هل أصبحت الشيعية السياسية طرفاً برّانياً في الكيان اللبناني ؟
غسان المفلح
معذرة على تدخلنا في هذا الملف الشائك والمعقد لبنانيا وإقليميا، ولكن عنوان الملف لفت نظري، ووضعته عنوانا لهذا التدخل لكنه عنوان “غير بريء” ينبئ وكأن الطائفة الشيعية الكريمة هيكل برّاني على الكيان اللبناني؟ وهذا أمر يوضح حقيقة أخرى يتضمنها العنوان، وهي أن صاحبه لا يعترف بلبنان أصلا، ومع ذلك سنتجاوز هاتين الملاحظتين مبدئيا، لنقل إن لبنان قام بمسيحييه ومن أجلهم أيضا، ولم يشعر سنته بالاغتراب بحكم محيطهم العربي السني، لم يشعروا بأنهم انفصلوا عن محيطهم العربي عبر سوريا الحاضن العروبي حتى عام 1974، حيث بدأت سوريا تعد العدة لكي تكون طرفا لبنانيا داخليا، ويعود هذا الأمر للرئيس الراحل حافظ الأسد، وللقوى السياسية اللبنانية آنذاك، وخاصة المسيحية منها.
وأيضا لهذا البحث التاريخي إشكالياته المتعددة، والتي تجبرنا على الدخول على خط الممارسة السياسية السورية لبنانيا، وهذا أمر تطرقت إلى جانب منه نجاة شرف الدين في مشاركتها في هذا الملف. نعم تأسيس الكيان اللبناني كانت الطائفة الشيعية فيه، حالة برّانية من جهة وجوّانية من جهة أخرى، برّانية لأنها كانت خارج الفعل السياسي في لحظة تكوين لبنان، ولم يكن لها من التعبيرات ذات البعد الطائفي، بل نخبها كانت منخرطة في الأحزاب الوطنية اللبنانية. برانية لأنه لم يكن لها غطاء دولتي لا إقليميا ولا دوليا. برّانية لأنها كانت أفقر الطوائف، فأتت ملحقة بالكيان اللبناني، وكأنها كمّالة عدد. يد عاملة لإقطاع لبناني عابر للطوائف، وهذه حقيقة. ما كان يمكن إلحاق مسيحييي الجنوب بالكيان اللبناني، دون إلحاق القرى الشيعية. الإقطاع الشيعي ومن ضمنه عائلة المرحوم كامل الأسعد وغيرها من العائلات الإقطاعية الشيعية، كانت تريد الحماية كما يقال، من إقطاع مسيحي مدعوم فرنسيا وغربيا، ومن إقطاع سني مدعوم إقليميا أقصد عربيا، فقبلت بما منح لها، وبغض النظر عن التعداد السكاني، منذ اللحظة التأسيسية للبنان، كان أهم بند فيها، أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا وبصلاحيات استثنائية، بغض النظر مورست أم لا؟
وبقيت الحال بين أخذ ورد لبنانيا، وتحديدا بين فاعليات الجانب السني وفاعليات الجانب المسيحيي متأثرة بعوامل التفجر الإقليمي العربي – الإسرائيلي. دون أن ننسى دخول مصر الناصرية على الخط اللبناني، والمرحلة الشمعونية 1958 والذي أوضح انه لم يكن للشيعة السياسية دور يذكر لا في قيام تلك المحطة، ولا في نتائجها بعد إنهاء تلك الحرب الداخلية المحتدمة سياسيا، والتي اقتضت تدخلا غربيا مكثفا وعربيا عبرت عنه مصر أكثر آنذاك.
جاء السيد الإمام موسى الصدر وأسس حركة المحرومين، التي كانت أول حركة ذات معنى يمكن أن نطلق عليها قيام الشيعية السياسية في لبنان. وحاولت هذه الحركة أن تتحرك لتحسين الوضع الشيعي وإعادة هيكلة الكيان اللبناني بما يتناسب مع طموحاتها، ووزن الطائفة الشيعية في لبنان. وكان العلاّمة الراحل حريصا على استقلالية التمثيل السياسي للشيعة، رغم أنه كان يحاول بناء علاقة جيدة مع سوريا. في المقابل كانت علاقته جيدة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وشكل في ما شكله غطاء لبنانيا – شيعيا لتواجد المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني.
لكن رغم أن حياته انتهت بلغز لم تعرف نتائجه حتى اللحظة ولا من هو الجاني، إلا أنه يسجل للرجل، أنه كان حريصا على استقلالية حركته السياسية عن التدخلات الدولتية سواء كانت إقليمية أم دولية. كذلك يجب ألا ننسى أنه لم يكن على علاقة جيدة بالإمام الخميني، ولم يكن مقتنعا بنظريته حول ولاية الفقيه، لذلك ساهم بمأسسة المرجعية الشيعية، مأسسة تبعد عنها غطرسة مثل تلك النظريات السياسية، ذات الشبهة الاستبدادية.
صحيح أن الأمام الصدر كان مع الدخول السوري إلى لبنان، ولكنه كان مدركا أن هذا الدخول أمر لا مفر منه من جهة، ومن جهة أخرى حاول أن تكون سوريا سندا للشيعية السياسية التي تشكلت على يديه، حيث لم تكن الثورة الإيرانية قد حدثت بعد. واستفادت سوريا من هذا الأمر، ووصلت أيضا قوتها إلى صيدا، لكن السوريين كانت عينهم بداية على المسيحيين، الذين قلبوا لها ظهر المِجَنّ بعد أن حمتهم القوات السورية من قوات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
بعد هذا الحدث بدأ الحديث يرتفع عن تغيير في النظام السياسي اللبناني، فيكون للشيعة حصة أكبر في هذا النظام. في الواقع يُسجل للإمام الصدر تأسيس هذه المطالبة شيعيا بتغيير النظام اللبناني، وبدأت سوريا تعد العدة لجذب الطائفة الشيعية معتمدة على العديد من العوامل. لكن هنالك أمر ربما تكشف عنه الإيام، فالإمام الصدر، لم يكن سوريا في هذا المنحى أكثر مما كان شيعيا لبنانيا – رغم أنه من أصول ليست لبنانية.
ونجحت الثورة الإيرانية 1979، ومنذ البداية كان من الواضح أنه لا المجلس الشيعي الأعلى ولا حركة المحرومين (امل) بوارد الانخراط مع إيران رغم غياب الإمام الصدر 1978. وإيران لم تكن جاهزة بعد لكي تتدخل إقليميا في لبنان، وعندما دخلت إيران على الخط كانت “حركة أمل” في صراع مع ما تبقى في لبنان من مقاومة فلسطينية، وبدعم سوريا، وبانفراد مؤسسي عما سمي الحركة الوطنية اللبنانية. وتأسس “حزب الله” بمساعدة إيرانية – سورية.
وبدأت الشيعية السياسية تأخذ منحى جديدا إقليميا ولبنانيا.
وما جرى لا حقا، يجعلنا نعود لنقول إن الشيعية السياسية المتمثلة الآن في “حزب الله” وملحقه “حركة أمل”، لأنها أصبحت ملحقا سياسيا بـ”حزب الله” أكثر مما هي فاعلية حقيقية، عادت هذه الشيعية السياسية عبر سلاحها – المقاوم وغير المقاوم – لتبقي الشيعية طرفا برانيا على الكيان اللبناني لأنها تريد فرض شروط أطراف خارجية على مجمل الكيان اللبناني. قوية عسكريا، هذا صحيح، ومدعومة إقليميا أيضا هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضا أنها أعادت للشيعية السياسية برانيتها عن الكيان اللبناني، رغم قدرتها على تفجيره في أي لحظة. الآخرون بالتأكيد لهم امتداداتهم الإقليمية والدولية، ولكنهم كانوا منذ البداية اكثر لبنانية، لأنهم هم الأكثر استفادة من اللحظة التأسيسية للكيان اللبناني.
الشيعية السياسية الآن أقل استقلالية تجاه القوى الإقليمية الداعمة لها رغم وحدة قرارها، وهذا هو الخطير في الموضوع.
صحيح أن أهم تيار يحسب على الطائفة السنية أيضا يحمل السمات نفسها، ولكنه أكثر استقلالية ولديه فاعليات أخرى داخل الطائفة السنية ولها قوة على الأرض، وكذا الحال بالنسبة للقوى المسيحية. لهذا قلنا إن الشيعية السياسية الآن تحتاج إلى كثير من الإجابات عن أسئلة، حول طبيعة العلاقات مع إيران ومع سوريا، حيث الخطر أنه كلما تتقدم الأمور كلما تتحول الشيعية السياسية طرفاً أكثر برانية في الكيان اللبناني.
لم أجد ما يمكنني أن أختم فيه هذه المقالة سوى أنني في هذا السياق لم أستطع الحديث عن موضوعة الدولة اللبنانية والمؤسسات والمواطنة ولم أجد تعبيرات سياسية عابرة للطوائف يمكن أن يستند عليها المرء في قراءته للوحة اللبنانية، وهذا هو المأزق!
(جنيف)
النهار