صفحات العالمما يحدث في لبنان

لبنان على طريق الاضطراب الكبير

سليمان تقي الدين
بدأ العد العكسي لانفجار الأزمة اللبنانية مجدداً على أساس التعامل مع القرار الاتهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومسألة شهود الزور . هناك سباق مع الزمن بين صدور القرار الاتهامي، وبين الاتجاه المعاكس الذي تطالب به المعارضة، وهو وقف صدور هذا القرار عبر فتح ملف شهود الزور الذي يفترض أنه يصيب مصداقية المحكمة وقرائنها وحيثياتها . في واقع الأمر تريد المعارضة تعطيل المفعول السياسي للمحكمة، بينما يتمسك بها الفريق الآخر بوصفها أداة ضغط على “حزب الله” ومقدمة لإجراءات تحاصره وتعطّل دوره .
من الواضح أن المحكمة لم تعد تحت سيطرة الفرقاء اللبنانيين أو الإقليميين، وهي نشأت بقرار عن هيئة الأمم المتحدة (مجلس الأمن الدولي) وتحت الفصل السابع، ويحتاج إلغاؤها إلى قرار دولي . بل إن تصريح الأمين العام للأمم المتحدة هذا الأسبوع القائل بعدم جواز استجابة المحكمة لمطلب أي فريق الاطلاع ولو جزئياً على بعض الوثائق، هو دليل على هذا الموقع لهذه المحكمة وهذا الدور .
إن هذا الواقع يعني بالفعل أن المحكمة قد صارت جزءاً من الصراع الدولي على “الشرق الأوسط” كله . ففي ثنايا التحقيق ونظام المحكمة والتسريبات الصحفية والاتصالات الدولية، تؤكد جميعها أن للمحكمة ثمناً كبيراً، وأنها محل تفاوض على أعلى المستويات الدولية .
عندما اقترب صدور القرار الاتهامي وما صار معروفاً عنه وفق حركة الدول، صدر من سوريا القرار القضائي بملاحقة وتوقيف مجموعة من رجال السياسة والقضاء والأمن والإعلام باعتبارهم مدّعى عليهم من أحد المتضررين من “الشهادة الزور”، ما زاد من تعقيدات الموقف وتلكؤ الحكومة اللبنانية عن اتخاذ المبادرات لمعالجة الوضع الخطير . أكدت المعارضة إصرارها على معالجة ملف شهود الزور الذي اعترف به رئيس الحكومة لكنه لم يقم بأي عمل لتحريك جدي لهذا الملف، ما تعدّه المعارضة شراء للوقت وتمييعاً للموقف . ورداً على هذا الموقف بادر أحد أطراف المعارضة إلى إعلان مقاطعة أعمال الحكومة ما لم يبت بالموقف من هذا الملف .
يبدو من الواضح أن حكومة الوحدة الوطنية أخفقت في أن تجد قواعد مشتركة لإدارة البلد . لم يعد ممكناً التعايش داخل الحكومة بين مشروعين أحدهما يسند نفسه إلى ما يسميه “المجتمع الدولي” وآخر يسند ظهره إلى ظروف إقليمية عززّت موقعه ودوره . لكن القضية الأساس التي تضغط على الوضع اللبناني ليست التطورات الإقليمية وحدها، بل إن موضوع المحكمة الدولية هو الذي يسرّع هذا التأزم السياسي، لأن صدور القرار الاتهامي كما صار معلناً يصيب “حزب الله” ويشكل ذلك مدخلاً لقرارات دولية أخرى تؤثر سلباً في كل القضايا الوطنية . ففي نظام المحكمة الدولية يُلزم لبنان أن ينفذ قرارات المحكمة، الأمر الذي يتسبّب بالتصادم بين الدولة ومؤسساتها ومؤسسات “حزب الله” . على هذا الأساس يبدو أن “حزب الله” والمعارضة قد اتخذوا القرار بمواجهة هذا الوضع على مستوى جذري بالتصدي لهذا “الخطر” عبر استباقه بتغيير توازنات السلطة، وإزاحة الرموز الذين يعدون معنيين بكل شبكة ما سمي “الشهود الزور”، والذين أسهموا في رعايتهم بصورة أو بأخرى وتسببّوا بالأزمة السياسية . قضية “الشهود الزور” هي مسألة مفتاحية بنظر المعارضة لإثبات صحة وصدقية التحقيق الذي يرتكز إليه القرار الظني . والمعارضة تستقوي باعتراف المحكمة أصلاً بوجود هؤلاء الشهود الزور، وكذلك رئيس الحكومة في تصريحه لجريدة “الشرق الأوسط” . وقد ترتب على هذه الشهادات كما هو ثابت، اعتقال مجموعة من قادة الأجهزة الأمنية أربع سنوات ثم إطلاقهم لبراءتهم . أكثر من ذلك، بعد أربع سنوات من التركيز على سيناريوهات تؤكد مساهمة سوريا أو تورطها في الجريمة، فجأة يتحول الاتهام السياسي إلى “حزب الله” . والسؤال الذي يفرض نفسه، هل كان هذا الاتهام السياسي عرضياً ومصادفة بعد أن شارك مئات من الشهود في محاولة إثبات ذلك، ثم يجري الآن ومن نفس الأشخاص اتهام “حزب الله”؟
لقد تبّين خلال السنوات الأربع أن بعض المعنيين بالأمر كانوا في رعاية وعهدة قوى سياسية ودول إقليمية وكبرى، وأن هؤلاء يتحركون بحماية ويقدمون الخدمات وفق الطلب، وأنهم يدلون بإفادات متناقضة . وبالفعل فإن المؤسسة القضائية اللبنانية وكذلك الأمنية لم تتحرك خلال الفترة الماضية لتصويب المناخ السياسي وملاحقة الذين شاركوا في أزمة العلاقات اللبنانية السورية وفي ما بين اللبنانيين . فقد صارت المؤسسات موضوع شكوى، وقد تحركت هذه المؤسسات على شكل استنسابي في الكثير من الأحوال . كل هذه الأمور أعادت النقاش إلى المربع الأول، أي إلى لحظة نشوء المحكمة وإقرارها وكيف حصل ذلك بصورة مغايرة للأصول القانونية والدستورية، وكيف لم يحصل إجماع على نظام المحكمة وعدم إعطاء الفرص الكافية لمناقشة هذا النظام . وفي مكان ما أُعيد النقاش حول الظروف السياسية التي نشأت فيها هذه المحكمة . أما الشأن السياسي الذي يشكل عنصر قلق لدى بعض الأطراف، فهو عدم الجدية في تناول مسألة العملاء واختراقهم للأجهزة اللبنانية والمؤسسات، ومنها مؤسسة الاتصالات والافتراض أن العدو الصهيوني له دور كبير في كل ما جرى خلال المرحلة الماضية من اغتيالات وتخريب .
هذا المأزق اللبناني يقود إلى اقتراب لحظات التصادم الأمني ما لم تبادر الحكومة والأطراف الأساسيون إلى إيجاد مخارج سياسية لا تبدو موضع سعي جدي لدى أي من القوى الأساسية .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى