تثور وتهدأ عمداً في لبنان
سليمان تقي الدين
قد يكون السجال السياسي جزءاً من عدّة الشغل اللبنانية . يحتاج الزعماء إلى تأكيد حضورهم واستنفار جمهورهم وإبقائه في دائرة الانجذاب إلى النزاعات الكبرى . الولاء المطلوب هو الانحياز لقضايا معظمها ليست في متناول اللبنانيين . هذه الحيوية الاستثنائية ميّزت وتميّز لبنان الذي انتج ظاهرات وحركات سياسية لا مثيل لها اليوم في العالم العربي وتشكل مصدر تأثير وإعجاب لجمهوره ومصدر قلق لنظامه الرسمي . لكن هذا الإفراط في تسييس كل شيء هنا يشكل حالة من حالات الاضطراب الدائم على حساب الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي . ما يحصل مقصود لأن إدارة الدولة مرهونة لمصالح يجب ان تبقى في الظل . اختنقت كل الاعتراضات والانتقادات على السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية بعد الطائف لأنها سلكت في معابر طائفية . غابت خلال السنوات الخمس الماضية كل الملفات الفضائحية تحت غبار معارك السلاح والمحكمة والسيادة . في تشخيص الأزمة اللبنانية بمفاصلها الأساسية هذا التعايش، بل التكامل، بين الفوضى الاقتصادية التي يجني ثمارها الأقوى، وبين البنية السياسية المتخلّفة القبلية الطائفية التي تقود حياتنا الوطنية . ما يهم في الاقتصاد للأقوياء هو الربح وحماية السلطة، وما يهم في العقل السياسي القبلي هو غنيمة السلطة والمشاركة في الربح عن طريق نظام “الخوة” الذي يكاد يشكل نمطاً عربياً لعلاقة النخب السياسية الحاكمة بالاقتصاد .
تعصر الدولة اللبنانية أكثرية مواطنيها بالضرائب ولا تقدم لهم الحد الأدنى المعقول حتى من الخدمات التجارية المدفوعة البدل . الاقتصاد الخدماتي التجاري المصرفي الاستهلاكي الريعي الذي يتعملق في القطاع الخاص والمبادرة الفردية، ومعظمه اقتصاد أسود، لا يحتاج إلى دولة القانون ولا إلى البنية السياسية المواطنية . هو بالأحرى يعمم القواعد المافياوية التي تضمن “حقوقها” أو “مصالحها” بالنفوذ والبلطجة وتستهدف ترك الناس إلى مصيرهم المجهول . هذه المصالح ثقافتها الطبيعية في الصراعات السياسية الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية . على امتداد الحرب الأهلية لم تنتفض هذه الطبقة ضد الفوضى الميليشياوية، وهي لا تنتفض الآن ضد كل مظاهر الاهتراء الأمني والسياسي . ربما بعض التجار الصغار يضيرهم الخلل الأمني هنا أم هناك لكنهم لا يتصرفون ككتلة مصالح وطنية في مواجهة هذا الخلل او الفوضى . في تلك المناسبات السياسية التي يحتدم فيها الخطاب السياسي الانقسامي أم تنكفئ كل كتل المصالح الاقتصادية عن المسرح أو هي تشارك في التأييد والدعم .
في مكان ما تحتجب المصالح الاقتصادية للأغنياء والفقراء خلف واجهة الزعامات والقوى السياسية وتسقط مشاريع تحديث الدولة وتطويرها وتنظيم القطاعات والخدمات وسلامة توزيعها . لأن قنوات التنظيم والتوزيع لا تتم على أساس الاحتياجات الوطنية بل عبر المؤسسات الطائفية وممثليها . نسمع بين الحين والآخر شعارات وأفكاراً تفرضها بعض الاحتجاجات الشعبية، لكننا لا نجد فرعاً واحداً من فروع هذه الطبقة السياسية قد استخدم موقعه القيادي وسلطته النيابية أو الوزارية لاقتراح حلول عامة . يشكو القادة من الدولة ومن المجتمع أحياناً مثلما يشكو الناس، لكنهم يدركون أنهم في مواقعهم السلطوية الرسمية أو غير الرسمية موجودون بشرعية مؤسساتهم الطائفية وليس بشرعية المواطنين .
لا تحل مشاكلنا في لبنان، الصغيرة أو الكبيرة، إلا حين نذهب باتجاه اللبنانيين جميعهم في الخطاب والمشروع والممارسة ونحسب لهم حساباً جامعاً كلبنانيين لا كرعايا، معنا أو ضدنا .
بعد الصوم السياسي في رمضان اندلعت المواقف والتصريحات المثيرة للجدل . اقتراب موعد صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يلح في وجوب اتخاذ الحكومة موقفاً . التفاهم السوري – السعودي انتج المقابلة التي أدلى بها رئيس الحكومة لجريدة “الشرق الأوسط” . مضمون تلك المقابلة المعروف عن تبرئة سوريا من الاتهام السياسي كانت وظيفته تصب في تشريع الدور السوري الجديد الذي يتولى إدارة الملف اللبناني ولو عن بعد . في الأفق اللبناني مخاوف من تداعيات القرار الاتهامي لعناصر من “حزب الله” وما يمكن أن يؤدي إليه من توترات سياسية ومذهبية . في مكان ما تدرك المملكة العربية السعودية وكل الراغبين في السيطرة على تلك التوترات وعدم تفجير الساحة اللبنانية أمنياً، تدرك أن سوريا وحدها هي الطرف الذي يستطيع ضبط هذه الساحة . لكن سوريا لكي تلعب هذا الدور الإطفائي تحتاج إلى أن يتعامل معها جميع الأطراف ويقبلون بدورها .
لكن في الموقف السوري لا تستطيع سوريا ان تتولى كامل الملف اللبناني بصفتها وسيطاً أو حكماً . هناك في لبنان حلفاء لسوريا يمثلون جزءاً من دورها الإقليمي ونفوذها . تحتاج سوريا إلى تحول في موقف الفريق المعارض لها والتعاون الكامل معها وهي تضغط بهذا الاتجاه . في حقيقة الأمر لا تعالج مشكلات الساحة اللبنانية إذا ظل دور المحكمة الدولية في يد أمريكا تديره كيفما تشاء، مرَّة باتهام سوريا ومرة باتهام “حزب الله” . لقد بدأت مسيرة التحقيق الدولي والمحكمة مع كمٍ هائل من التشوهات في صورة العدالة .
عملياً كان تسييس المحكمة منذ اللحظة الأولى سبباً للقلق والريبة منها . كل ما صدر حتى الآن من تقارير عن المحققين وكل ما صدر عن تسريبات صحفية يؤكد أن مسار المحكمة مصدر اضطراب في العلاقات بين اللبنانيين . أقرت المحكمة بشكل غير دستوري في لبنان وأخذت الأمم المتحدة على عاتقها تشكيل المحكمة تحت الفصل السابع . حتى هذه اللحظة اختلطت إجراءاتها بالسياسة وجرفت معها القضاء اللبناني الذي لم يبادر إلى لعب دوره في مسألة العدالة . الظلم الذي لحق سابقاً بالكثير من الأطراف لم يعالج وشهود الزور خارج قبضة العدالة . لم تحصل محاسبة سياسية عن المرحلة السابقة التي اعترف الكثير من الأطراف بأنها كانت مرحلة هياج سياسي وتوظيف سياسي للجريمة واتهام سياسي لا يستند إلى أي دليل . التراجع عن الاتهام السياسي السابق لا يكفي لكي يعطي طمأنينة لطرف ك”حزب الله” هو مستهدف بأكثر من خطر داخلي وخارجي . الحملة الوقائية التي اطلقها الحزب ضد المحكمة من المفترض أن تجد صداها في الحكومة فتتخذ إجراءات لدرء احتمالات صدور قرار يخضّ الساحة اللبنانية .
لا يزال استثمار المحكمة في لبنان من أجل بناء توازن سلطوي يشكل خطراً على الاستقرار والسلم . في مكان ما جرى استثمار المحكمة لبناء سلطة خلعت مواقع قضائية وأمنية وأحلّت مكانها عناصر تابعة لطرف سياسي معين . إذا كانت هناك مراجعة للمرحلة السابقة فمن البداهة ان تتغيّر هذه المواقع . هذا ما تحاول المعارضة أن تفعله ولو عن طريق الخطاب السياسي المتوتر . لقد ظهر أن حكومة الوحدة الوطنية لا تعكس قناعة جميع الأطراف، ولا تفاهمات عميقة بين مكوناتها . لذا يبدو أن تطويع الحكومة أو تغييرها هو المطلب في هذه المرحلة .
الخليج