صفحات العالمما يحدث في لبنان

قبل أن نصبح أكثرية صامتة

سليمان تقي الدين
أفلت الخطاب السياسي من عقاله التسووي. قيل إن أحد الفرقاء أسقط هدنة «الدوحة». هذه تظاهرات لمشكلة أعمق. اهترأت شرعية الدولية، ثم اهترأت هيبتها. منذ سنوات ونحن نسمع مصطلحات «ثورة» و«انتفاضة» و«انقلاب». جميعها أوصاف لاستخدام القوة والعنف. فرسان هذه الخضات والاضطرابات لا يشبهون أبداً ما يتشبّهون به. الانقلاب الحقيقي يصح في وصف التناقض بين الشعارات والممارسة. من مطلب السيادة صرنا في الوصاية الدولية، ومن مطلب الحرية صرنا في نظام الاستبداد، ومن مطلب العدالة غرقنا في الظلم.
لا شيء تغيّر نحو الأفضل. إذاً هذه ليست ثورة بل ردة. ردة على تضحيات اللبنانيين ومكتسباتهم في كل ما حمله ميثاقهم الوطني من تفاهمات على هوية وطنهم ودوره وموقعه والإصلاحات الضرورية سبيلاً لبناء الدولة والوحدة الوطنية. الانقلاب على الميثاق، ثم الانقلاب على الانقلاب هو مسار لاستئناف الحرب الأهلية بأشكال مختلفة. لنتوقف عن التشخيص عند هذا الحد ونسأل فخامة رئيس الجمهورية قبل أن نصبح «أكثرية صامتة» كما كنا نردد في زمن الحرب: ألا يستحق هذا المشهد السوريالي من الفوضى رسالة إلى الأمة؟! ألم يحن الوقت للقاضي الأول الساهر على الدستور وهو يرى مأساة العدالة التي صارت مهزلة، أن يتخذ تدبيراً احترازياً أو احتياطياً ويدعو إلى إزاحة كل الوجوه الصفراء من «مناصبها» ومن «الشاشات» أيضاً؟! أليس ما يجري الآن سقوط كامل لمرجعية الدولة حين تتحول كل مواقع المسؤولية إلى وظائف تنطق بمذهبيتها خارج منطق القانون؟! أليس مشهد مطار بيروت أمس واليوم بالأمن لا بالسياسة مشهداً مرعباً لكل مواطن لأن المواكب تدخل وتخرج بلا هويات تعرّف عن صفتها!؟ ألا يستدعي الأمر اجتماعاً للحكومة وحضوراً لرئيسها الجوّال، يستنفر ما بقي من إحساس بالمسؤولية عن بلد دخل في دائرة النار!؟
لا يا سادة.. يا كل من يسأل عن الصلاحيات الوطنية والمسؤولية لا تستأذن أحداً. عفاريت الفتنة التي ترقص على قبور الشهداء هنا وهنك، وصيحات الانتقام الجاهلي القبلي هنا وهناك، ولغة الكيد السياسي هنا وهناك، ليست قدراً مقدراً لهذا البلد إذا ما انبرى رجال الدولة على ندرتهم، والناس على شح إمكاناتهم ووسائلهم ليقولوا يجب إعادة الأمور إلى نصابها. نصاب الأمور في البلد رفع الظلم، مكافحة الفساد، تطهير صورة العدالة، مقاومة نهج الهيمنة، ووقف اللعب على حبال السياسات الدولية. لا ينشأ فريق ثالث في البلد على مجموعة من نواب يأتون كما أتى غيرهم من أتباع الأقلية المتحكّمة، بل على قيادة الجمهور الوطني الواسع الذي لا يجد نفسه اليوم طرفاً في الصراع على سلطة لم يعد فيها قواعد وركائز لكي تعبّر عن إرادة الشعب. أين «حصة الرئيس» في التركيبة الحكومية من ترجيح خيارات الاستقرار، وأين هيئة الحوار الوطني التي صارت حكومة ظل لا ظل لها في بلد انقطع حبل الحوار فيه ولم تجتمع صاحبة الجلالة!
لا يا سادة.. ليس بينكم من يملك مشروعاً للدولة ولو كان صاحب حق في هذه القضية أو تلك. أكثرية اللبنانيين ترغب أن تردعكم عن هذه الأساليب والممارسات وعن هذه السياسات الهوجاء النابعة من أنانيات ومصالح فئوية. تقول لكم إن العنف يستسقي العنف، والقوة تستدعي القوة، والتسلّط والامتيازات المغلّفة بشرعية أم بغير شرعية لا تدوم، والفتنة المذهبية سلاح أقوى فتكاً من الصواريخ. لم يقدّم لنا أحد منكم صورة للبنان يحلم به أي مواطن عادي. أنتم «أقلية ساحقة» فهل نبقى «أكثرية صامتة»!؟
سمعنا أن الحكومة ستجتمع لمعالجة الوضع. لكن أطراف الحكومة هم أنفسهم أشعلوا الخطاب الفتنوي وتمترسوا عند مواقف لا علاقة لها بمنطق الدولة. عن أي دولة يدافع البعض وهي مشلولة يسندها عكاز سوري من هنا وسعودي من هناك. أين المؤسسات التي صارت خنادق مذهبية وفقد رموزها الحد الأدنى من الصفات الوطنية؟ المسؤولون عن الأمن يطوفون وسط غابة من سلاح الميليشيات، والمسؤولون عن العدالة يتلاعبون بها ويستخدمونها على أهوائهم. لن يتوقف هذا الانهيار إلا بقرارات جدية لتصحيح مسار ما بقي من سلطة ومؤسسات.
من غير المعقول أن نتحدث عن الجرائم والارتكابات الخطيرة في هذا البلد من دون أن نعرف هوية هؤلاء ونحاسبهم بينما نعترف بأنهم تسبّبوا بالإساءة لعلاقات لبنان واللبنانيين وضلّلوا العدالة وخرّبوا المؤسسات. وكان من بين ضحاياهم عشرات الشهداء الذين سقطوا في حمأة تلك الأزمة الوطنية. ولماذا تمتد الحماية السياسية المذهبية على هذا وذاك من المسؤولين طالما نتحدث بمنطق الدولة. فإذا كانت مواقع الدولة ورموز الإدارة والمؤسسات وأشخاص الشأن العام هي خارج مراقبة اللبنانيين فلن يرضى أحد بهذه القسمة لسلطات الدولة ما يحرّضه على أن يقيم سلطته ويقوّيها بوجه جميع المؤسسات. على أي حال صارت أزمة النظام السياسي أكبر من قدرة الأطراف على ضبطها حتى في مسائل تتعلق بهذا الجهاز الأمني أو هذا الإنفاق أو هذا المرفق وهذه الوظيفة.
وهؤلاء المدافعون عن طوائفهم اليوم وكأنها خارج نسيج الشعب اللبناني وفوق إرادته هم في شبهة التفريط بمصالح جمهورهم ومصالح البلد كله. هذه جرائم بعرف القانون إذا كان القانون ما نحتكم إليه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى