ما يحدث في لبنان

التهدئة: عندما لا يقاوم المقاوم ولا يفاوض المفاوض

null
حسام عيتاني
الوجه الايجابي للتهدئة التي دخلت حيز التنفيذ امس بين اسرائيل وحركة «حماس» في غزة انها حجبت دماء المدنيين الفلسطينيين، ولو الى حين واعادت جزءا ولو يسيرا من مناخ الحياة الطبيعية الى القطاع.
بيد ان هذه الايجابية تخفي وراءها جملة من السلبيات تداني حد الكارثة التي وصلت اليها القضية الفلسطينية ككل. لقد جاءت التهدئة بعد عام من سيطرة «حماس» على غزة في معركة حفرت خندقا لم يُردم بعد في الوحدة الوطنية الفلسطينية. وتسببت سيطرة الحركة في معاناة انسانية هائلة للسكان الذين دفعوا ثمن المغامرة التي قادتهم «حماس» اليها من دون تبصر ولا دراية بعواقب سلوكها. هذا ناهيك عن مئات القتلى الذين سقطوا بفعل الغارات والهجمات الاسرائيلية والاصرار على اطلاق صواريخ لا تنفع سوى في تبرير الاعتداءات الاسرائيلية.
المستوى الاهم من السلبيات يتلخص في ان «حماس» باستيلائها على القطاع وارتطامها بالجدار الصلب للواقع المحيط به وبها، ساهمت في انهاء مسألتين أساسيتين في المجال الذي تتحرك فيه القضية الفلسطينية منذ عقود: الاولى انها قضت على فكرة التزاوج بين العمل المسلح والعمل السياسي. فباختيارها «الجهاد» أداة وحيدة في الصراع، كشفت «حماس» ومن دون أي لبس، حدود العنف الذي يمكن ان يوجهه الفلسطينيون الى اسرائيل وتركت هذه الاخيرة حرة اليدين في اللجوء الى الحد الذي يتناسب مع ضروراتها السياسية الداخلية والاقليمية من العنف ضد الفلسطينيين. المسألة الثانية تقوم على ان «حماس» باعتمادها الكبير على المساعدات والدعم من الخارج، اعادت ربط القضية الفلسطينية بالوضع الاقليمي والدولي، وهو ما يشكل انتكاسة ضخمة لكل الجهود التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية على الاقل منذ ان تولت «فتح» قيادتها بعد تنحي احمد الشقيري، او ما كان يسمى «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» الذي يبدو انه تعرض الى ضربات قاسية.
والتهدئة بهذا المعنى، تمثل نهاية للمغامرة التي بدأتها «حماس»، وانتهت الى غير نتيجة باستثناء تعرية الحركة من ذريعة المقاومة، مع ابداء الكثير من الحذر والتحفظ على الاسلوب الذي اتبع منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000 وادى الى عسكرة الانتفاضة وتعريضها بالتالي الى الهزيمة.
على الجانب المقابل من اللوحة الفلسطينية، لا تشكل التهدئة الغزاوية فرصة تذكر لتحسين الموقف التفاوضي لرئيس السلطة الوطنية محمود عباس. فهو يدرك، قبل غيره، ان الاسرائيليين المنخرطين في اوسع عملية استيطان في القدس الشرقية منذ اعوام، ليسوا في وارد العمل على انجاح، او حتى تحريك، مفاوضات الوضع النهائي.
وليس لدى عباس وحكومته الادوات اللازمة لدفع المفاوض الاسرائيلي الى النظر بجدية في المطالب الفلسطينية. لقد وصل الخيار الاستراتيجي بالسلام مع اسرائيل الى مأزقه بعدما فقد الفلسطينيون وحدتهم الوطنية والقدرة على التأثير على الداخل الاسرائيلي امنيا وسياسيا وافراط قيادتهم الرسمية في التعويل على الضغط الدولي على اسرائيل اعتقادا منها ان الاختلال الراهن في موازين القوى لمصلحة اسرائيل انما يمكن تعويضه بكسب التأييد الدولي للموقف الفلسطيني، من دون الأخذ في الاعتبار ان المصالح الاميركية والغربية عموما، تزداد، مع مرور الاعوام تماهيا مع المصالح الاسرائيلية فيما تبهت المطامح الوطنية الفلسطينية بسبب انتفاء نقاط التقاطع في المصالح مع الفلسطينيين (او في المخاوف من بأسهم). هذا من دون ذكر الموقع المتميز الذي تحتله فكرة الدولة اليهودية في كامل المنظومة السياسية والايديولوجية الغربية منذ الحرب العالمية الثانية او، على الاقل، منذ حرب العام 1967 حيث ظهرت الفوائد الخيالية التي يمكن ان يحصل الغرب عليها من اعتماده على اسرائيل.
يتابع العقل السياسي الفلسطيني اهمال الجوانب العملية، ليتبنى خطابا مزدوجا يشدد الجزء الاول منه على ان المفاوضات حتى لو كانت تدور في ظل انعدام الحد الادنى من توازن القوى، هي السبيل الوحيد لاستعادة ما يمكن استعادته من الحقوق الفلسطينية، فيما يرى الجزء الثاني سبيل العنف والجهاد والعمليات الانتحارية هو ما سيقود الى تحرير فلسطين من النهر الى البحر.
غير ان ما يكشفه الفصام الفلسطيني هذا لا يزيد عن كونه صورة يقف فيها المقاوم عاجزا عن ممارسة مقاومة لا تملك القدرة على صياغة برنامج سياسي مفهوم، والمفاوض يراوح مكانه في دائرة مفرغة من الجلسات واللقاءات مع الاسرائيليين والاميركيين والمبعوثين الاوروبيين، لا يسفر عنها شيء ملموس ولا حتى من نوع الرشوة التي يمنحها الطرف القوي لتعزيز الوضع الداخلي لمحاوره الضعيف والمهزوم.
هل يمكن الحديث، بعد هذا، عن أمل في ان يدفع وقف العنف في غزة الى اعادة نظر في حالة الانقسام الفلسطيني والاثمان الباهظة التي يدفعها المواطنون الفلسطينيون بسببها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى