التي تريح سوريا وترتاح إليها.
في المقابل، يذهب وسام الحسن إلى العاصمة السورية، ويلتقي مسؤولين سوريين على مختلف الرتب والمستويات، قبل أن يعود بما يشبه القدرة على الذهاب في ملف العميد فايز كرم إلى ما يصفه البعض بتركيب ملف للعماد ميشال عون. حتى إن أصواتاً من فريق العقيد الحسن لم تتورّع عن الاتهام والتهديد المبكرين…
وعلى سبيل المثال، أيضاً وأيضاً، يذهب جميل السيّد إلى دمشق. يحرّك دعواه القضائية هناك ضد دولة الحريري برمّتها. فيستشفّ اعتزاماً قانونياً سورياً على استنفاد المهل الزمنية، والذهاب أبعد نحو مذكرات التوقيف الغيابيّة. ثم يلتقي السيّد الرئيس الأسد، قبل أن يعود إلى بيروت ليفجّر زلزاله الصحافي…
فوراً يرد الفريق الحريري، فاتحاً للسيّد دفرسواراً تشهيرياً، كل المعنيين به من أسماء من القريبين من دمشق. فلا يصدر عنهم أي تعليق، فضلاً عن كلام رماه فريق قريطم في «السوق الصحافية» عن ترتيبات ما جرى التوصل إليها مع السيّد نفسه، في موضوع الوساطة المزعومة بين الطرفين، حيث يقف الكلام عند هذا الحد…
أيّ تفسير لهذه التناقضات في المواقف، وفي موقع سوريا من أصحابها وحساباتهم وحساباتها؟
المناوئون لسوريا والمشكّكون في دورها اللبناني، يسارعون إلى إعطاء التفسير القديم الجديد: إنه مذهب دمشق في اللعب على التناقضات اللبنانية الممكنة، وفي إسماع كل زائر ما يحبّ سماعه، وفي اعتماد سياسة أن الأصدقاء والحلفاء تحصيل حاصل، والعمل الآن منصبّ على استمالة الآخرين. هكذا يشعر الحريري وجنبلاط وحتى وسام الحسن، في دمشق، بما تشعره هي لميشال عون وحسن نصر الله وجميل السيّد…
القريبون أكثر من دمشق، يرفضون هذه القراءة، ويسارعون إلى استبدالها بتفسير معاكس: إنها ذهنيّة بعض اللبنانيين، ومن كلا فريقي صراعهما ربما، قد عادت إلى التعامل مع سوريا بمنطق الاستقواء بها قوة خارجية على خصم داخلي. وهي الذهنيّة التي حكمت البلاد طيلة عقود، اليوم تعود إلى الوجهة السورية، علماً بأنها لم تختفِ يوماً، ولم تنطفئ أو تنكفئ. كل ما شهدته في حقبة الأعوام الخمسة الماضية أنها بدّلت وجهتها مع تبديل «الدبشك» من كتف إلى كتف…
يبقى تفسير ثالث يقوله بعض العارفين بحقيقة التفكير السوري اليوم. يجزمون بأن أهل القرار في دمشق سئموا مماحكاتنا، وملّوا ألاعيبنا والاستدراجات والمناورات. وهم في قراءتهم اللبنانية راهناً لا يتوقفون إلا عند «الاستراتيجيات». أما ما تبقّى فلا يعلق في الذهن السوري ولا ينعكس في أي فكرة أو كلمة أو خطوة. كيف يتجسّد ذلك لبنانياً؟ بالعودة الدقيقة إلى تراثنا اللبناني العريق، في أن نكون «شيئاً» أقرب ما يكون إلى مباراة ملاكمة سياسية من نوع «فول كونتاكت»، على حلبة بلا حبال.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى