الحرية بين الديني والسياسي
غسان المفلح
تعددت تعاريف مفهوم الحرية الدينية، لكن هنالك شبه اتفاق على أن الحرية الدينية تمثل ‘الإحساس بالانعتاق في اعتناق أي من المعتقدات والأديان من دون جبر أو إكراه’. أما إسلاميا فيعتبر ‘أن الله أكرم الإنسان بهذه الحرية، من خلال هذه الحقوق منحه حرية الاعتقاد حيث قال الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) سورة البقرة الآية 256. سورة الكهف الآية : 29.
إن الإقرار بالحريات الثقافية – والدينية منها- إنما هو استجابة وجودية وتاريخية إنسانية يفرضها الواقع المتعدد لشعوب العالم. ولهذا فمن الطبيعي أن يكون لهذا الغنى الثقافي الحق في أن يمارس حريته في اختيار دينه أو لغته أو تراثه من دون جبر أو إكراه.
ليس في تاريخ الإسلام وحسب، بل في تاريخ معظم الأديان، هنالك فارق بين التعاليم والممارسة في الواقع، فالإسلام مثله مثل الأديان الأخرى، أقصى وهمش اتباع ديانات أخرى، خاصة في لحظة صعوده، أي ما عرف بتاريخ الفتوحات الإسلامية، حرية المعتقد لم تكن مقدسة في تاريخ الإسلام ولا في تاريخ الأديان عموما، لايهم كثيرا هنا الحديث عن درجة التسامح النسبي بين دين وآخر أو بين فترة زمنية وأخرى، الأديان عموما ما انتشرت في العالم لكونها تعترف بحرية المعتقد الديني، السبب: إنه التاريخ بكل حمولاته، ولكون الدين جزءا من المكون الثقافي لأي إنسان أو شعب، فهذا الأمر أيضا لا يقتصر على شعب من الشعوب. العثمانيون وخلفاؤهم الاتراك لاحقا حاولوا فرض اللغة التركية على بعض بلاد العرب، أثناء احتلالهم لها، واللغة بما هي الوعاء الثقافي لأي شعب، أيضا الاستعمار الفرنسي في الجزائر حاول فرنسة كل الشعب الجزائري، وما فعلته الجيوش الأوروبية في السكان الأصليين في كثير من البلاد..
الكرد في سورية ممنوع عليهم حتى اللحظة التعلم بلغتهم، لكن هذا المنع ليس دينيا بل هو منع سياسي بامتياز.
هذا الأمر من الاقصاء الديني أيضا لم يبق كما هو لدى كل الأديان، بعدما استتب الأمر لها في مناطقها، لهذا بقي فيت ‘دار الإسلام’ كما يقال، مكونات دينية وثقافية أخرى تمارس حريتها الدينية.
اللافت في الأمر أن الإسلام منذ لحظة مجيئه وهو يتداول هذه الآية التي تحولت إلى شعار’لا إكراه في الدين’ بعكس الديانات الأخرى، أما الممارسة العملية فلها شأن آخر.
منذ مجيء الاستعمار الأوروبي إلى المنطقة، لم تعد المنطقة تشهد حروبا على أساس ديني، ربما شهدت بعض الحروب على أساس طائفي محدود أو اثني، لتغطية السياسة، وكانت الأديان الأخرى في منأى عن الإجبار لتغيير اتباعها لدينهم، ولم يتعرضوا للتهجير، لكن الإقصاء عن الحياة العامة بقي معمولا به، تماما كتاريخ اليهود في أوروبا، هل شهدت أوروبا حتى اللحظة مجيء ملك أو رئيس لدولة يهودي، ولايزال، فحتى ساركوزي الذي يقال انه من أصول يهودية، لكنه الآن مسيحي. أمريكا رغم قوة اللوبيات اليهودية ومؤسساتها هناك لم تستطع انتخاب رئيس يهودي، حتى أنه لا يفكر أي يهودي بالترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، أو أية دولة اوروبية. حتى انتخاب أمريكا لرئيس من أصول أفريقية هو نتيجة لتاريخ من التمييز العنصري، لكنه مسيحي.
والإقصاء الذي نتحدث عنه هو الذي يتعرض له الإنسان بسبب انتمائه الثقافي- الديني يمكن إجماله في ‘عدم الاعتراف بأنماط الحياة الدينية وخصوصياتها المتعددة، والحرمان الذي يتعرض له اتباعها من مبدأ تكافؤ الفرص قانونيا وعمليا بسبب هويتهم الدينية’.
الدستور في أمريكا وأوروبا لا يمنع مجيء أي حاكم مهما كان دينه أو طائفته إلى الحكم بالانتخاب، لكن بشكل عملي أزعم أن الثقافة التي لازالت سائدة تمنع مجيء حاكم يعتنق اليهودية أو الإسلام، أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية تصرح ‘بان ألمانيا لديها قيم لا تتراجع عنها قيم يهودية- مسيحية’، ولكن هل تنتخب ألمانيا الآن إنسانا يهوديا أو مسلما لمنصب مستشار ألمانيا، رغم أن دستورها لا يمنع ذلك؟ هذا ما يمكننا تسميته بالاقصاء بالمعنى العملي، لا يوجد حزب سياسي في ألمانيا يغامر في ترشيح يهودي أو مسلم لمنصب مستشار ألمانيا، ولا حتى في بريطانيا التي تعتبر المؤسس الفعلي لدولة إسرائيل، ربما ألمانيا تنتخب لاحقا مستشارا يهوديا، تقليدا لأمريكا بحكم أن لها ماضيا أسود مع يهودها ويهود أوروبا عموما.
هذا الاقصاء العملي، لا يمنع اتباع الأديان الأخرى من ممارستهم لحريتهم الدينية، كاليهود والمسلمين.
لكنه حتى اللحظة عدم الاقصاء العملي محتجز في راهن ألمانيا، رغم تشديدنا على أن الدستور الألماني لا يمنع ولا يقصي، ورغم وجود الحق في التمثيل السياسي.
أما في منطقتنا الشرق أوسطية، فالسياسة الراهنة خربت كل شيء، ولم يعد الناس يميزون بين الحرية الدينية والحرية السياسية، مرة اخرى لا نريد العودة للتاريخ في هذه النقطة، لكن يمكننا القول انه منذ أكثر من قرن من الزمن، تاريخ المنطقة لم يشهد حروبا دينية تهجيرية اقتلاعية، وبقيت الأديان غير الإسلامية تمارس حريتها الدينية، كذلك الأقليات الطائفية الإسلامية، وحتى في تعاليمها المختصة بالأحوال الشخصية، ولكن لازال عماد هذا الراهن التاريخي هو غياب الحرية السياسية، وغيابها عن الجميع وإن بتفاوت نظري، كأن نقول: الدستور ينص على أن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلما، ولكن هذا الرئيس لا يتغير ولا يسمح بالانتخاب، ولا يعترف بمفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون، لأن سلطته بنيت على هذا الأساس، فيصبح التفاوت نظريا فقط، والدستور يكون على مقاسه، وهذا الغياب للحرية السياسة لا يعني أن دساتير هذه البلدان تسمح بالحرية بمفهوم المواطنة على الطريقة الألمانية التي تحدثنا عنها، وهنا نأتي إلى خلاصة ما نريد الوصول إليه:
الحرية الدينية تقتضي تمثيلا روحيا ودينيا، وهذا متوفر، ولكن الحرية السياسية أيضا تقضي تمثيلا سياسيا، وهذا هو الممنوع في الكثير من بلداننا، لهذا يجب عدم الخلط بين الحرية الدينية وتمثيلها الروحي، وبين الحرية السياسية وتمثيلها السياسي.
الأساس هو الفرق بين التمثيل الديني والتمثيل السياسي: فهل يمكن للمكون الديني أو الطائفي- أي مكون ديني أو طائفي- في العصر الراهن أن يكون لديه مكون سياسي تمثيلي واحد، بمحض إرادته؟ يمكن أن تكون له مؤسسة تمثيلة دينية، ولكن من الصعب إن لم نقل من المستحيل أن تجد مكونا دينيا له تمثيل سياسي واحد معبر عنه لكل اتباعه – فلا الإسلام السني له تمثيل سياسي واحد، ولا الشيعي ولا المسيحي ولا الدرزي مثلا في لبنان له تمثيل سياسي واحد- في ظل مجتمع سياسي يتمتع بالحرية السياسية.
هنا لا بد لنا من النظر للموضوع من زواية أخرى عندما تقع أعيننا على مثل هذه الحالة، يحتج كثير من مثقفين ‘علمانين’ ينحدرون من الطوائف المسيحية في العالم العربي، على بعض الدساتير التي تحدد دين رئيس الدولة بالإسلام، ولكن لم نشاهد لهم مثل هذا الاحتجاج على دين رئيس الدولة اللبنانية التي يجب أن يكون مسيحيا مارونيا؟ ولتأكيد ما نرمي إليه، أن البطريركية المارونية في بكركي يعتبرها كل الموارنة ممثلة دينية لهم، ومنهم من يحاول إعطاءها دورا سياسيا في هذا التمثيل، ولكن قلما وجدنا الموارنة لهم مؤسسة تمثيلة سياسية واحدة، إلا عندما حاول المرحوم الشيخ بشير الجميل أن يفرض هذا الأمر بالقوة، وتصبح القوات اللبنانية الممثل الشرعي السياسي والوحيد للموارنة، ولكنه لم يستطع.
المحصلة المكون الديني تمثيله الروحي شبه ثابت، هكذا التاريخ ولكن تمثيله السياسي هو التاريخ المتحرك والمتنوع وفقا لمصالح البشر وأهوائها وأيديولوجياتها وما تمتلكه من قوى تاريخية أيضا.
لهذا تعتبر دولة المواطنة والديمقراطية هي مفتاح الحل للحريات الدينية والسياسية، وليست الحل لوحدها. الديمقراطية تنفتح على عوالم التمثيلات السياسية، وما تعنيه من حريات وتعبير عن هموم الناس وأحلامهم وطموحاتهم، وفيها يتعلم الناس التعايش مع حرياتهم وحريات الآخرين، ومن دونها ستبقى مجتمعاتنا تدور في شبه حلقة مفرغة من الحداثة المنضدة لدينا كشعوب منطقة مدولنة.
كاتب سوري
القدس العربي
نعم إن الديمقراطية الحقيقية الهادئة الشفافة هي داءنا ودواءنا – ولكن بشرط أن كل من لايحالفه الحظ بالدخول إلى المجلس — العتيد — عليه أن يهدأ ويتحلى بالصبر ويشرح فكره وإيديولوجيته للناس بالهدوء والحسنى حتى يجد له مقعداً فى المجلس التالي – لا أن يكون شوكة في خاصرة الدولة ويضع العصي في دواليبها ليثبت للناس فشلها وأنه هو وحده الفهمان والمنقذ – فهكذا هي الديمقراطية عند الشعوب المحترمة – أنا مسلم ولاأقبل غير الإسلام منهجاً – ولكن أتمسك بإسلامي في حياتي الخاصة بكل قوتي واستطاعتي لقوله تعالى : فاتقوا الله ماستطعتم – أما في الحياة العامة فيجب أن أعلم إن معي شركاء في الوطن ويجب التعامل معهم على قاعدة : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر – وكذلك : لكم دينكم ولي دين — ولكن إذا استطعت أن أستحوذ على غالبية المجلس فأنا سأحكم بفكري الإسلامي وعلى الناس القبول كما فرضت علينا الإشتراكية مثلاً – فإن كل فكرة هي دين فكل من الإشتراكية والليبرالية والرأسمالية واليسارية والشيوعية كلها أديان فلماذا إذا نجح أي منهم في الإنتخابات يحق لهم الحكم بفكرهم ولايحق ذلك للإسلاميين – هنا مربط الفرس – الإسلام فكرة وتعاليم وأنظمة إذا نجح أصحابها في الإنتخابات فعلى الباقي القبول كما هو الحال لو نجح أصحاب الأفكار الأخرى – بهذه الروح تكون الديمقراطية هي داؤنا ودواؤنا -فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بها ويطالب قريش أن تسمح له بحرية الكلام والدعوة وأن تخلّي بينه وبين قبائل العرب ولكن دكتاتورية وجبروت قريش أبت عليه ذلك حتى نصره الله عليها – وعلى كل صاحب فكر أن يبرهن للناس صلاحية فكره بالحسنى – كما قال تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن – وعلى الله قصد السبيل وإلى سوريا الحبيبة وإلى سهول حوران الخضراء تحياتي وأشواقي وأشجاني – أبكي على حوران كلما بدالي — نجمٍ سرى من مشرقه للغروب