السلطة والجريمة
سليمان تقي الدين
ليس جديداً أن تقوم السلطة على الجريمة. كل الإمبراطوريات في التاريخ نشأت على غصب حقوق الآخرين. القوة في أساس مفهوم السلطة التي تعيد إنتاج شرعيتها وتبريرها الثقافي أو القانوني. أميركا دولة قامت على جريمة إلغاء الشعب الأصلي وإسرائيل نموذج آخر. الأنظمة الفاشية، والاستعمار، والإمبراطورية السوفياتية التي انهارت مؤخراً، كلها نماذج لتجليات القوة المادية المباشرة.
بشكل أو بآخر قامت الدولة اللبنانية على الكثير من أشكال العنف المادي والمعنوي، من الخارج والداخل. لكن هذه الدولة لم تنتج كامل شرعيتها بعد لا في نظامها السياسي ولا الاجتماعي. ما زالت هذه الدولة تحتاج إلى القوة والعنف والغلبة لتثبيت وجودها وتبرير السلطة التي تديرها. منذ الاستقلال حتى الآن تتجدد الحروب الأهلية غالباً تحت شعار الهوية وشرعية الكيان والدولة وواقعياً وفعلياً من أجل بناء السلطة السياسية والاقتصادية لفريق معيّن. كل ما يثار حول «الفكرة اللبنانية» تخطاه الزمن عملياً. الصراع الدائر منذ عقود طويلة على لبنان يتركز على السلطة والنظام، وليس على وجود لبنان وعدم وجوده. تتلبّس المشاريع السياسية أزمة الهوية التاريخية، تستخدم كل عناصر التعدد والتنوع والتضاد، غير أن الهدف هو السلطة. السلطة التي تعجز عن أخذ ولاء الجمهور بالحرية، بالديموقراطية، بالاقتناع، تحتاج إلى القوة العصبية، أي اللحمة المصلحية وثقافة
العصبية. كلما كانت الفئة التي تسعى إلى الحكم لا تعبّر عن مصالح وطنية واسعة اتجهت إلى عناصر القوة وبالتالي الجريمة. الجريمة السياسية أخطر بكثير من الجريمة العادية. كانت الحرب الأهلية سلسلة من الجرائم لحسم مسألة السلطة. ولأن الحرب لم تحسم تلك السلطة اتخذت الجريمة شكل الضغط السياسي والاقتصادي لإعادة بناء السلطة. سلطة ما بعد الطائف ارتكبت بوضوح جريمة تزوير إرادة الناس، تحوير السلطة واستغلالها، اغتصاب حقوق مادية ومعنوية. حجم الجرائم عمّق الكثير من التناقضات في المجتمع. أخذ فريق السلطة ثم سعى في أخذ البلد كله إلى مكان آخر. سقطت شرعية تلك السلطة لأسباب عديدة، وطنية، ثقافية، اقتصادية وسياسية. صار الاحتفاظ بالسلطة أو المواجهة بها أو معها يحتاج إلى العنف وإلى الجريمة. توالت الجرائم بحق الدستور، بحق المؤسسات، بحق ثقافة اللبنانيين. كانت جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق مقدمة لمسلسل طويل من انتهاكات الشرعية القانونية. سنوات المحنة المستمرة هي انحلال لسلطة الدولة وتحطيم لتوازنات المجتمع، لضوابطه وقواعده وثقافته. لم يعد الأمن لكل الناس ولم تعد العدالة محايدة. اللعب بالأمن والعدالة نهاية الشرعية.
لا يمتلك أي فريق سياسي اليوم مشروعية استلام السلطة بغالبية من ألوان الطيف اللبناني. حاولت هذه القوى صياغة شعارات لديها جاذبية عامة لكنها من دون مصداقية. حجم الظلم الذي رافق مشروع السيطرة لم يسمح بإطالة أمد الأوهام التي جرفت فئات واسعة من الناس لدعم المشروع السلطوي. قبض فريق سياسي على مفاصل مهمة من السلطة ولم يحسمها لأنه يتمادى في الجريمة.
لا السيادة ولا الديموقراطية ولا فكرة الدولة ولا العدالة ولا الحرص على السلم والاستقرار ولا الوطنية شعارات يجري احترامها. يتبلور أكثر الهدف السلطوي فتتهاوى كل التبريرات الأخرى. السلطة العارية مكروهة ومدانة. السلطة التي لا تستطيع أن تبرّر الجريمة هي سلطة جريمة.
كل يوم يخرج شخص أو طرف أو جهة يعرّون مفاسد السلطة. ما يكشف عنه أو يُستعرض أو يجري التذكير به هو جرائم كبرى تسقط حكومات وأنظمة في دول ترتكز إلى القانون. أخطر ما يحصل في لبنان أن الجريمة هي في حماية القانون ونظام العدالة. العدالة في لبنان متهمة بالجريمة وليس بالخطأ أو التقصير. غير أن السياسة تتجاذب نظام العدالة ولا تريد إصلاحه.
أحدهم دعا علناً إلى تسييس العدالة واختيار القاضي المسيّس. في مكان آخر هو نفسه ضد تسييس هذه القضية أو تلك.
الطرف الأكثر تضرراً من تسييس العدالة في التحقيق الدولي وشهود الزور والمحكمة الخاصة وقرارها الاتهامي العتيد لا يفتح ملف النظام القضائي في لبنان لتأمين العدالة لكل الناس. بعض التبرير المشين أن مرفق العدالة جزء من توازنات السلطة ومن توزيعها الطائفي. حين تكون العدالة أسيرة هذه الاعتبارات تصبح سلفاً غطاء للجريمة، جريمة التمييز وعدم الحياد وعدم المشروعية المرتكزة إلى قاعدة الحق أو القانون. كيف نحاكم شهود الزور في مشروع سياسي قام على تزوير أو تزييف كل شيء بشراكة من نظام العدالة؟!
المسألة التي يجب الانطلاق منها هي أن السلطة التي تدير البلاد ومؤسسات الدولة ومرافقها قامت أصلاً على أفعال جرمية خطيرة. تصلح كل السجالات السياسية الدائرة الآن لتغيير موازين القوى في السلطة والنظام لكنها لا تصلح لبناء استقرار ونظام ودولة وعدالة. ثمة حاجة لمراجعة مبدأ السلطة التي تقوم على جريمة.
السفير