صفحات مختارة

أما آن الأوان لنتحرر من ثنائية القيم؟

د.رشيد الحاج صالح
درج الناس، ومنذ آلاف السنين، على تصنيف أفكارهم ومعتقداتهم وقيمهم بطريقة ثنائية، فهي : أما صادقة
أو كاذبة، أما حقيقية بالمطلق
أو باطلة بالمطلق، إما خيّره
أو شريرة، إما صالحة أو طالحة.ومن ثم أصبح البشر ينقسمون في مواقفهم إما مع أو ضد، إما مؤيد أو معارض، إما متحمس لدرجة الثورة أو مستنكر لدرجة التعصب، ولا يعود هناك أي حساب للمساحات الوسطى بين هذين الخيارين.بحيث لا يعود من وجود لأي احتمال ثالث لأن «الثالث مرفوع» كما كان يقول أرسطو.
وينتج عن هذه الطريقة في التفكير أن الكل يبدأ بالاعتقاد بأنه يمتلك كامل الحقيقة وأن الآخر المختلف معه هو دائماً في ضلال مبين. ويزداد الأمر تعقيداً عندما يبدأ كل من الطرفين بتكوين صورة عن الآخر، تجعل منه إما شريراً أو زنديقاً أو ارهابياً..وكل ذلك لأنه يعارضنا في الرأي والأفكار والسلوك، بحيث يتحول الخلاف في الرأي إلى خلاف نفسي واجتماعي وأخلاقي.
ويبدو أن طريق التفكير التي تقوم على تقسيم كل شيء إلى ثنائيات سيطرت على عقل ووجدان الإنسان بشكل جذري، لدرجة أنها أخذت تطبع كل حياة الإنسان بطابعها، فعقل الإنسان اليوم يُقسّم الحياة إلى: حق وباطل، خير وشر، عدل وظلم، حب وكره، سيد وعبد، واقع وخيال…الخ، من دون الالتفات لإمكانية إزالة الأسوار الحديدية بين تلك الثنائيات. ومن دون بذل أي جهد يحاول النظر للخير والشر والحق والباطل في سياق ظروف الحياة وتشابك القيم والثقافات واختلاف الأحوال. فاليوم لم يعد الحق والباطل أمرين منجزين بصورة نهائية بل إن كل شيء اليوم يتغير مثله مثل أسهم الأسواق المالية.
فمثلاً : هل كان ياسر عرفات – عندما ذهب إلى أوسلو – مصيباً أم مخطئاً. وهل سياسات أميركا شر مطلق أم خير مطلق وهل قول ماركس – بعد الأزمة المالية الحالية -: «النظام الرأسمالي فاسد». قول صادق أو كاذب.وهل الحب اليوم خيّر أم شرير، وإذا كان خيراً فلماذا يلجأ المحب إلى قتل نفسه أحياناً وقتل حبيبه في أحيان أخرى. إن المتأمل في أسباب لجوء الإنسان لمنطق ثنائي القيم يجد أنها تعود إلى :
أولاً : أنانية الإنسان وحبه لامتلاك الحقيقة المطلقة : فالإنسان يحب دائماً أن يكون على حق وأن تكون آراؤه صائبة، كما يكره أن توصف مواقفه وأفكاره بالخطأ أو البطلان. ولذلك تجده يحارب كل من يخالفه الرأي، بحيث ينساق وراء أنانية تجعل الحق معه والباطل مع غيره. وغني عن القول إن هذه الطريقة في التقسيم تحقق له المتعة العقلية وترفع من شأنه.
ثانياً : الطريقة الدينية في إقامة الحقائق : فالأديان دائماً تقسم العالم والحياة والمعتقدات إلى قسمين : خير وشر، حق وباطل، إيمان وكفر.. ويبدو أن هذه الطريقة أصبحت تتحكم بعقل الإنسان وجعلته يميل إلى تصنيف كل شيء وفق المنطق الثنائي.
أما المشكلات التي تسببها هذه الطريقة في التفكير فهي كثيرة ويمكن إيجازها بالنقاط الآتية:
أولاً – التعصب : ذلك أن الاعتقاد بالصدق المطلق للمعتقد يؤدي إلى تراجع درجة التسامح. فالتقوقع داخل المعتقد يزيد من يقينه ويدفع الإنسان إلى فرضه على الآخرين بدعوى هدايتهم وإرجاعهم إلى جادة الصواب. فمن ليس معي فهو ضدي، وهذه هي حال السياسة الأميركية المعاصرة التي تحول كل من ليس معها وليس متطابقا مع مصالحها إلى «محور الشر» أو إلى « قائمة الإرهاب». وهذه أيضاً هي حال الفرِق الطائفية التي تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وطريق الحق وأن الآخرين غارقون في بحور الزور والبهتان.
ثانياً – غياب النقد : فهذه الطريقة في التفكير تجعل الناس أكثر اطمئناناً ووثوقاً بأنفسهم لدرجة أنهم لم يعودوا مهتمين بالتحقق من صدق ما يعتقدون بقدر اهتمامهم بتأكيد معتقداتهم والدفاع عنها، أياً كانت المواقف والظروف. فالإنسان ينشئ نوعا من الإلفة والحميمية بينه وبين معتقداته تمنعه من التفكير النقدي بها وتدفعه إلى رفعها إلى مرتبة القداسة والمطلق. فقيمة الإنسان من قيمة صحة ما يعتقد وكرامته من كرامة معتقداته.. ألم يشعر الشيوعيون العرب مثلاً بالانكسار والضيق عندما انهار الاتحاد السوفييتي السابق وتفككت المنظمة الاشتراكية من دون أن يكون لهم أي ذنب في ذلك الانهيار .
ثالثاً – اللاواقعية : إن الانجرار وراء تأكيد المعتقدات وإثبات صحتها بأي ثمن يدفع الإنسان لأن يكون تفكره انتقائياً يختار فقط ما يؤيد وجهة نظره ويغمض عينيه عن كل ما يزعزع وجهة النظر تلك، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء شخصية لا واقعية تضخم من الصغائر وتصغر الكبائر بحسب ما يخدم ذلك معتقداتها، وبحيث تنتهي إلى شخصية لا تدرك تعقيدات الحياة ولا تؤمن بالنسبية.
وبعد.. إذا كانت الثقافات العالمية قد قطعت شوطاً لا يستهان به للتخلص من المنطق ثنائي القيم للتخفيف من مشكلات التقوقع في منطق ثنائية القيم، فإن الثقافة العربية تعاني اليوم أكثر من غيرها من سيطرة هذا المنطق وما يسببه من نتائج سلبية تنعكس على شخصية الإنسان ونضجه الاجتماعي والسياسي. وهذا ما يؤكد صعوبة المهمة. ولكن لا بد من إثارة القضية وطرحها على الناس!

كاتب من سورية
جريدة أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى