صفحات الحوار

سلامة كيلة في حوار مفتوح حول: الماركسية والاشتراكية والواقع العربي

null
أجرى الحوار : مازن لطيف علي
1. نلاحظ أن تطبيقات الماركسية (الدول الاشتراكية) قد انهارت وفشلت كتجربة إنسانية ونمط للحكم.. ما مدى تأثير ذلك على البعد النظري للماركسية؟
أولاً يمكن القول بأن هذا الحكم ردده قطاع كبير من الشيوعيين والماركسيين بعد انهيار الاشتراكية، وأسس هذا الحكم للقول بفشل الماركسية في الغالب، أو أفضى إلى رد فعل معاكس يفصل بين النظرية والممارسة، وبالتالي حاول أن “ينقذ” الماركسية من “النتيجة المفجعة” التي طالت التجربة التي تسمت باسمها. وأظن بان هذه المواقف لم تبن على فهم للماركسية من جهة وللتجربة من جهة أخرى.
لقد انهارت الاشتراكية وهذا توصيف لما حصل وليس اكتشافاً عظيماً (ونحن في الغالب نخلط بين التوصيف والاستنتاج)، لكن هل فشلت التجربة؟ هذا ما يجري التعامل بخفة معه، حيث يصبح التوصيف هو المقدمة للوصول إلى نتيجة هي الفشل. إن النظرة التطورية التي حكمت، ولازالت، الكثير من الشيوعيين تجعل الانهيار فشلاً، حيث انقطعت المسيرة إلى الأمام. البعض الغالب يقارن التجربة بالمجردات النظرية حول الاشتراكية فيتوصل إلى أنها ليست اشتراكية (رغم أنه كان يخوّن كل من كان ينقد بعض أخطائها)، والبعض يتذكر كل “المساوئ” التي كانت تقال ويتهم أصحابها بالتروتسكية أو التحريفية أو حتى الإمبريالية (وكنت أنا من هؤلاء الذين كانوا يتهمون بكل ذلك)، وينسى كل المديح الذي كان يكيله للتجربة وكل الآمال التي كان يغدقها عليها.
التجربة فشلت، لهذا يجب أن نبحث في الماركسية المسائل الخاطئة التي أفضت إلى هذا الفشل. ومن هذا الباب الذي قال به رهط ممن أصبح ليبرالياً تسرب القول بفشل الماركسية، أو أن الزمن قد تجاوزها. وكل الذين أصدروا هذه الأحكام لم يقرؤوا الماركسية ولم يعرفوا الزمن الذي يقولون بأنه تجاوزها لأنهم لا يستطيعون فهم الواقع.
إن الحكم على التجربة بأنها فشلت يشير إلى سوء فهم مريع للواقع العالمي بداية القرن العشرين، وللواقع الروسي آنئذ. وهذا جزء من مشكلات التجربة ذاتها التي خضعت لسياسات ربما كانت لا تعبّر عن المشكلات الحقيقية. لقد حققت التجربة الانتقال إلى الاشتراكية (بمعنى إلغاء الملكية الخاصة)، وطورت الاقتصاد، وساد نظام دكتاتوري، ثم انهارت التجربة. كل هذه العملية صحيحة في التوصيف، لكن ألم تحقق شيئاً؟ لاشك في أن الاشتراكية قد انتهت، وعادت الهيمنة الرأسمالية بكل المعاني، وبالتالي فنحن إزاء انكفاءة إلى الوراء. لكن ألا نلاحظ بأن روسيا الحالية هي ليست روسيا القديمة، وأن الاشتراكية المنهارة تركت بلداً أصبح صناعياً بكل معنى الكلمة، وحديثاً بكل المعاني؟ أليست هذه التجربة هي الوحيدة التي حققت انتقال مجتمعات من القرون الوسطى إلى الدولة الصناعية الحديثة؟ بمعنى أن الاشتراكية قد حققت ما تمنع الرأسمالية تحقيقه، ألا وهو بناء الصناعة وتحقيق الحداثة، وبالتالي التحوّل إلى دولة مدنية حديثة. أليست هذه نقلة هامة إلى الأمام؟ ولقد تحققت في ظل المنع الإمبريالي (سوى بعض الاستثناءات التي أتت في سياق سياسي).
ما أود قوله بالتحديد هو أن التاريخ لا يسير وفق مخطط نرسمه نحن له، الإرادة والوعي يطرحان مهمات، وربما يطرحان أحلاماً جميلة في كثير من الأحيان، لكن كل ذلك سوف يطوِّر في الواقع ما يحتمله الواقع ذاته وليس ما تحمله الأحلام والرغبات. هذه هي صيرورة التاريخ ومكره. وبالتالي لا أستطيع أن أقول بأن التجربة فشلت على الإطلاق، يمكن القول بأن الطموح نحو تطور الاشتراكية قد فشل لهذا انهارت التجربة الاشتراكية بالتحديد، أي انهار الطابع الاشتراكي في التجربة، أما الواقع الجديد فهو ينتج تناقضاته الجديدة، لكنه بات “عصرياً”، أي صناعياً وحداثياً وليس ما نلمس استمراره في كل الأمم التي لم تصبح اشتراكية. وسوف نلمس بأن هذا الواقع الجديد سوف يؤسس لتناقضات جديدة على الصعيد العالمي، ويعمّق من أزمة الرأسمالية، رغم أن الرأسمالية هي التي انتصرت في كل البلدان التي كانت اشتراكية.
هل نتألم لانهيار الاشتراكية؟ بالتأكيد، لكن يجب أن ندرس الظروف الواقعية التي أنتجتها الاشتراكية وأفضت إلى الانهيار. وسنجد بان الانهيار كان ضرورة على ضوء البنية السلطوية التي تشكلت، والمصالح “الطبقية” التي كانت تكمن خلفها. وهنا يجب أن نلحظ بأن هذه البنية السلطوية هي نتاج الواقع الموضوعي الذي كان يحكم الوضع الاقتصادي والاجتماعي ويحكم الوعي في روسيا بداية الثورة، حيث منها نشأت السلطة الجديدة ولم يكن من الممكن استيراد موظفين “حضاريين” من البلدان الرأسمالية. ولا استيراد ديمقراطية وحقوق إنسان، أو أجهزة أمنية “متحضرة”. لقد أنتج المجتمع السلطة التي تعبّر عنه رغم الاتكاء على الماركسية، فالعادة لا يجري تجاوزها بسهولة، والماركسية لم تصبح هي الوعي الذي يحكم ملايين الموظفين في الجيش والمخابرات والبيروقراطية حينها. لهذا كانت أفكار لينين الديمقراطية والثورية عموماً تتراجع حتى قبل وفاته، ولهذا كان شخصاً مثل ستالين هو “ضرورة”، ضرورة يفرضها الواقع رغم تنافيها مع العقل والماركسية.
الآن، إن ما يجب أن يجري الاهتمام به هو الخبرة، خبرة التجربة. لكن أولاً يجب أن تخضع التجربة لدراسة ماركسية، وأزعم أن كثير مما قيل عن التجربة كان سطحياً، وينطلق من منطق صوري، وكان رد فعل على الانهيار. إن المطلوب هو دراسة شمولية للتجربة وفق صيرورتها الواقعية وليس انطلاقاً من “مبادئ” تحدد ماهية الاشتراكية، وبالتالي عدم تطابق التجربة مع الاشتراكية. إن ما تقوله الماركسية هو استحالة التطابق بين الرؤى والأفكار وصيرورة الواقع رغم تأثير الأفكار في الواقع، حيث ليس من الممكن أن يسير الواقع على أساس ترسيمة يضعها أضخم عبقري. الواقع ذاته يحدد في التحليل الأخير طابع الصيرورة. لهذا يجب أن نفهم هذه الصيرورة التي أودت إلى هذه النهاية، ولماذا أودت إليها وليس إلى ارتقاء في طبيعة الاشتراكية؟
وإذا كانت التجربة هي ليست نتاج الفكرة الماركسية وحدها بل أنها خضعت لممكنات الواقع، وبالتالي ليس من الممكن الوصول إلى نتيجة بوجود خطأ أصلي في الماركسية، على العكس فإن فكرة لينين بتحقيق المهمات الديمقراطية قد تحققت ما دامت روسيا قد أصبحت دولة حديثة (وهو ما يتناقض مع كل الهجوم على لينين وإرادويته، حيث أن ما طمح إليه تحقق في الواقع، أي تحويل روسيا إلى “الحضارة” الأوروبية كما كان يشير بعيد ثورة أكتوبر)، لكن الطموح نحو تطوير الاشتراكية هو الذي توقف في هذه البلدان التي أصبحت اشتراكية نتيجة انهيار التجربة. وهنا يطرح السؤال كيف تفيد الماركسية من هذه النتيجة من أجل بلورة تصورات أفضل لصيرورة التطور، ولمشكلات الأمم المخلّفة حيث أن هذه الأمم هي المكان الوحيد إلى الآن لتحقيق تجارب اشتراكية بفعل التكوين العالمي للرأسمالية؟
بالتالي يمكن القول بأن الماركسية فكر يستفيد من كل التجارب ومن تجارب الماركسيين خصوصاً، ولهذا من المهم الإفادة من تجربة الاشتراكية كصيغة في التطور في وضع سيادة الرأسمالية على صعيد عالمي، ومن الأسباب التي أفضت إلى الانهيار في التجارب الأولى وكيف يمكن أن تتبلور رؤى جديدة تغني الماركسية. فما يجب أن يكون واضحاً هو أن صيغة الاشتراكية وآليات تحققها ليستا واضحتين في الماركسية، لأن ما كتبه ماركس وإنجلز (وهو المرجع عادة) ليس سوى تجريدات عامة، وأفكار أولية لا يمكن أن تكون صيغة مكتملة للاشتراكية. لقد تناولا المبدأ ولم يعتقدا بأنه يمكنهما أن يحددا كل شيء، لأنهما انطلاقا من أن الواقع يطرح الأسئلة التي يستطيع الإجابة عليها كما قالا. لهذا لا يمكن أن نعتبر بان هناك “نظرية” يمكن تطبيقها أو القياس عليها. وربما كانت التجربة التي تحققت خلال القرن العشرين في غاية الأهمية لأنها يمكن آن تسهم في بلورة تصورات أدق حول طبيعة الاشتراكية وآليات تحققها.
إذن، يمكن القول بان التجربة، ومن ثم الانهيار، قد أسهما في كشف الجانب الذي لم يكن قد “نضج” في الماركسية لأن الواقع في زمن ماركس وإنجلز لم يكن قد طرح الأسئلة التي تفرض الإجابة عليها. أما اليوم فقد طرح الواقع الأسئلة، وبات يفرض الإجابة عليها، من أجل تجارب جديدة ستكون حتمية نتيجة تناقضات النمط الرأسمالي، والأزمات التي تخترقه. التجربة هي مصدر غنى للماركسية، لم تهزها لكنها قدمت الخبرة التي تحتاج إلى تنظير.
بالتالي يمكن القول بأن التجربة (والفشل) من جهة قد عززت الخيار الذي تقول به الماركسية في الأطراف، حيث توضح بأنها القادرة على نقل المجتمعات المخلّفة إلى “الحضارة”، إلى ما هو جوهري في العصر الرأسمالي، أي إلى المجتمع الصناعي الحديث. ومن جهة أخرى أوجدت الخبرة الكبيرة التي تفيد في وعي صيرورات نشوء الاشتراكية وميكانزمات تطورها، وعلاقة التطور الاقتصادي بتطور الوعي، وبدور الدولة وحدود هذا الدور.
الماركسية لم تضع مخططاً للتطور، ولم ترسم صيرورة التاريخ، إنها عنصر فاعل فيه، وهي تحاول الإجابة على الأسئلة التي يطرحها الواقع. ولهذا أصبح سؤال لماذا انهارت الاشتراكية؟ سؤال في غاية الأهمية، ولن يكون ممكناً الإجابة عليه انطلاقاً من “عقل” سطحي. كما أصبح، بالتالي، البحث في كيف يمكن أن تتبلور رؤية اشتراكية أرقى مسألة مطروحة بحدة، من أجل تجارب أرقى وأغنى، ولا تفضي إلى الانهيار. هذا البحث هو ما يمكن أن يضيف إلى الماركسية ويغنيها، وليس الندب على الانهيار والتحلل من التجربة، والعودة إلى تكرار أفكار متقادمة حول ضرورة الرأسمالية، وحتمية استمرارها في الوقت الراهن.
2. ضمن ما نشاهده من أزمة في النمط الرأسمالي من حروب ومجاعات وأزمات اقتصادية كبيرة تعم العالم.. هل هناك أفق لعودة النموذج الاشتراكي في العالم ؟ وكيف تقيمون تجربة تقدم اليسار في دول أمريكا اللاتينية؟
الصراع العالمي هو بين أن يبقى الوضع القائم وبين أن يتحقق التطور لينشأ عالم “متجانس”. وهو صراع ينشأ عن التمايز الهائل في تملك الثروة، وبالتالي في تفاقم الاستغلال والاضطهاد، وأيضاً الفقر والبطالة والتهميش، كما في نهب وتهميش الأمم المخلّفة. ولقد أفضت الأزمة الاقتصادية العالمية التي ابتدأت كأزمة مالية وسوف تستمر وتتعمق، إلى تأزم اجتماعي عالمي، حيث أن حل “ورطة” الطغم المالية يتحقق على حساب الشعوب من خلال الدور الذي تلعبه الدول الرأسمالية لدعم البنوك والمؤسسات المصرفية، والذي يفرض عليها ممارسة سياسة تقشف عنيفة من أجل توفير الأموال اللازمة لذلك، خصوصاً وأن هذه الدول قد أصبحت مدينة بنسب تفوق دخلها القومي الإجمالي. كما من خلال الدور الذي تلعبه من أجل توسيع نهب الأمم المخلّفة، واستنزافها إلى أقصى مدى.
لقد أعطى انهيار الاشتراكية الأمل بأن تتجاوز الرأسمالية الأزمات التي تفاقمت منذ سبعينات القرن العشرين من خلال السيطرة على العالم، ونهب البلدان التي كانت اشتراكية وتعميق نهب الأطراف. وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لخوض حرب طويلة بدأت منذ الحرب الإمبريالية الأولى على العراق سنة 1991، واستمرت طيلة التسعينات، ثم توسعت بعد الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. لكن الأزمة تفاقمت بدل أن تحل، وتعمقت بدل أن تجري السيطرة عليها. فقد توضح أخيراً بأن الأزمة التي تعيشها الرأسمالية هي أعمق من أزماتها السابقة لأنها لم تعد أزمة ركود فقط، بل تراكبت مع أزمة أعمق تمثلت في أن الرأسمالية باتت تعاني من فيض أرباح لا تجد منفذاً لاستثمارها سوى القطاع المالي، الأمر الذي فرض أن يتركز النشاط الاقتصادي أكثر فأكثر منذ السبعينات في المديونية والرهن العقاري وأسواق الأسهم والسندات والمشتقات المالية التي جرى اختراعها منذئذ. وهي كلها كانت تقود إلى عنصرين مدمرين، الأول هو التراكم المالي السريع وتضخم القيم، والثاني هو نشوء “الفقاعات” التي تفضي إلى انفجارات هائلة مستمرة.
ولأن الطغم المالية هي التي باتت تسيطر على الدول الرأسمالية، أو هي المسيطرة كونها هي ذاتها الطغم الاحتكارية، فقد دفعت الدولة للتدخل لمصلحة البنوك والمؤسسات المالية من أجل إنقاذها من الانهيار، وهو الأمر الذي راكم على الدولة الأميركية مديونية هائلة قاربت الدخل القومي الأميركي. ولقد كشفت الأزمة بأن الدول الرأسمالية الأخرى (في أوروبا واليابان) دخلت في مراكمة مديونية منذ زمن، وبعضها نتيجة سياسات المؤسسات المالية ذاتها وهي تسعى لتوظيف التراكم المالي لديها (مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال ودول أوروبا الشرقية …). وهو الأمر الذي دفع هذه الدول إلى إتباع سياسة تقشفية شديدة تفضي إلى انخفاض القدرة الشرائية لقطاع واسع من المواطنين، وبالتالي تقود إلى تعميق أزمة الشركات المنتجة الصناعية والزراعية، وحتى قطاع الخدمات، وبالتالي التجارة، لأنها تعاني أصلاً من الركود، ولسوف يتفاقم بشكل طبيعي ما دامت القدرة الشرائية قد تراجعت.
لكن في المقابل فإن قطاعات شعبية واسعة سوف ينحدر وضعها، وتسلب كثير من الحقوق التي تحصلت عليها خلال نضالها الطويل الماضي. كما أن شعوب الأطراف سوف تعيش أزمة مضاعفة تراكم الفقر والتهميش.
إذن، الأزمة مستمرة وتتعمق من جهة، ونتائجها تقتضي توسيع الإفقار لطبقات عديدة من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يعني تفاقم الصراع الطبقي على الصعيد العالمي، وفي الأمم المخلّفة خصوصاً، رغم أن الحالة يمكن أن تكون شديدة في بلدان جنوب وشرق أوروبا كذلك، وربما بعض دول آسيا وأميركا اللاتينية. وبالتالي ما هو البديل؟ هل يمكن تحسين الرأسمالية؟ وهل يمكن تجاوز الأزمة دون تجاوز الرأسمالية التي تنتجها، والتي هي لصيقة بها؟
ليس من خيار، خصوصاً للأمم المخلّفة (أي التي أصبح تخلفها مرتبطاً بعالمية النمط الرأسمالي، الذي أصبح يعيد إنتاج تخلفها) سوى في تجاوز الرأسمالية. فأزمتها الأساس تكمن في أن السيطرة العالمية للرأسمالية فرضت أن تكون مخلفة ومهمشة ومفقرة، لأنها مجال النهب الإمبريالي، هذا النهب الذي هو ليس فقط لتحقيق التراكم الأولي كما أشار ماركس بل هو جزء عضوي فيها، مما يجعلها تُخضع العالم “غير الرأسمالي” لمنطق الربح لديها، وهي ترسمله بالقدر الذي يخدم ذلك. وأي خيار رأسمالي سوف يقوم حكماً على أرضية الرأسمالية ذاتها، من خلال اقتصاد السوق الذي هو ضرورة رأسمالية من أجل تحقيق الاحتكار، وقانون السوق يفرض انتصار الاحتكار على كل محاولة جديدة، على القطاع الرأسمالي الجديد الصناعي أو الزراعي أو التجاري والخدماتي، مما يفرض امتصاص الرأسمال الموظف هنا. بمعنى أن القول بإمكانية اللحاق عبر التطوير الرأسمالي للصناعة والزراعة في الأطراف هو لغو وسفسطة، لأن الأرضية الرأسمالية التي هي السوق سوف تفرض بالتنافس “السلمي الديمقراطي” هزيمة الرأسمال الصغير وتحقيق التمركز الأعلى. فهذا هو قانون الرأسمالية.
ولأن رأسمالية الأطراف تفهم ذلك أكثر بكثير من كثير من “الماركسيين” فهي تنشط في القطاع الذي لا يجلب التنافس، وهو الأمر الذي يجعلها تعمل كوسيط وتابع لدى الرأسمال الإمبريالي، فلا تحاول (طبعاً بعد تجارب) التوظيف في ما يسمح بتحقق النمط الرأسمالي وليس سيادة العلاقات الرأسمالية، أي التوظيف في الصناعة. إذن، كيف ستتحقق الرأسمالية؟ هل عبر تطوير المركز للأطراف؟ وهو الوهم الذي قاد العديد من الماركسيين إلى تصور أن الرأسمالية في إطار تطورها بعد “الثورة العلمية التكنولوجية” سوف “تعولم” وسائل الإنتاج، بحيث تنقل صناعاتها إلى الأطراف نتيجة رخص اليد العاملة. لكن الرأسمال الإمبريالي يعلم أكثر من كثير من الماركسيين بأن نقل حتى الصناعات المتخلفة كثيفة العمالة سوف يقود إلى تحقيق تطور تقني في الأطراف يجعلها تتقدم نحو أن تصبح دولاً صناعية، ولهذا فهو لا يغامر هذه المغامرة، وحين نقل بعض “الصناعات” إلى الأطراف نقل “الخطوة الأخيرة” التي هي التجميع.
لهذا ليس من خيار غير التقدم نحو الاشتراكية من جديد. ليس من تقدم سوى من خلال البديل الذي يطرحه، أو يجب أن يطرحه، العمال والفلاحون الفقراء في الأطراف. وإذا كانت صدمة انهيار الاشتراكية قد أفضت للقول بفشل الاشتراكية ونهاية دور الماركسية، فإن العمال والفلاحين الفقراء يستطيعون بحسهم العفوي تلمس أن التجربة الاشتراكية قد حققت تقدماً مهماً، وأن انهيارها كان خطيئة، وبالتالي أن عليهم أن “يكرروا” التجربة، أن يحاولوا مرة أخرى. وما تطرحه الماركسية على ذاتها هو كيف تجري الاستفادة من تجارب القرن العشرين لبناء اشتراكية متطورة، وكما اشرنا فإن الماركسية وحدها قادرة على تحقيق ذلك، وأن التجربة تقدّم مادة غنية من أجل صياغة أفضل للمشروع الاشتراكي.
إن احتمالات عودة الاشتراكية قائمة في العديد من البلدان الاشتراكية السابقة، وفي بلدان أخرى كما يجري في أميركا اللاتينية. رغم أن وضع هذه الأخيرة يحتاج إلى نقاش، وبحث أوفى. لأن الحالات متنوعة، ومستويات التمسك بالاشتراكية مختلفة. وأيضاً إن العديد من هذه التجارب لم تبدأ بالشكل “الكلاسيكي” الذي يتمثل بوجود حزب ماركسي، بل بدأت من خلال تكثيف الفكرة في شخص نجح ديمقراطياً كرئيس، وربما لم يكن ماركسياً، وبالتالي أصبح الانتقال إلى الاشتراكية يفترض تشكيل حزب في السلطة، وهنا تكون الأخطار عالية نتيجة أن قطاعات من المتملقين والانتهازيين هي التي تتقدم أولاً، وتمسك بزمام الأمور، مما يقود إلى انحراف التجربة وتحوّلها إلى التبعية من جديد كما شاهدنا تجارب الحركات القومية في الوطن العربي. والذي يفرض التفكير في هذه المسألة هو أن العديد من هذه التجارب تعتمد على السكان الأصليين وليس على طبقة بعينها (وهنا ربما نشير بالتحديد إلى فنزويلا وبوليفيا وربما الاكوادور). ورغم فقر هؤلاء فإن ميول التملك لازالت تسكن في وعيهم (أو على الأقل وعي قطاعات منهم)، وهو الأمر الذي يمكن أن يشكل وضعاً ربما ينحرف عن المسار الاشتراكي.
وما هو هام في التجربة هذه هو أنها تتحقق من خلال الانتخابات الديمقراطية، وفي وضع ديمقراطي، لكن هل يمكن أن يستمر التقدم نحو الاشتراكية عبر ذلك؟ هذا التحدي متداخل مع ما أشرنا إليه للتو، أي تشكيل حزب سلطة، ويمكن أن يفضي إلى تفكك هذا الحزب وانقلاب بعض عناصره نحو التحالف مع البرجوازية الرابضة من أجل إفشال التجربة والعودة إلى السلطة. وأيضاً في هذا الوضع لماذا يجري التأميم ببطء؟ وإذا ما قررت الحكومة الاشتراكية التأميم الواسع هل ستصمد أمام هجوم البرجوازية؟
طبعاً هناك أحزاب اشتراكية تحكم كذلك، لكنها في الغالب تميل إلى الاشتراكية الديمقراطية أو الليبرالية أكثر مما تطمح إلى الانتقال إلى الاشتراكية، كما هو الحال في البرازيل والأرجنتين، وكما كان في تشيلي التي أفضت السياسات الليبرالية بالحزب الاشتراكي إلى خسارة الانتخابات.
في كل الأحوال فإن أميركا اللاتينية تميل نحو اليسار، ويمكن أن تشمل التجربة كل القارة، رغم الضغوط الإمبريالية الأميركية والتدخلات التي أفضت إلى الانقلاب في هندوراس، والقواعد العسكرية في كولومبيا. وبالتالي ربما تتمخض التجربة عن تطور اشتراكي مهم، ممتزج بالديمقراطية، ومترابط في عموم القارة.
3. الملاحظ أن معظم الأحزاب الشيوعية الأوربية غيّرت الكثير من مفاهيمها في الحقبة الأخيرة من انهيار النموذج الاشتراكي ، لكن ما نشاهده أن معظم الأحزاب الشيوعية العربية بقيت متمسكة بأطروحات الماركسية التقليدية ولم تغير من مفاهيمها .. برأيك ما سبب ذلك ؟
إن معظم الأحزاب الشيوعية غيرت الكثير من مفاهيمها بما في ذلك في الوطن العربي، ومن بقي متمسكاً بأطروحات شيوعية (وليس ماركسية كما يشير السؤال) تقليدية فهم مجموعات قليلة، ظلت تكرر الرؤى التي كانت تطرحها في زمن الاتحاد السوفيتي، والمستمدة من الماركسية السوفيتية. فالحزب الشيوعي العراقي أصبح “ديمقراطياً” وتخلى عن الصراع مع الإمبريالية، على العكس فهو مشارك في سلطة احتلال. وحزب التقدم والاشتراكية في المغرب مشارك في الحكومة منذ عقود، وفي تونس تغير إلى حزب ديمقراطي، وفي فلسطين إلى حزب “شعب”، وفي سورية إلى حزب “شعب ديمقراطي”. والقطاع الأكبر من الشيوعيين مال نحو الليبرالية، ومن بقي “شيوعياً” فهو يطرح خطاباً ديمقراطياً.
لكن لا بد من أن نشير إلى أن كثير من أشكال “التغيير” هي لفظية، وهنا لا اقصر المسألة على الوطن العربي بل أتناول كل “الحركة الشيوعية العالمية”، أي تلك التي كانت تتمحور حول موسكو، حيث كانت مآلاتها متشابهة إلى حد كبير. فهي لم تكن ثورية، لكنها أصبحت تميل في الغالب نحو الليبرالية. لقد كانت ترقص على نغمة الصراع السوفيتي الأميركي (أو الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، كونه سمة العصر كما كانت تقول)، وبالتالي كانت سياساتها متوافقة مع نغمة السوفيت. وهي لم تطرح تغيير النظم في بلدانها لتحقيق الاشتراكية، واستند نشاطها على النضال السياسي العام وفق نغمة الصراع المشار إليه، والنضال المطلبي ومن أجل الحريات الديمقراطية. هذا هو جوهر موقفها الذي حكم نضالها خلال سنوات الحرب الباردة، والذي كان يستند إلى منطق تطوري عام وعفوي. رغم النغمة العالية في معاداة الإمبريالية والحروب.
وهي في الوطن العربي تكيفت مع الوقائع التي فرضتها الرأسمالية الاستعمارية، تكيفت مع وجود وأبدية وجود الدولة الصهيونية، والتجزئة. وظل منطقها “سلمياً”، ينطلق من تحقيق “السلم العالمي”. وهي الآن في السياسات الواقعية لا تخرج عن ذلك، وبالتالي هي، وكل الحركة الشيوعية العالمية لم تغيّر في كل هذه المسائل. إنها لا تهدف إلى التغيير ولا تتخلى عن “النضال السلمي”، لكن ما “تغيّر” لديها هو تراجع الخطاب الطبقي المطلبي لمصلحة تضخم الخطاب الديمقراطي، وتراجع الخطاب المعادي للإمبريالية لمصلحة التراخي أو حتى التكيف معها. ولهذا أشرت إلى أن معظمها في الوطن العربي أصبح ديمقراطياً، وأصبح النضال الديمقراطي هو كل نشاطه، وتمحور السعي من أجل تغيير شكل السلطة الدكتاتوري لمصلحة شكل ديمقراطي، دون لمس الطبقة المسيطرة التي هي الكومبرادورية.
هذا هو المنطق العام الذي حكم الحركة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد خففت الخطاب المعادي للإمبريالية، وزادت من جرعة الخطاب السلمي. هل فعلت الأحزاب في أوروبا أكثر من ذلك؟
على الصعيد النظري، وربما هنا يشار في بعض الأحيان إلى “التغيير”، فقد مالت كلها إلى تقريع (وليس نقد) التجربة الاشتراكية والاشتراكية بشكل عام، وعادت بوضوح أكبر إلى نغمة أن المرحلة هي مرحلة الرأسمالية. وشنت هجوماً على إرادوية لينين محملة إياه “فشل التجربة”. وركزت على رفض دكتاتورية البروليتاريا. وعلى السلم والنضال السلمي إلى آخر المعزوفة.
الآن، يمكن القول بان كل الحركة الشيوعية (وكثير من القوى الماركسية التي نشأت فيما بعد) تعاني من “مرض عضال”، لأنها لم تؤسس لذاتها رؤية متماسكة ونقلت ما كان يصاغ في المركز الاشتراكي. ولقد تربت على ذلك، وحين غاب المركز “فلت العيار”، وهذا ما حدا بكثيرين إلى الانقلاب المخزي نحو الليبرالية، والتسرع للتشهير بالاشتراكية و”جلد الذات”، بينما من “توازن” لم يكن الوعي الذي اكتسبه من خلال المدرسة السوفيتية معيناً له، فسار مع الموجة “الديمقراطية”، لكن دون أن يغير شيئاً في السياسات “المبدئية” التي أشرنا إليها للتو.
هنا يمكن القول بأن صيغة وسمت الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي (وأظن في كل الأمم المخلّفة كذلك)، فهي لم تمتلك الماركسية كعلم (المنهجية الماركسية) وإن امتلك البعض بعض الفهم في المجال الاقتصادي خصوصاً، فظلت منحكمة للمنطق الصوري الذي لا يفيد كثيراً في فهم الواقع والصراعات. ولهذا كان “الغذاء النظري” يأتيها من المركز، من “العلماء السوفيت” (الذين هم بيروقراطيي الدولة السوفيتية الذين كانوا يكيفون الماركسية مع مصالح هذه البيروقراطية المتنامية). هذه مسألة باتت واضحة، حيث لم يُقرأ لا ماركس ولا إنجلز ولا حتى لينين، ربما قُرئ ستالين جزئياً. وفي الغالب، حينما يكون هناك قراءة، يجري الاعتماد على الكراريس الصادرة في موسكو فقط، وهي كراريس مبسطة أولية، ربما تعطي معلومات لكنها لا تؤسس وعياً. وربما تفيد كمعلومات أولية لكنها لا تفيد أكثر من ذلك، رغم كل التشوه الذي يسكنها.
ولقد حكمت الأحزاب سياسة لا تقوم على التغيير بل تحلم بانتصار البرجوازية، لهذا بدت إصلاحية وملحقة بوهم اسمه التطور الرأسمالي. وهو الأمر الذي حوّلها في الأخير إلى أحزاب برجوازية صغيرة، ربما تعبّر عن طموحات بعض شرائح هذه الطبقة، التي سعت في العقود الأخيرة إلى حصول انفراج ديمقراطي ليس أكثر.
إذن، ماذا تغير؟ ما يجري هو تلاشي “الأطروحات الماركسية التقليدية” لمصلحة الليبرالية والمفاهيم البرجوازية الصغيرة. هذا هو التجديد الممكن، والذي طال كل الحركة الشيوعية العالمية (في الغالب). بالتالي هذه الأحزاب غيرت ولم تغير، ولهذا فهي هي. ولا إمكانية لأن تكون غير ذلك، مع كل الاحترام لمناضليها القدامى والجدد ، وأملنا بأن يكون تحليلنا “خائباً”.
4. الملاحظ وجود أزمة عالمية لدى اليسار عموماً وضعف دوره.. فهل هذا ناتج عن أزمة في النظرية الماركسية؟
لاشك في أن الأزمة في الممارسة تفرض البحث عن جذرها في النظرية. والمسألة لا تتعلق بالأحزاب الشيوعية التي تحدثنا عنها للتو، حيث تلبّست “ماركسية” صورية أكثر من المنطق الصوري ذاته. ونشير إلى أن كل القوى الماركسية التي حاولت تجاوز هذه الأحزاب لم تستطع أن تتقدم خطوة إلى الأمام. وهنا أنا لا أتحدث عمن انتصر مثل الحزب الشيوعي الصيني والفيتنامي والكوبي، بل أتحدث عن اليسار الراهن، الذي هو خليط من الشيوعيين والماركسيين الجدد (أو اليسار الجديد). وهذه كلها في أزمة لاشك في ذلك، حاولت قبلاً أن أشير إلى طبيعتها وممكنات الخروج منها، لكن حينما الإشارة إلى “النظرية الماركسية” فيجب أن نتعامل بحذر. قلت للتو بأن الأزمة في الممارسة تفرض البحث في جذرها في النظرية، وأكمل بأن المسألة تتعلق بالواقع الطبقي والميول الطبقية لدى الفئات التي تعتنق الماركسية. فالنظرية “تتشخصن”، أي تتجسد في أشخاص، لأنها وحدها صامتة، هي كلمات. ولا يكون لهذه الكلمات نسق ومعنى إلا من خلال الأشخاص.والأشخاص هم متوضعون في الطبقات وليسوا “أحراراً”.
الآن، ما أضافته الماركسية (أو ما أضافه ماركس وبدرجة أقل إنجلز) هو الجانب المتعلق بمنطق التفكير قبل كل شيء، أي الجدل المادي. الجدل المأخوذ من هيغل والمسيّر مادياً بتأثير الاتجاهات المادية التي كانت رائجة وقتئذ. هنا عمل ماركس التركيب للجدل بصفته المثالية كما كان لدى هيغل والمادية الرائجة، فأصبحت مهمة الجدل تحليل البنى المجتمعية، وملاحظة صيرورة تطورها وحركتها، وهو ما يؤهل لفهم الآفاق الممكنة وبالتالي تحديد دور الحزب/ الطبقة في كونه العنصر الذاتي المفعَّل لمصلحة طبقة في الصراع الطبقي من أجل أن تنتصر.
هنا ماركس توصل إلى “نقلة نوعية” تخص منطق التفكير. هذه النقلة هي التي سمحت بان يقدّم فهماً جديداً للتاريخ، للواقع، وأن يقدّم الآليات التي تسهم في تغييره من ضمن الممكنات الموجودة فيه. لكن هذه المرة بشكل واعٍ. وهو انطلاقاً من هذه النقلة أعاد صياغة الأفكار التي كانت سائدة في عصره، وطورها بحيث تصبح جزءاً من منظومة “نظرية” تعبّر عن رؤية الطبقة العاملة.
لكن كل ذلك هو جزء من الموضوع، حيث أن حسم الصراع الطبقي وتحقيق التغيير مسألة تتعلق كذلك بالظرف الموضوعي. ماركس قدّم تصوراً للظرف الموضوعي في أواسط القرن التاسع عشر، ورسم “الإستراتيجية” الضرورية لتحقيق التغيير وقتها، لكن التغيير لم يتحقق لنقص في وعي الواقع، خصوصاً في معرفة صيرورة تطور الرأسمالية، وحيث كانت الرأسمالية بالكاد نشأت (1780- 1870). فقد كان مستحيلاً تجاوز رأسمالية وهي في كامل حيويتها، وتحقق التطور المضطرد، وأيضاً تهيمن على العالم من خلال حركة استعمار هائلة. هذه هي الأزمة الأولى التي واجهت الماركسية، وأسست لنشوء الاشتراكية الديمقراطية، فقد بدا التغيير مستحيلاً في وضع يشهد تحسناً مضطرداً في وضع العمال، وتطوراً مجتمعياً هائلاً. وهو الأمر الذي أفضى إلى الميل للتكيف مع الرأسمالية الحيوية والناهضة، والتي تنقل العالم إلى آفاق متطورة. وخصوصاً أن السيطرة العالمية سمحت بأن تكون الرأسمالية “مرنة” بما يكفي لتقديم التنازلات للطبقة العاملة، وهو ما شكّل “ذوي الياقات البيضاء”، الذين باتوا كل الطبقة تقريباً.
ولأن المنطق النصي هو الذي حكم بيرنشتاين ثم كاوتسكي ومعظم الأممية الثانية حول تصور تحقُّق الاشتراكية كما عرضه ماركس، فقد كان البديل عن تصور ماركس هو الميل للتكيف مع الرأسمالية المتطورة، والتأكيد على أن تجاوزها لا يتحقق سوى بعد أن “تتعفن” وتستنفذ كل ممكناتها. لهذا، لم يحن بعد زمن الاشتراكية لأن الرأسمالية لازالت تتطور، وسوف تتطور أكثر. حيث بعد إذ، بعد أن تستنفذ إمكانية تطورها يمكن الانتقال إلى الاشتراكية. هذا ما حكم بيرنشتاين ثم كاوتسكي و الأممية الثانية.
لقد كانت السيطرة الاستعمارية على العالم تكتمل، وهذا ما كان ينعكس على وضع الطبقات في المراكز الإمبريالية، ويفرض تحوّل الصراع الطبقي من طابعه العنيف والحدي إلى صيغة كانت تتبلور، تقوم على المساومة وتقديم التنازل، وأصلاً تشكيل مجتمع من الفئات الوسطى. هذا هو أساس نشوء الحركة الاشتراكية الديمقراطية التي تخلت عن التغيير والاشتراكية لمصلحة تحقيق “التحسينات” في النمط الرأسمالي من خلال تحقيق “منجزات” للطبقة العاملة والمجتمع تعزز طابعه الاجتماعي.
لقد كان الصراع الطبقي يتراجع في البلدان الرأسمالية، ويذوي تحت عجلة التطور المتسارع الذي يفرضه إيقاع الرأسمال. ولهذا بدت كل أفكار ماركس وكأنها خاطئة وليست في زمانها. هنا طُرح النقاش حول أزمة الماركسية أول مرة ربما.
لكن هذه المسألة حلّت وفق المنظور اللينيني، ولن يبدو ذلك غريباً في بلد كان لازال يعيش السيطرة الإقطاعية رغم تغلغل رأس المال والصناعة ونشوء الطبقة العاملة. فقد كان الصراع الطبقي يزداد تفاقماً مع هذا التغلغل الرأسمالي، ويزداد تفاقماً أكثر في الريف نتيجة النهب المتزايد من قبل الإقطاع. وبالتالي قدّم لينين الحل لـ “أزمة الماركسية” من خلال تجاوز التصور “الماركسي” الذي يعتبر تقليدياً، أي الثورة الاشتراكية في الأمم “المتمدينة”، ولقد رسم تصوراً عن دور الماركسية في تحقيق المهمات الديمقراطية.هذا التجاوز جعل الماركسية تغيّر نصف العالم (1917- 1974).
بالتالي يمكن القول بأن لينين أخرج الماركسية من “أزمتها” الأولى، لكن هل هي أزمة؟
إن الفارق بين بيرنشتاين وكاوتسكي وبليخانوف وبين لينين هو ما يشكل محور الماركسية. فقد التزم هؤلاء التصور الذي صاغه ماركس لدور الماركسية، وحين وجداه قد أصبح مجافياً للواقع قبلوا الواقع، أي انتقلوا من تغيير الواقع الرأسمالي نحو الاشتراكية إلى تطوير الرأسمالية وانتظار نضجها وتعفنها. ربما كان هذا الموقف هو انعكاس للواقع الذي كان يتشكل في الأمم الرأسمالية، لكنه كان يلغي التناقض العميق الذي يحكم نظرة الماركسية للرأسمالية، وبالتالي الطموح لتجاوزها. وهذا ما جعل بيرنشتاين يقول بأن الهدف النهائي هو لا شيء، الحركة هي كل شيء. وقبل ذلك أن يرفض الجدل الماركسي بحجة أنه بقايا الهيغلية لدى ماركس. وهذا ما سارت عليه الأممية الثانية، رغم أن بليخانوف أسس لجدل “تطوري”، أي لا يعرف سوى قانون التراكم الكمي والتغيّر النوعي. وهو في ذلك لم يتعارض مع بيرنشتاين أو كاوتسكي بل أكملهما من خلال “دس” منطقهما في الجدل، ليتحوّل إلى “جدل” تطوري، أخذ به ستالين وأصبح منطق الحركة الشيوعية.
أما لينين فقد انطلق من جوهر الماركسية ولم يلتزم منطقاً نصياً، أي انطلق من الجدل المادي (الديالكتيك)، فابتدأ من “التحليل الملموس للواقع الملموس” ولم يبدأ من الأفكار التي تخص فهم الواقع (الذي كان قد تغيّر كثيراً بعد ماركس، حيث تشكلت الإمبريالية، أي الرأسمالية كنمط عالمي)، ولا تصور الثورة الاشتراكية الذي “تبلور” أواسط القرن التاسع عشر. لهذا توصل إلى الصيغة التي تنطلق من الصراع الطبقي المتفاقم في الأطراف، وطرح على الماركسية مهمة تحقيق المهمات الديمقراطية من أجل الانتقال إلى الاشتراكية، أي بتكثيف شديد: اللحاق.
بمعنى أن المسألة كانت تتعلق بطبيعة فهم الماركسية، هل أنها التصورات والقوانين أو أنها الجدل المادي كـ “منطق تفكير وممارسة”؟ المادوية التي سيطرت على الأممية الثانية قادت إلى الاقتصادوية والتطورية، بينما قادت التناقضات المتفاقمة في الأطراف إلى البدء من الجدل المادي. ولا ننسى أن لينين كان ينطلق في تقييمه للآخرين من هذا الأساس، كونه كان يعتبر أنه “حجر الزاوية” في الماركسية. ولقد انطلق منه لتحليل واقع روسيا الملموس، وليتوصل إلى تحليل ملموس للوضع العالمي أفضى به إلى بلورة تصور جديد حول طبيعة النمط الرأسمالي. لكنه بالأساس أسّس لإستراتيجية منتصرة.
وسنلحظ بأن كل الأحزاب الشيوعية التي انتصرت (بقوتها وليس بالتحرير السوفيتي) انطلقت من جوهر الفكرة اللينينية، لكن بالأساس من جوهر الماركسية، فقد استندت إلى “الديالكتيك” في تحليلها للظروف الواقعية ولرسم إستراتيجية ثورية قادتها إلى الانتصار (وهنا نضع الصين والفيتنام، وكوبا وكوريا، ويوغوسلافيا وألبانيا). بينما فشلت كل الأحزاب التي اعتمدت على رصيد الاتحاد السوفيتي وليس على رصيدها، وهو وضع “الحركة الشيوعية العالمية” التي تناولت وضعها في سؤال سابق، والتي بدت كجزء من السياسة السوفيتية أكثر مما كانت تعبّر عن صراع طبقي محلي. وهي بالتالي نقلت عن الماركسية السوفيتية جوهر مواقف الأممية الثانية الاقتصادوية والتطورية. لهذا ظلت تنتظر انتصار الرأسمالية، أو تنتظر نضوج الرأسمالية وتعفنها. وهي بالأساس تخلت عن الجدل المادي لمصلحة منظومة مصاغة من قبل “العلماء السوفيت”، ليس الجدل المادي فيها سوى “هامش تأملي” ومصاغ وفق رؤية بليخانوف.
ورغم تأثير الماركسيات الصينية والفيتنامية والجيفارية على صعيد عالمي إلا أن الطابع العام الذي اتخذته لم يشذ عن طريقة الماركسية السوفيتية، أي التزام تصور جاهز، وإتباع سياسة مقرَّرة في الصين حيث كانت الماوية هي الشكل الأبرز لهذه الماركسيات. ولهذا سنلحظ فشل “اليسار الجديد”، رغم أن الماوية بدت قوية في العديد من البلدان الزراعية مثل النيبال والهند والبيرو وكولومبيا، لكن تمسكها في “التقليد الماوي” يجعلها عاجزة عن تحقيق الحسم النهائي، أو توحيد العمال مع الفلاحين الفقراء كون هذه الأحزاب تستند إلى الريف أكثر من استنادها إلى المدينة، وهو الأمر الذي لا يسمح إلى الآن بأن تنتصر بشكل كامل.
ونشير إلى أن انهيار المنظومة الاشتراكية من جهة، والتحوّل الصيني إلى الرأسمالية من جهة أخرى، قد أديا إلى ميل ليبرالي كبير لدى كل تيارات اليسار، أو إلى التحوّل نحو النضال الديمقراطي، وبالتالي التكيف مع الوجود الرأسمالي، وحتى القبول بالسياسات الإمبريالية في كثير من الحالات. ولهذا ترافق التوسع الإمبريالي الذي بدأ مع انهيار المنظومة الاشتراكية مع تقريباً تلاشي الدور الثوري للقوى الماركسية، وإلى ظهور أزمة حقيقية في الماركسية. وربما هي الأزمة الثانية بعد الأزمة التي نشأت نهاية القرن التاسع عشر كما أشرنا.
إن المشكلة تكمن في غياب إجابات على أسئلة حقيقية طرحها الواقع، وبالتالي غياب الإستراتيجية الضرورية من أجل تجاوز الرأسمالية. فالرأسمالية تزداد تأزماً، وربما تتعفن، لكن لم تتبلور الرؤية التي تؤسس لنضال حقيقي يقود إلى تجاوزها. وإذا كانت الصراعات العالمية خلال الحرب الباردة قد فرضت إيقاعها –بحدود معينة- على كل الصراعات الطبقية في العالم، وأوجدت الأوهام لدى البعض بأن طريق انتصار الاشتراكية يتقوّم في حسم التناقض الرئيسي على صعيد العالم بين الاشتراكية والرأسمالية، فإن انهيار الاشتراكية قد عمم حالة من الإحباط واليأس هائلة، وهو الأمر الذي كان المدخل للانحدار الليبرالي. لكن أزمة الرأسمالية لم تحلّ، ولقد تعمقت كما أشرنا، وباتت أزمة مستمرة، وقاسية. وهي سوف تفرض تفاقم الصراع الطبقي على صعيد عالمي، وفي كل الأمم، وإن كانت في الأطراف أكثر منها في المراكز، رغم أن بعض البلدان الرأسمالية سوف تغرق في الصراعات الطبقية. وهنا يمكن الإشارة إلى بلدان جنوب أوروبا (اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال) وشرق أوروبا (البلدان الاشتراكية السابقة). وكذلك ربما جنوب شرق آسيا. دون أن نتجاهل ما يجري في أميركا اللاتينية والذي أشرنا إليه قبلاً.
هل تستطيع الماركسية أن تقدّم رؤية؟ أو يستطيع ماركسيون أن يقدموا إستراتيجية عالمية للنضال؟
نحن في هذه اللحظة.
الماركسية لا تنطق بذاتها. الماركسية هي الماركسيين. لكن لا بد من العودة إلى ماركس، وهنا ماركس الجدل المادي، لأن المهمة الملحة الآن هي فهم الواقع من أجل تغييره، وليس من الممكن فهم الواقع انطلاقاً من “الوعي” الذي ساد الحركة الماركسية خلال العقود الماضية، لا الحركة الشيوعية التي استندت إلى السوفيت، ولا الحركة الماوية التي اعتمدت نصوص ماو تسي تونغ، ولا كذلك التروتسكية التي ظلت في حدود الفكرة العامة التي طرحها تروتسكي. وسنلحظ بأن كلها حاد عن الجدل المادي، أو أن تحويله الجدل المادي إلى طريقة تفكير كان قاصراً، وفي الغالب جرى التعامل مع الجدل المادي كـ “شيء مكمل” وليس كجوهر في الماركسية.
وهذا يفترض نقلة في الوعي الماركسي تجعل الفئات الاجتماعية غير العمالية التي تعتنق الماركسية تستطيع أن تتمثل المنهجية في الوعي، لكي تستطيع تحقيق قطيعة مع واقعها الطبقي يجعلها في صف العمال والفلاحين الفقراء. وهي قطيعة مع جملة من المفاهيم والتصورات التي يجري التعامل معها وكأنها من صلب الماركسية، وهي في الواقع تصورات لسياسة في لحظة معينة، مثل الثورة الدائمة أو الحسم بأن طبيعة الثورة هي اشتراكية، أو “الحرب الشعبية”، أو التطور الرأسمالي. أو حتى مفهوم الجبهة المتحدة ومفهوم التناقضات، ودكتاتورية البروليتاريا.
وبالتالي بدل المنطق “النصي” من الضروري العودة إلى الديالكتيك من أجل فهم الواقع الراهن. وهذا لا يعني بأن الماركسية لا تعيش “أزمات”، أو أنها مكتملة، بل يعني العودة إلى أساس الماركسية كنظرية الذي هو منهجيتها، هذه المنهجية التي حققت نقلة نوعية في الفهم والمعرفة وتحديد أسس التغيير. ولاشك في أن هناك العديد من الأفكار و”القوانين” التي هي خاطئة أو تجاوزها الواقع. وهناك ما هو تصور لواقع معين مضى، وهناك الأفكار التي أصبحت أساسية وفي صلب الماركسية. وإن العودة إلى الجدل المادي هي التي تسمح بأن نعيد صياغة “النظرية” على ضوء ما بات علمياً. ومن ثم إغناء الماركسية وتجريدها من كل الأفكار التي تبين أنها خاطئة أو تجاوزها الواقع. فالماركسية ككل نظرية علمية تغتني بالتجربة وبكل ما يضيفه الواقع. وهي تفرض على الماركسيين بالضرورة إعادة صياغة مستمرة، فهي ليست مغلقة ولا يمكن أن يسمح الجدل المادي لها بذلك، لأنه نقدي وينطلق من التحليل الملموس للواقع الملموس. وإذا كانت هناك أفكار تستمر لفترات طويلة فإن الرؤية لا بد وأن تعاد صياغتها باستمرار. الواقع متغير إذن الماركسية متغيرة، لكن على محور منهجيتها.
الآن، لاشك في أن كل الحركة الماركسية بمختلف تلاوينها وتناقضاتها هي في أزمة، وكل الوضع العالمي هو في أزمة. وإذا كانت أزمة الرأسمالية وحروبها تفرض تطور الصراع ضدها، فإن ذلك يفرض تقديم إستراتيجية نضال ثوري من أجل هزيمة الرأسمالية.
وبالتالي، فالمطلوب هو فهم الواقع اليوم، من أجل وضع إستراتيجية نضال تعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء. وليس ذلك ممكناً دون تمثّل المنهجية الماركسية التي هي الجدل المادي. وهذا مطلوب الآن، لأن الرأسمالية تعاني من أزمة عميقة تفجرت منذ سنة 2008، ولسوف تؤدي من جهة إلى ضعف السيطرة الإمبريالية على العالم، ومن جهة أخرى إلى تفاقم الصراع الطبقي العالمي، وفي كل أمة. وفي هذا الوضع لا بد من رسم إستراتيجية التغيير الثوري.
5. ما هو موقف الماركسية في الوقت الحاضر من الديمقراطية التي أصبحت نمطاً عالمياً في الحكم ؟
أن تكون الديمقراطية قد أصبحت نمطاً عالمياً في الحكم فهذا ما يحتاج إلى برهان. والأهم تحديد أي ديمقراطية؟ ديمقراطية الاحتكارات أو ديمقراطية الشعب؟ أطرح هذه الأسئلة لأن الديمقراطية تُطرح منذ عقود كأيديولوجية، وتصبح كل “الحل” لكل شيء. وتصبح طريق التطور والحداثة وتجاوز الفقر والبطالة. وبالتالي تضخّم إلى حد كبير من أجل التغطية على الواقع الطبقي القائم. ولهذا يجب أن نتأنى ونحن نشير إلى الديمقراطية، وأن ندقق الفهم. ولا ننسى بأن فوكوياما الذي أخبرنا بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ عاد وحاول الهرب من هذا المنزلق محملاً الآخرين سوء الفهم الذي حدث لفكرته، التي لخصها في أن ما قاله هو التحليل الماركسي للمسألة، حيث يفرض التطور الاقتصادي والاجتماعي أن تصبح الديمقراطية ضرورة حاسمة. وهو محق هنا، ليس للقول بضرورة الانتظار إلى حين تحقيق التطور بل للقول بأن المسألة اعقد من أن تحوّل إلى أيديولوجية مبسطة.
ماركس تبنى الديمقراطية ضد البرجوازية التي كانت تقيم نظماً دكتاتورية، وناضل من أجل حق الانتخاب للطبقة العاملة. وحين تحدث عن دكتاتورية البروليتاريا قال أنها ضد الأقلية البرجوازية فقط، وديمقراطية للأغلبية، وهو هنا كان يعكس واقع البرجوازية ذاتها التي كانت تمارس الدكتاتورية ضد الطبقة العاملة. وحين انتقل إلى الاشتراكية كان يعتبر بأنه يعمّق الديمقراطية الشكلية المطروحة من قبل البرجوازية، ولم يدر في خلده بأن هناك من سيعتبر بأنه لفظ الديمقراطية. فالمساواة في المستوى السياسي يجب أن ترتبط بمساواة في عدم التملك لكي تتحقق واقعياً، وإلا قادت الثروة إلى حرف الديمقراطية عبر التحكم المالي.
وبالتالي لم تكن المسألة في هل أن الماركسية هي مع الديمقراطية أو ضدها، بل كان في الصيرورة التي تسمح بتحقيق الديمقراطية، الديمقراطية الحقة. ولهذا ربط ماركس بين الشكل السياسي للدولة وطبيعة التطور الاقتصادي الذي تقوم على أساسه، والوضع الطبقي الذي يحقق المطابقة بين المضمون الطبقي والشكل السياسي.
الآن، ما هو مطروح هو موجة/ موضة، بمعنى أن حرف الصراع الطبقي عن محوره الاقتصادي الطبقي فرض الركض وراء تغيير الشكل، أي التركيز على السلطة السياسية. وفي هذا الحرف لا يتشوه الصراع الطبقي فقط، بل ينحرف الصراع من كونه ضد الرأسمالية المسيطرة، والتي تنهب وتدمر وتخوض الحروب الإمبريالية، إلى الصراع ضد نظم دكتاتورية لكنها عبّرت عن ميل البرجوازية الصغيرة (الريفية) لتحقيق بعض التطور (بناء الصناعة والتحديث، وطرح المسألة القومية)، من أجل دمج البلدان التي تحكم فيها بالنمط الرأسمالي. بالضبط كما كان الأمر بالنسبة للبلدان الاشتراكية، حيث جرى استخدام الديمقراطية ليس من أجل تحقيق تطور أعلى بل من أجل التخلص من التطور المتحقق، وبالتالي فقد أصبحت تلك الدول التي كانت تحكمها الاشتراكية دولاً ديمقراطية لكن في ظل انقسام طبقي مريع.
لهذا يجب التوقف ملياً هنا، لأن هذا “الاندفاع” نحو الديمقراطية (والذي له ما يبرره لدى النخب التي عايشت الاستبداد بكل قسوته) لن يكون سوى غطاءً للسياسات الإمبريالية، دون أن يكون محكوماً بالتحقق. وهذا لا يعني رفض الديمقراطية بل يعني فهم الواقع وفهم موقع الديمقراطية في تطوره. فالديمقراطية لا تقام على بنى طائفية أو قبلية، أو متخلفة عموماً، رغم إمكانية إجراء الانتخابات وتشكيل مجلس نيابي، ووجود حريات للصحافة والأحزاب. وهي هنا تعيد إنتاج التخلف ليس غير. وبالتالي فإن الديمقراطية مرتبطة ببرنامج تغييري شامل لكي تتحقق في الواقع. رغم تأييدي لكل الأشكال التي يمكن أن تحقق الانفراج أو بعض الحريات. لكن أطرح الموضوع من زاوية ماركسية، بمعنى أن المسألة تتعلق هنا ليس بشكل الدولة بل بمضمونها كذلك.
لو كنت ليبرالياً لوافقت على هذه الأشكال التي تتعمم كمثال للديمقراطية، في مصر أو العراق أو لبنان، برغم أنها منفصلة عن العلمانية، هذه المسألة التي ليس من ديمقراطية (حتى بالمعنى البرجوازي) بدونها، لأنها الأولية التي تفرض مبدأ المواطنة وترك ظروف البشر للبشر، اللذين هما مبتدأ الديمقراطية. أو لظننت بأنه يمكن أن تقام ديمقراطية “منسجمة” (بالمعنى البرجوازي) على أرضية الرأسماليات التابعة المسيطرة. لكن التحليل الماركسي يوصل إلى أن الديمقراطية لا تتوافق مع ليبرالية الأطراف، وكل ما تفعله الرأسمالية الحاكمة فيها هو شكل ديمقراطي مشوه، ولا يفتح الأفق للتغيير بل يعيد إنتاج السلطة ذاتها. ولهذا فإن أعلى مطمح هنا هو تحقق بعض الحريات وانتخابات مزورة. وأن إمكانية تشكيل “كتلة تاريخية” (هذا المصطلح الغرامشاوي الذي بات يتعرض للتشويه) لفرض ديمقراطية حقيقية (وهنا بالمعنى البرجوازي كذلك) ليست ممكنة، لأن أولويات العمال والفلاحين الفقراء وقطاع كبير من البرجوازية الصغيرة تنطلق من أثر الاستغلال والنهب اللذين يتعرضون لهما، أي من الفقر والبطالة والتهميش. وهي أولوية لا تتوافق مع أولوية النخب، رغم عدم تعارضها معها.
لهذا، ورغم أن النضال الديمقراطي سوف يظل جزءاً من النشاط الماركسي، فإن ما يجب أن يحكمه هو، أولاً: أن الديمقراطية كنظام سياسي هي جزء من برنامج التغيير الثوري، والنظام الديمقراطي هو الشكل الذي يسعى الماركسيين لتحقيقه، وهم يعملون من أجل تحقيق التغيير الجذري في البنى الاقتصادية والوعي المجتمعي، وثانياً: وهم يرون ذلك يعرفون بأنه دون تغيير البنى الاقتصادية لن تصمد ديمقراطية تحقق مصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل المجتمع، وثالثاً: إن الديمقراطية التي يطرحها الماركسيين تنطلق من علمنة الدولة كأساس لانسجامها، وتحاول أن تتجاوز الشكلية التي تخضع لها الديمقراطية البرجوازية دون التخلي عن قيم الديمقراطية ذاتها.
إن المشكلة التي تحكم العديد من الماركسيين اليوم في هذا المجال هي أنهم يظنون بأن الديمقراطية هي مدخل التغيير، وبالتالي أن النضال الديمقراطي هو النضال الأساسي، مراهنين على ممكنات غير موجودة سواء فيما يتعلق بحدود تنازل الطبقة الكومبرادورية عن تمسكها السلطوي، أو عن “التحاق” الطبقات الشعبية بهذه الأولوية لأنها تخدم توفير الظروف لطرح مطالبهم بعدئذ. وهما رهانان خادعان، لأن الكومبرادور لا يعطي أكثر مما أعطى سواء في مصر أو المغرب أو في شكل لبنان أو العراق، وهذه تعيد إنتاج الوضع القائم ولا تخدم تقدم المجتمع أو تقود إلى تطوير وضع الطبقات الشعبية. كما لأن الطبقات الشعبية تنطلق من وضعها وليس مما يرسمه لها مثقفون كأولوية، ووضعها يجعلها تنطلق من المعيشي، من البطالة والفقر والعجز عن التعلم أو العلاج، وبالتالي لا تميل إلى أن تلتحق بأهداف لا تمسها مباشرة. إضافة إلى أن “حسها السليم” جعلها تتلمس بأن كل الأشكال الديمقراطية القائمة لا تحقق لها شيئاً، حيث تقوم السلطة بإعادة إنتاج ذاتها عبر صناديق الاقتراع.
وهنا يجب أن يتجاوز الماركسي الوهم بأنه قادر على فرض الديمقراطية على النظم الكومبرادورية، أو تغييرها تحت شعار الديمقراطية. فالديمقراطي المنسجم يتوصل إلى أن النظم القائمة لا “تتدمقرط” سوى شكلياً، وأن طريق التغيير تتمثل في تطوير الصراع الطبقي بكل أبعاده، من النضال المطلبي، والاحتجاجي، إلى الإضرابات والتظاهر والانتفاضة، وأن النضال الديمقراطي هو جزء من هذه الصيرورة وليس أولها. وأن تأسيس نظام ديمقراطي هو جزء من برنامج العمال والفلاحين الفقراء، الذي يهدف إلى تحقيق التطوير الاقتصادي عبر بناء الصناعة وتحديث الزراعة والتعليم المجاني والضمان الصحي، والحداثة الثقافية. وهؤلاء يؤسسون النظام الديمقراطي الذي يتيح بكل الطبقات الشعبية المشاركة في تحقيق كل هذه المهمات.
المطلوب اليوم هو وضع هدف الديمقراطية في موضعه الحقيقي في صيرورة التطور، والتأكيد على أن التطور العالمي العام أصبح يفرض أن تكون النظم التي يقيمها العمال والفلاحين الفقراء ديمقراطية وليس استبدادية كما كان في تجربة القرن العشرين. لكن طريق الوصول إلى ذلك هي الثورة وليس النضال السلمي التدرجي الآمن كما بات يشاع. فهذه من أفضل ما يقدم ماركسي للطبقة الرأسمالية التابعة، حيث يحرف الصراع الطبقي عن محوره لمصلحة “نضال” لا يحقق شيئاً سوى ما “تجود” به الرأسمالية تلك. النضال السلمي التدرجي يكرس سلطة الكومبرادور ويدفع الطبقات الشعبية التي تطحنها الأزمة ويرهقها الاضطهاد والاستغلال إلى البحث عن القوى التي تحتضن توتراتها هذه، وهذا ما قوّى القوى الأصولية، وعزّز التشققات من خلال الصراعات الهامشية العنيفة.
والمطلوب اليوم هو مواجهة الإمبريالية بمشروع ديمقراطي، والماركسية معنية بأن تقود النضال الديمقراطي إلى منتهاه الاشتراكي.
6. كانت لديكم مبادرات لتقريب وجهات النظر بين اليسار السوري والعربي , من اجل التنسيق والعمل المشترك, هل كانت هناك نتائج ايجابية؟ وما هي برأيكم أسباب ضعف العمل المشترك بين تيارات والأحزاب اليسارية في العالم العربي, محليا وإقليميا؟
مع الأسف أن المحاولة كانت فاشلة، فلم تفضِ إلى أية نتيجة رغم البيان الذي صدر في سبتمبر سنة 2006، وكان يحمل آمالاً عريضة بتحقيق خطوات ملموسة، ورغم اندفاع مختلف الأطراف التي شاركت في اللقاء الأول والقوى الأخرى التي انضمت للمحاولة. حيث لم نستطع بلورة تصور عمل ولا رؤية تعبّر عن الأهداف التي نسعى إليها، كما لم نستطع عقد لقاء آخر.
ولهذا كان طبيعياً أن ينتهي إلى الفشل دون أن نحقق شيئاً غير البيان الذي صدر في البدء، وبعض التواصل.
لماذا؟ ربما لا تتوقف المسألة عند هذه التجربة فقط، فإن كل المحاولات المحلية والعربية تقريباً وصلت إلى المأزق ذاته. أي العجز عن تطوير الخطوة الأولى إلى عمل مستمر. ومن خلال ملاحظة معظم التجارب في الوطن العربي سوف نلمس بأن السبب واحد في المآلات التي تفضي إليها. فمن الواضح بأن الوضع ليس ناضجاً للتفاعل والحوار والعمل المشترك. وأن ميول الانغلاق والتمحور حول الذات، إضافة إلى اختلاف الأولويات أحياناً، أو التمسك بإرث تاريخي، هي التي تبقي العمل متوقفاً عند صدور بيان أول، ومن ثم بعض الحوارات التي هي ليست ذات معنى، وبالتالي تفاقم الخلافات.
فالمتابع لكل المحاولات التي تعلقت بتوحيد اليسار في البلدان العربية سوف يستغرب انفراطها السريع، أو استمرارها دون فاعلية. ويمكن هنا أن نبدي بعض الملاحظات على هذه المحاولات من أجل توضيح الإشكالية، وكتقييم لتجارب عديد متكررة.
فأولاً: سنلمس بأن بداية كل المحاولات انطلقت من “دعوة اليسار”، وكلمة اليسار هنا تعني كل من يعتبر أنه يساري أو كان في حزب يساري. بمعنى أن الأساس الذي يجري البدء منه هو الماضي، أي كل من كان يسارياً بمعنى ما. ولهذا كانت الدعوة توجه إلى خليط من القوى والأفراد الذين لم يبق ما يجمعهم سوى الماضي اليساري. حيث أنهم في الحاضر مختلفون بل ومتناقضون، وكان هذا في أساس فشل الكثير من المحاولات التي طُرحت لتوحيد اليسار.
لقد تفكك الماضي اليساري ولم تعد المحدِّدات السابقة قائمة، حيث هناك تيار عريض تحوّل إلى الليبرالية، وأصبح يؤسس نشاطه على انتصار الرأسمالية أو استمرار الرأسمالية القائمة (رغم أنها رأسمالية تابعة)، وهناك من حصر نشاطه في حدود النضال الديمقراطي ومن أجل دولة ديمقراطية، بينما هناك من يسعى إلى تحقيق الاشتراكية، أو سلطة العمال. وأيضاً هناك من صمم على الطريق الإصلاحي ولا يريد لا الثورة ولا العنف، وهناك من يدعو إلى الثورة والصراع الطبقي. هناك من لا يطرح التغيير أو يطرح تغيير شكل السلطة الدكتاتوري، وهناك من يطرح تغيير السلطة كسلطة طبقية. هناك من يريد النضال السلمي ويرفض العنف وهناك من يبدأ من الثورة والمقاومة.
كذلك هناك من يعتبر بأن مواجهة الإمبريالية والدولة الصهيونية أولوية وهناك من يعتبر الدكتاتورية والإسلام السياسي أولوية. هناك من هو مع المقاومة وهناك من هو ضدها…..إلى آخره من القضايا التي توضح بأن التوافق الشكلي انطلاقاً من التسمية (وهذا هو أفظع سمات المنطق الشكلي) يخفي صراعاً طبقياً بين تيارات تمثل الرأسمالية التابعة أو الرأسمالية الوطنية (الوهمية في الواقع)، أو تمثل البرجوازية الصغيرة بتقلباتها وطموحاتها المزيفة وأوهامها، وتيارات تحاول أن تمثل العمال والفلاحين الفقراء. أو كذلك يمكن أن يكون بعضها تمثيل لصراع “حِرَفي” من الدرجة الأولى في صفوف البرجوازية الصغيرة.
ولهذا لم يكن يفيد التوصل إلى توافق على أهداف، ولا الحماس لتشكيل كتلة اليسار، ولا كذلك الحل الشكلي لأزمة عميقة يطرحها الواقع تتعلق بالضرورة التاريخية لدور اليسار.
وثانياً: سوف نلمس بأن كل الجهد كان منصباً على التوافق على الأهداف، لكن الأهداف وحدها لا تكفي. لهذا كنا نلمس الحماس قبل قيام التحالف، والحماس في بلورته، ثم ما يلبث كل هذا الحماس أن يتلاشى بعد إذ. فالمسألة لا تتعلق بإعلان برنامج، الأهم هو السياسة (أو الرؤية) التي تتبع ذلك. وأقصد أن البرنامج هو لإعلان الأهداف، لكن تحقق الأهداف يفترض النشاط العملي، الممارسة، السياسة، هنا كان يبدو واضحاً بأن ليس من رؤية عملية تحكم الكل. وهو الأمر الذي كان يدفع إلى اليأس والانزواء.
إن هدف التحالف الأساس هو قيادة النضال من أجل التغيير، وهذا يفترض رؤية للمهمات العملية، أي كيف يمكن الانخراط في نشاط الطبقات؟ وكيف يمكن تنظيم نشاطها؟ أو كيف يمكن دفع العمال والفلاحين الفقراء (وأنا هنا أتحدث عن طبقات في المجتمع وليس في الذهن) إلى الاحتجاج وإعلاء الصوت، وبالتالي التظاهر والإضراب؟ وكيف يمكن دفعهم لتشكيل نقابات واتحادات؟ كيف يمكن تنظيم النشاط النسائي من أجل الحقوق؟ وكذلك الشباب؟ لأن الهدف هو الانغراس وسط الطبقة وليس انتظار التحاقها بهذا التحالف لأن اسمه يساري.
إن المشكلة هنا تتحدد في أن الأحزاب المشاركة في هذا النشاط تقوقعت في صيغة وحيدة للعمل، وهو إصدار البيانات، والتركيز على “النشاط السياسي” الذي لا يعني سوى العلاقات السياسية (أي العلاقة بين الأحزاب)، والتعامل دون إستراتيجيات للعمل، وبالتالي بردود أفعال. لهذا لن تستطيع في إطار التحالف فعل أكثر من ذلك. رغم أن عملها يجب أن يتركز على تطوير نشاط الطبقة التي يعتبرون أنهم مدافعون عنها، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع طبقي وليس “نضال سياسي”.
هنا كنا نلمس بأن نشوة الانتصار بتحقيق تحالف يساري كانت تتبدد بعدئذ، أي حين الانتقال إلى النشاط. حيث ليس من رؤية لنشاط.
وثالثاً: المسألتان السابقتان تأسستا على أساس أن التحالف أو التوحيد ينطلق من الوصول إلى توافقات سياسية بالأساس، وليس على “رؤية فكرية”. هذا الأمر كان يحيّد تحديد طبيعة اليسار، كما كان يهرب من ضرورة الغوص في الجانب الفكري بحجة أن التحالف هو تحالف سياسي. وكان يسمح بخلط المتناقضات. لكن لأنه كذلك كان يصاب بالشلل العضوي، فلا يتقدم أكثر من الخطوة الأولى.
وإذا كان نجاح التحالف يفترض الارتباط بالطبقة التي يعبّر عنها فإن غياب الإطار الفكري كان يجعل العمل خارج البحث “النظري” من أجل تحديد السياسات الضرورية لذلك.
لهذا لم يكن في الوارد حل المشكلات “النظرية” التي يعيشها اليسار، التي هي وحدها ما يؤسس لتحول فعله من مستوى جزئي (سياسي ديمقراطي، شكلي) إلى مستوى عميق يرتبط بالصراع الطبقي.
وهنا كانت الخلافات أعمق، وكان يجري الهروب منها رغم ضرورتها. حيث أن هناك من هو “يساري” لكنه ليس ماركسياً، وهناك من كان ماركسياً وتخلى عن ذلك. ومن هو “ماركسي” لكنه مع البرنامج الرأسمالي. وفي هذا الوضع لا يمكن التوافق إلا على ما هو ديمقراطي. وأحياناً قليلة يمكن أن تضاف المسألة الوطنية أو “المطالب الشعبية”، لكن كمواقف وليس كممارسة، التي تبقى في حدود المطلب الديمقراطي.
وإذا كان التبرير في ذلك هو تحقيق التحالف، فإن الجوهر هنا هو أن هناك أزمة وعي، جعلت من الصعب الغوص في نقاش القضايا النظرية، لا قضايا الماركسية ولا قضايا الواقع ذاته، حيث أن قيمة النظرية هي في إضاءة الواقع، فهم الواقع. ودون فهم الواقع ليس من سياسة، أقصد ليس من ممارسة سوى الممارسة العفوية الانفعالية وردود الفعال.
بمعنى أن قصوراً في النظرية كان يحكم الأحزاب وبالتالي التجارب “الوحدوية” التي كانت تحاولها. وكان يتوضح بأن النظرية مهملة، ولا حاجة لها، رغم أن الحل نظري قبل أن يكون عملياً. لأن المطلوب هو بلورة رؤية للعمل.
في التجربة التي حاولناها حددنا الأسس التي ننطلق منها في دعوة الأحزاب، ولقد تمثلت في ألا يكون ليبرالياً أو مشاركاً في سلطة، وأن يكون مناهضاً للإمبريالية ويسعى لانتصار العمال والفلاحين الفقراء، وليس متحالفاً مع القوى الأصولية. وبالطبع أن يكون ماركسياً. وبالتالي كان الإشكال في النقطتين الثانية والثالثة، حيث بدا الاهتمام العملي ، بعد إصدار البيان الذي يدعو إلى تحالف القوى والأحزاب الماركسية، محدوداً. كما بدت الرغبة في الحوار لبلورة رؤية ضعيفة. ولهذا لم يتحقق شيء.
إن الوضع سريالي إلى حدّ ما. لكنه في الواقع مأساوي إلى حد كبير. حيث أن كل القوى باتت هامشية ودون قاعدة اجتماعية، وتشهد تشتتاً فكرياً هائلاً، والأخطر هو تراجع الوعي الماركسي، ومن ثم الانسياق خلف “الموجة الديمقراطية” وتجاهل كل المسائل الطبقية. وبالتالي التمحور حول الديمقراطية والنضال الديمقراطي. رغم أن أزمة العمال والفلاحين الفقراء، وكل الفئات الوسطى، في تعمق، وميلها للدفاع عن ذاتها يتصاعد. بمعنى أن الظرف الموضوعي يتهيأ لكن المشكلة فينا نحن.
7.تلتقي وتتعاون بعض الأحزاب الشيوعية العربية والشخصيات الماركسية العربية بالإسلام السياسي والأنظمة الدكتاتورية .. ما سبب ذلك؟
يمكن أن يوجه هذا السؤال لتلك الأحزاب، لكن يمكن ألا نعمم هنا، فهناك أحزاب شيوعية مشاركة في السلطة في نظم دكتاتورية وكذلك في نظم “ليبرالية”. وليست الدكتاتورية هي مقياس محدِّد وحدها، هناك تعقيدات سياسية يجب أن تلحظ من أجل تجاوز التبسيط الذي يحدث هنا. ورغم أنني ضد النظم الدكتاتورية وضد كل دكتاتورية، فإنني أحاول رؤية المسألة في إطار الصراع العالمي والصراعات الطبقية المحلية. وأرى بان المشكلة في هذا المجال تتمثل في طبيعة فهم التحالف، حيث مورس هذا المفهوم انطلاقاً من أنه يعني التبعية والتوافق المطلق، وبالتالي غض النظر عن الاختلافات والتناقضات.
وإذا حاولت الحديث عن علاقة أحزاب شيوعية مع نظم اليوم أشير إلى أن المسألة الخطرة هي أن هذه العلاقة تقام مع نظم ليبرالية سواء كانت دكتاتورية أو كانت “ديمقراطية” (مثل المغرب مثلاً). وإذا كانت تساق بعض المبررات سابقاً فإن المسألة اليوم باتت أقرب إلى الفضيحة. وهو ما بات يعني أن هذه الأحزاب قد أصبحت جزءاً من نظم ليبرالية، وبالتالي لا يمكن توصيفها سوى أنها أحزب ليبرالية بغض النظر عن التسمية والخطاب.
أما بخصوص العلاقة مع الإسلام السياسي فيجب أن نميّز هنا كذلك، حيث هنالك فرق بين تنظيم القاعدة والإخوان المسلمين وحزب الله وحماس و”المقاومة العراقية”. فحين تكون هناك مقاومة لقوى الاحتلال تكون عنصراً من عناصر النظر إلى مختلف الأطراف دون تجاهل كل العناصر. ولهذا من الطبيعي أن يقام شكل من أشكال العلاقة مع حزب الله أو حماس أو المقاومة العراقية ذات الطابع الإسلامي. فهنا تحالف ضد قوى الاحتلال، لكن هذا التحالف لا يعني تجاهل كل الاختلافات، على العكس يجب أن تكون واضحة أو يكون الصراع “الأيديولوجي” أساسي هنا، لأنه يجب أن تكون الحدود واضحة من جهة، ويجب أن توضح طبيعة هذه القوى، والحدود التي يمكن أن تقاوم ضمنها، من جهة أخرى.
هنا المحدِّد هو السياسي مع استمرار الصراع الأيديولوجي، وإلا كان البديل هو التحالف مع القوى المحتلة أو التعامل بالتساوي بينهما، وهما أمران خاطئان.
لكن يمكن الإشارة إلى طبيعة الإشكالية التي تحكم النظر لدى العديد من قوى اليسار، أو التي كانت في اليسار، حيث انفرزت إلى موقفين، الأول الذي يميل إلى الليبرالية أو أصبح ليبرالياً، الذي لمس الجانب الأيديولوجي في الحالة معتبراً أنه الأساس فيها. وهو الأمر الذي يجعله يعتبر أنها العدو. وهو هنا كان ينطلق من “الديمقراطية” والحداثة والعلمانية، لكنه جعلها العدو الرئيسي، مما كان يقرّبه من “الغرب”، أي من السياسات الأميركية التي تطرح أنها تقاوم الإرهاب الأصولي من أجل الديمقراطية. وهنا سقط في حضن الرأسمالية، وهادن السياسات الإمبريالية. والموقف الثاني الذي ينطلق من أن صراعه الأساسي هو ضد “الإمبريالية”، وبالتالي وجد في هذه القوى حليفاً. ولقد تعامل من منطلق التحالف الرائج، والذي يعني التبعية في جوهره لأنه يرفض النقد وتبيان الاختلاف وحتى التناقض، وأصبح البعض منظراً لتلك القوى.
وسأشير، رغم هذا التناقض البادي بين الموقفين، إلى أن كل منهما ينطلق من الأساس ذاته: المنطق الصوري. وهو المنطق الذي يفرز المواقف إلى لونين، أبيض وأسود، وعلينا أن نقف هنا أو هناك بلا مواربة. لهذا كان موقف كل منهما يحدد موقعه بشكل مطلق، وينطلق منه لرفض معاكسه، فليس هنا سوى الموقف ومعاكسه، لأن هذا هو منطق العقل الأحادي. ولهذا يعجز هذا المنطق المتحكم بالطرفين عن تلمس تعقيد التناقضات، وتشابكها وتعددها، وبالتالي يعجز عن تحديد تكتيك صحيح ضمن كل ذلك دون أن يتخلى عن رؤيته. فإذا كان الموقف الليبرالي يعتبر بأن الأصولية هي مركز صراعه فإنه يعجز عن فهم أساس استمرارها، المرتبط بتعقيدات التطور التاريخي الذي فرضته السيطرة الاستعمارية، ثم ما بعدها، والذي منع انتقال مجتمعاتنا إلى مرحلة الحداثة عبر تصنيعها. مما أبقى البنى التقليدية والوعي التقليدي، الذي يعود كلما انتكست حركة الصراع من أجل التطور. وبالتالي يتجاهل خيبة اليسار (الذي كان منه) عن تحقيق التطور، ومن ثم انهياره. لهذا عليه أن يلمس الأساس العام الذي فرض استمرار الظاهرة، وهنا يجب أن يكون موقفه واضحاً من الإمبريالية، والسيطرة الرأسمالية، فهي من يمنع التطور، ويبقي هذا الوعي. وإذا كان الموقف المعادي للإمبريالية يندفع نحو هذه القوى فإن السؤال الضروري هنا هو كيف يمكن تبرير ليبرالية هذه القوى التي تصارع الاحتلال؟ وكيف يمكن مقاومة الاحتلال والقبول بالسياسات الاقتصادية التي يريد فرضها من خلال الاحتلال؟ أو مقاومة الاحتلال بوعي يقود إلى تفكك المجتمع عبر تصعيد “الإرث التاريخي” في الصراع بين الطوائف، أو انطلاقاً من موقف أصولي متشدد يرفض كل مخالف؟
إن العمل الماركسي يفترض تحديد الواقع أولاً، وطبيعة القوى الطبقية ثانياً، ومن ثم تحديد التناقضات، الرئيسي والثانوي ثالثاً، قبل تحديد السياسات والتكتيك الضروري في العلاقة مع القوى الأخرى. وبالتالي تحديد أشكال الصراع على مختلف جبهات التناقضات. وهو هنا يمكن أن يتوافق ويتناقض من الطرف الواحد،فالمسألة هي مسألة مصالح طبقية تفرض توافقاً لكنها تفرض تناقضاً كذلك. الواقع متعدد، والتناقضات متعددة، وأشكال الصراع متعددة كذلك، ولا يمكن أن يفيد المنطق الصوري هنا في شيء. وهو الأمر الذي يفرض تجاوز التبسيط، و”وحدنة” التناقض، وبالتالي النظر الأحادي لها التناقض.
8.تطرحون ماركسية – عربية – بمفهومها القومي ألا يتناقض ذلك مع الفهم الإنساني للماركسية؟
ربما يشير السؤال إلى استنتاج مما أطرح، وهو استنتاج متسرع، حيث هناك فارق كبير بين أن تتناول الماركسية كطريقة في البحث والاستنتاج واقعاً معيناً وبين أن “توصم” بطابع هذا الواقع. ربما كنت في بعض المراحل قد استخدمت تعبير الماركسية العربية، ولكن تبدو لي المسألة أعقد من هذا التبسيط. لقد درج تعبير الماركسية العربية في مرحلة معينة من قبل ماركسيين عرب كبار مثل ياسين الحافظ والياس مرقص وناجي علوش وعبد الرحمن منيف واحسان مراش، لكن يجب أن نفهم مبررات هذا الاستخدام الذي لم يأتِ عبثاً. فقد جاء كرد على طابع الماركسية الذي درج مع الحركة الشيوعية العربية، هذه الماركسية التي اسماها الياس مرقص الماركسية السوفيتية، والتي كانت مبنية على تحليل “العلماء السوفيت” انطلاقاً من كونهم هم “منظري الماركسية”، والتي كانت تتعارض مع ما يطرحه الواقع العربي من أهداف ومطامح (مثل الوحدة العربية وفلسطين)، بحيث بدت كبنية أيديولوجية “خارجية”. هذه المسألة طرحت ضرورة “تعريب” الماركسية، أو ضرورة “تبيئة” الماركسية (كما أشار احسان مراش في عنوان كتاب له)، بمعنى ضرورة فهمها للواقع القائم في الوطن العربي. وكانت هذه ضرورة، ولازالت كذلك. وحين تعاملت مع هذا التعبير تعاملت معه على هذا الأساس، لكن نتيجة بعض التحسسات الموجودة في الوطن العربي نتيجة عدم تطابق الدولة والأمة، وبالتالي تحوّل “الجنسية” إلى سمة موحدة للأغلبية القومية والأقليات، بحيث يجري تعريف المواطن بالانتماء إلى الدولة الأمة (التي ستكون في كل الأحوال عربية مثل الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية، وهنا يصبح هذا التعبير “محايداً” وبالتالي يسم الكل)، بت أميل إلى استخدام تعابير مثل الماركسية في الوطن العربي، وأقصد الماركسيين الذين ينشطون في الوطن العربي.
أما الماركسية فهي فكر، والفكر عالمي بالضرورة، ولا يمكن حصره في أمة. لكن يجب أن نلاحظ الفارق بين الفكر بالمعنى المجرّد والتوضع الفكري في تكوين معين. أقصد بأن الماركسية هي تجريد، وهي بالأساس منطق تفكير (وهذا هو الطابع الفلسفي فيها)، إضافة إلى منظومة من القوانين والمفاهيم والمقولات، وإلى الرؤى للواقع والتاريخ، وهي بهذه السمات فكر، لكن هذا الفكر هو المدخل الذي يوجه “العقل” لفهم الواقع المحدَّد، وبالتالي فإن نتاج هذه العملية هو الفكر الخاص بأمة معينة وبالعالم. وهذا ما يمكن أن نستخدم إزاءه تعبير أيديولوجية، التي تعني الأفكار والوعي المعبر عن مصالح طبقية تخص طبقة عاملة معينة في أمة محدَّدة، وفي زمن محدَّد. هنا يصبح الفكر جزءاً من الفعل السياسي القائم على الصراع الطبقي، وبالتالي لا يمكن له أن يكون مجرّداً، بل يجب أن يطرح مشكلات واقعية ويتناول أهداف محدَّدة. هذا المستوى الثاني هو ما كان يُقصد بالماركسية العربية، لأن هؤلاء الذين طرحوا التعبير كانوا يعون الفارق بين المجرد والمشخص.
ولهذا ما أطرحه هو أن الماركسية هي منهجية، طريقة تفكير، هي الجدل المادي، الذي يفرض علينا ضرورة أن نبحث في الواقع العالمي الراهن، وأن نفهم واقعنا الخاص، من أجل أن نستطيع بلورة بديل يعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء في الوطن العربي. وإلا ظللنا في “التجريد”، وظل الواقع عصيّ على فهمنا. بالتالي الماركسية هي الماركسية وليس هناك لون قومي لها مادامت هي الفكر، ككل التيارات الفكرية التي لا يمكن وصمها بطابع قومي معين. لكن الماركسية تطرح مشروعاً للتطور وتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء، وهؤلاء متعينون وليسوا تجريداً عاماً، وإذا كان مفهوم الطبقات مفصلي في الماركسية ولا يمكن تجاهله فإن مفهوم الأمة يجب أن يوضع في مكانه في إطار التطور التاريخي. بمعنى أن العالم هو طبقات وأمم وليس طبقات فحسب. وهذه مسألة إشكالية في الماركسية التالية للينين، وفي الماركسية السوفيتية خصوصاً، لأن الميل “الإرادوي” لتجاوز الوضع الذي كان قائماً في الاتحاد السوفيتي كونه يتشكل من أمم، كما لتحويل الدولة السوفيتية كمركز للصراع العالمي وكمقرر لسياسات الأحزاب الشيوعية، كان يفرض الميل لتجاهل مسألة الأمة وتشويه المسألة القومية، وبالتالي الحديث عن أممية مفرغة من وجودها الموضوعي، كون الأممية (حتى بالمعنى اللفظي لها) هي تعبير عن اتحاد أمم، وبالتالي تحويلها إلى كوزموبوليتية (مواطنية عالمية موهومة). لهذا أصبحت السياسة التي تنبني على “الماركسية” تفترض تجاهل مسألة الأمم وكل المسألة القومية، وتنطلق من شن هجوم أيديولوجي ضد التعصب القومي. وبالتالي تقع في مستنقع السياسات الاستعمارية التي فرضت التجزئة في الوطن العربي، حيث ليس من نضال “أممي” مجرّد، بل هناك نضال أممي يجري في واقع معين، وهذا الواقع يمكن أن يكون دولة أمة، أو أمة مستعمَرة، أو امة مجزأة. ولهذا تأسست هذه “الأممية الزائدة” على أساس الدولة القطرية، وبالتالي بدل أن تعزز الأممية عززت التجزيء والقطرية، وأصبحت في صراع مع كل الميول القومية.
لهذا حذار من الاستمرار في هذا الفهم المبتذل لتصور الماركسية للمسألة القومية، الذي يجب أن يُشدَّد النقد ضده لأنه كان من أسباب فشل الحركة الشيوعية في البلدان العربية. الماركسية التي تنطلق من صراع الطبقات تفهم بأن هذا الصراع لازال يجري في أمم، لهذا أشار ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي إلى أن الطبقة العاملة تناضل ضد برجوازيتها أولاً، ولهذا كرر إنجلز في المقدمات التي كتبها للبيان الشيوعي التأكيد على ضرورة المسألة القومية: الاستقلال القومي والوحدة القومية، فالعالم، إلى اليوم، هو عالم أمم، وليس من الممكن تجاوزه إلا بتحققه كذلك. وبالتالي على “الماركسيين” الكف عن “شيطنة” القومية والمسألة القومية لتبرير سياسات كانت تقوم على التبعية للمنطق السوفيتي الذي كان يتحاشى القومية، وعلى التذيل للبرجوازية التي كانت تتشكل في البلدان العربية، والتي كانت تعي بان وجودها قائم على وجود الدولة القطرية، فهذه هي المساومة التي أقامتها مع الرأسمالية الأوروبية آنئذ. وبالتالي كانت تجعلهم يتكيفون مع النمط الرأسمالي العالمي وهم يعتقدون بأنهم يناهضونه، ويسعون إلى تغييره.
ما أطرحه، وما أسميته أنت المفهوم القومي لماركسية عربية، هو انه لا يمكن لماركسي أن لا يرى الواقع بأبعاده المتعددة، والمسألة القومية العربية هي احد هذه الأبعاد المهمة. فالعرب أمة تشكلت في التاريخ وليس في الأوهام، وتفككت في مراحل عديدة، وعملت الرأسمالية وهي تسعى للاحتلال والسيطرة على رسم تصور إستراتيجي لما يجب أن يكون عليه الوطن العربي، سواء فيما يخص التطور الاقتصادي أو التشكيل “الدولتي”، لأنها كانت تهدف إلى منع تطوره الصناعي (وهو ما ظهر في مواجهتها لتجربة محمد علي باشا في مصر والمنطقة)، وعدم تحوّله إلى دولة موحدة قوية في موقع إستراتيجي يمكن أن يشل سيطرتها على آسيا (طريق الهند). هذا الأمر هو الذي فرض تكريس التجزئة التي كانت قائمة في نهاية الدولة العثمانية من جهة وتجزيء الباقي من جهة أخرى، ثم إقامة كيان حاجز هو الدولة الصهيونية. وكما اشرنا فإن في عمق هذا الصراع مصالح طبقية تخص الرأسمالية الأوروبية الناهضة.
وهو الأمر الذي جعل الصراع الطبقي يتداخل مع الصراع القومي بحيث ليس من الممكن الفصل بينهما. ولهذا ليس على الماركسي الذي يريد هزيمة الرأسمالية سوى أن يجعل المسألة القومية جزءاً جوهرياً من سياساته. فليس من إمكانية لبناء صناعة تؤسس لتعامل متكافئ على الصعيد العالمي دون السوق القومية، وليس من هزيمة للسيطرة الإمبريالية إلا من خلال الصراع في الإطار العربي (ببعده العالمي).
أظن بأن هذا الطرح يتوافق مع الفهم “الإنساني” للماركسية، ما دام هدف ذلك هو تحرير الإنسان وتطوير قدراته.
9. ما هو الموقف الماركسي تجاه مسألة الأقليات القومية في العالم العربي ؟ وهل تؤيد حق تقرير المصير لها والانفصال عن الدول العربية التي تعيش فيها؟ الأكراد في سوريا والعراق مثلا.
ربما كانت مسألة الأقليات القومية من المسائل التي جعلت النقاش حول المسألة القومية العربية مشوشاً، حيث أصبح حق العرب في الوحدة يعني هضم حقوق الأقليات القومية التي تعيش في الوطن العربي، وأصبح حتى الحديث عن وطن عربي يعني تجاهل وجود هذه الأقليات، وبالتالي بات الميل لشطب أو تمييع هذا التحديد (بالقول مثلاً العالم العربي، رغم أن ذلك لا يلغي ما يتحسس منه البعض بحجة الأقليات القومية، لأنه يخص العربي بتحويلهم من امة إلى عالم، وبالتالي يبقى الطابع العربي هو المحدِّد لهذه المنطقة سواء أسميت وطن أو عالم). وربما كانت الميول لدى جزء من الحركة القومية العربية لتجاهل وضع الأقليات أو حتى إلى ممارسات “تعصبية” ضدها، هو الذي يدفع إلى ذلك، لكن الحركة الشيوعية التي تجاهلت المسألة القومية العربية تجاهلت كذلك مسألة الأقليات القومية، واستعاضت عن ذلك بالدولة القطرية التي باتت هي “السمة القومية الموحدة”. أي بدل العرب والأكراد نقول العراقيين أو السوريين، وبدل العرب والأمازيغ نقول المغاربة أو الجزائريين. ولتتحول هذه الدول إلى “أمم” تتكون من أصول متعددة قومياً.
الآن، حين أتحدث عن المسألة القومية فإنني أتحدث عن شقين: المسألة القومية العربية التي تتعلق بالتوحيد القومي، ومسألة الأقليات القومية وأجزاء من أمم تعيش في الوطن العربي أو في مناطق ضُمت إلى دولة من دوله. حيث أن حل مشكلة الأغلبية لا يجب أن يهمل مشكلة الأقليات. وحق القومية الأكبر في الوحدة والاستقلال لا يجب أن يلغي حقوق الأقليات. وانطلاقاً من ذلك أعتقد بان مسألة الأقليات القومية في الوطن العربي تنقسم إلى شقين، الأول: هو ذاك المتعلق بأجزاء من أمم وقعت مع التقسيم الاستعماري في حدود دولة من الدول العربية، وهنا بالخصوص الأكراد، والثاني هو ذاك المتعلق بالأقليات القومية التي سكنت ولازالت على الأرض العربية.
في الحالة الثانية، لاشك في حق هذه الأقليات، طبعاً إضافة إلى الحق الطبيعي في المواطنة، هذا الحق الذي يشمل كل من يحمل جنسية الدولة الأمة، حقها في التعبير عن لغتها وثقافتها ومدارسها وتراثها، وصولاً إلى “الحكم الذاتي” أو أي شكل للإدارة الذاتية.
في الحالة الأولى، يكون من حق هذه الأجزاء أن تكون جزءاً من دولتها القومية.
طبعا هناك حالات أخرى مثل جنوب السودان حيث يشكلون مجموعة قومية، وهناك مجموعات هي استمرار لمراحل حضارية تاريخية مثل الآراميين والسريان والكلدان والأمازيغ، هناك التباس في العلاقة بينهم وبين العرب في سياق التطور التاريخي. وبالتالي يمكن التوافق هل يمكن وضعهم في إطار الأقليات القومية أم هم جزء من العرب.
من هذا المنطلق فإن حق تقرير المصير هو لأجزاء الأمم التي هي جزء من دولة عربية، أما الأقليات القومية فليس من حقها ذلك لأنه حق يخص الأمم، وهذه مسألة يجب الانتباه إليها لأن تجاهل أن الماركسية تطرح حق تقرير المصير للأمم يقود إلى فوضى وتفكك، وبالتالي لا يعود من معنى لهذا الحق. لقد صيغ هذا الحق كحق للأمم لكي تستقل وتتوحد.
أما حول الأكراد، ورغم أشارتي السابقة حول كونهم جزءاً من أمة، أشير هنا إلى أنه ليس كل وضع الأكراد متشابه، فهم في العراق على أرضهم التاريخية(رغم بعض الخلافات حول الأرض)، لكنهم في سورية ليسوا كذلك لأن وجودهم في الجزيرة السورية حديث، وجزء كبير منه في السنوات الأربعين الماضية. وبالتالي فإن الحل في سورية هو غيره في العراق. في العراق من حقهم الاستقلال طبعاً، أما في سورية فهم أقلية قومية وبالتالي لهم حقوق الأقلية القومية.
سأشير هنا إلى أن المسألة القومية في الشرق متشعبة نتيجة طابع الجغرافيا السياسية التي تشكلت خلال عشرات العقود وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى. لهذا فقد تجزأ العرب، وضمت تركيا ما بعد الإمبراطورية أجزاء من أمم مثل الأكراد والعرب والأرمن، وكذلك إيران. وفي هذا الوضع يبدو أن العرب والأكراد هم من سُحقت قضيته القومية. وبالتالي فإن الأفق المستقبلي يجب أن يتضمن حلاً للمسألة القومية بين شعوب هذه الأمم، وبالأخص من قبل العمال والفلاحين الفقراء، وهو حل يقوم على إعادة بناء الجغرافيا السياسية على أساس مبدأ الدولة الأمة. وهذا الوضع الذي يجب أن يتوافق على أساسه ماركسيو هذه الأمم، وأن يؤسسوا تحالفهم المشترك من أجل انتصار الاشتراكية في كل الشرق لبناء شرق جديد: اشتراكي.
10. الكثير من الفصائل اليسارية العربية تدعم – المقاومة العراقية – بالرغم من طابعها الإسلامي-البعثي القومي والديني المتعصب والعنيف , وتخون معظم فصائل اليسار العراقي لإدانتها تلك – المقاومة- , ما رأيكم في ذلك؟
المشكلة أن المسألة التي تناقش هنا هي الموقف من المقاومة وليس الموقف من الاحتلال، ولكي أقطع الطريق على من يقرأ سطر ويتجاهل الموضوع أقول بأنني ضد كل أشكال الإرهاب الذي يمارس ضد العراقيين، وأظن أن جهات متعددة تقف وراءه من بعض أطراف “المقاومة” إلى بعض أطراف العملية السياسية إلى الولايات المتحدة التي دربت منذ ما قبل الاحتلال أفراد “عراقيين” على ممارسة الإرهاب، إضافة إلى الشركات الأمنية التي هي في خدمة الاحتلال. كما أنني نبهت من الطابع الطائفي للمقاومة منذ بداية سنة 2004، ونبهت من خطر القاعدة والزرقاوي، ومن الانحدار بالمقاومة إلى صراعات طائفية (والمقالات موجودة على موقعي الخاص في موقع الحوار المتمدن لمن يريد العودة إلى ذلك).
لكنني أؤيد المقاومة، وأرى أنه ليس ماركسياً من لا يؤيد مقاومة الاحتلال. إن مقاومة الاحتلال هي أساس رؤية الوضع، وأساس تقييم القوى والأحزاب. إنها حد أول كما يمكن أن أنبه. ومن هذا المنطلق فإن الصراع يُفرَز على أساس وجود الاحتلال. المسألة لا تحتمل الحيادية هنا، ولا يمكن أن ننظر إلى أي من السياسات الأخرى إذا لم تقم على أساس مقاومة الاحتلال، حيث إن تحقيق الاستقلال هو الأولوية بالضرورة.
وإذا كنت لا أستخدم كلمات مثل التخوين لأنني أعتقد بأنها تقع في مجال القانون ولا مكان لها في السياسة، فإنني معني بتحليل الأسباب التي جعلت الحزب الشيوعي العراقي يندمج في الترتيب الأميركي لوضع العراق منذ البداية، وأن يركز الهجوم على المقاومة كونها إرهاب، خالطاً بين الإرهاب الذي يحصل ومقاومة القوات الأميركية والقوات العراقية التي تبنى للحفاظ على المصالح الأميركية. وبالتالي مبرراً مشاركته في الوزارات وهيئات الدولة، الطائفية من جهة (كونها قامت على أساس المحاصصة الطائفية) والخاضعة للاحتلال من جهة أخرى. هل يمكن أن ننظر بحيادية للسيطرة الأميركية وللنهب الذي تمارسه في العراق؟
هذا الوضع سوف يسمح لمن هم ضد الاحتلال تخوين هذا النمط من اليسار، الذي برأيي لم يعد يساراً ولا شيوعياً. فإذا كان المشروع الشيوعي قام على أساس تغيير النمط الرأسمالي ومناهضة الإمبريالية بالمعنى العام (وأنا هنا أشير إلى عمومية الأفكار لأن الوضع لم يكن كذلك إلا جزئياً في الحركة الشيوعية العربية كما أشرت قبلاً) فإن الأمر الآن هو التكيف مع سيطرته، واخطر مع احتلاله، هذه المسألة التي كان الموقف الماركسي منها حاداً إلى أبعد حد. لقد انتهى نظام صدام حسين ولقد تشكل الوضع الجديد على أساس الوجود الاحتلالي من جهة، وعلى سيطرة مافيات طائفية من جهة أخرى، فكيف يمكن أن يكون “الماركسي” مشاركاً في هذا الوضع؟
من هنا أقول بأن هؤلاء ليسوا ماركسيين حكماً، ولم يعودوا من القوى التي تناضل ضد الرأسمال والإمبريالية وتسعى إلى الاستقلال. وهم، كما في تاريخ الحركة الشيوعية منذ ما بعد فهد وسلام عادل، يمثلون فئات من البرجوازية الصغيرة التي تميل إلى التكيف مع سيطرة الرأسمال. ولقد كانوا دوماً مع “التطور التدرجي” المنطلق مما هو قائم ولم يكونوا مع التغيير إلا كاستثناء مفروض عليهم.
لهذا سيكون موقف معظم اليسار العربي في معظمه من “معظم فصائل اليسار العراقي” طبيعياً حينما يكون اليسار العربي في صراع مع الإمبريالية ومع التحرر.
أما بالنسبة للمقاومة العراقية فإن مشكلتها أنها اتخذت طابعاً دينياً، وبدت أنها مرتبطة بأعضاء من حزب البعث الذي مثّل النظام الذي يُنظر إليه كأقسى الأنظمة القمعية. وطبعاً لقد أشرت إلى أنني ضد الميل التعصبي الطائفي والديني والقومي، ولا أرى في القاعدة قوة مقاومة بل هي جزء من القوى التي تسهم في تكريس الاحتلال من خلال تركيزها على المنطق الطائفي المغرق في تعصبه وتحويلها الصراع ضد الشيعة إلى صراع يحظى بالأولوية (وهذا طبيعي وحتمي لمنطق تشكل قديماً على أساس تكفير كل من يخرج على الملة)، فهذا ما يريده الاحتلال، أي تفكيك المجتمع إلى طوائف وملل، وتحويل الصراع فيما بينها إلى صراع يومي. ونتيجة كل ذلك تراجع وضع المقاومة في السنوات الثلاث الأخيرة.
لكن، ألا يجب أن نسأل، لماذا كانت هذه القوى هي التي قاومت؟ ولماذا لم يتقدم اليسار الصفوف في المقاومة؟
أظن بأنه لا يجوز لنا أن نصدر الأحكام على الظواهر بعد أن تنشأ ولا ندرس لماذا نشأت، وبالتالي لا نطرح السؤال حول ما هو دورنا. لا يكفي أن ندين “المقاومة الصدامية” أو “الإرهاب التكفيري”، بل يجب أن نفهم لماذا كان هؤلاء هم المقاومة؟ ببساطة لأن هؤلاء هم من مارس المقاومة وليس الحزب الشيوعي الذي ركض لكي يتحصل على مقعد في مجلس الحكم ثم في الوزارات المتعاقبة. ومع الأسف أن كل أطراف اليسار الأخرى لم تفكر في الأمر إلا هوامش ليست فاعلة، وبعضها انجرف خلف هذه المقاومة التي تتخذ طابعاً طائفياً.
لهذا يجب أن نحدد بأن العراق محتل، وأن المقاومة هي الأسلوب الرئيسي في هزيمة الاحتلال، وأن القوى الماركسية هي التي يجب أن ترسم إستراتيجية المقاومة، وأن تطور صراع الطبقات الشعبية ضد الاحتلال والسلطة الاحتلالية، سواء عبر الكفاح المسلح أو عبر كل الأشكال الممكنة، لأن الشكل الذي صاغه الاحتلال من خلال تشكيل دولة تابعة وفئات مستفيدة من السلطة يفرض كل أشكال الاحتجاج، الإضرابات والتظاهر. أما أن نبقى في موقع الرفض للمقاومة لأنها بعثية أو طائفية فلا معنى له، لأن دورنا يتأسس على وجود الاحتلال وليس على هذه الأشكال من المقاومة (وأقصد هنا قوى المقاومة ضد الاحتلال بغض النظر عن خلفياتها). ووجود الاحتلال يفرض علينا المقاومة وليس المشاركة في “العملية السياسية” التي هي عملية تشكيل حكومة خاضعة للاحتلال.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى