حزيران السوري
كمال خلف الطويل *
كثيراً ما أملت أن يأتي وقت إدلاء شهود مرحلة من تاريخ سوريا الحديث ــ طمست معالمها وجهّلت شخوصها لثلث قرن ونيف ــ بدلوهم في كشف الأحجبة والأستار عن تلك المرحلة، التي هي بالقطع واحدة من أهم الفترات المكوّنة لمسار الحوادث مذذاك الزمان وللآن وما بعد.
أبدأ بالقول، من دون مجاملة أو تحيّز، أن كل قيادات تلك المرحلة 1966 ــ 1970، هي وطنية في الجوهر… سليمة الطويّة وحسنة المقاصد.
■ حبيب حداد وحافظ الأسد
هم فتية جلّهم ريفيّ المنبت، مالوا إلى اليسار لما كان الإفراط فيه هو الصرعة الدارجة، وتمثّلوا النموذج السوفياتي حينما كان الأنموذج والمثال، وخلطوا بين الحماسة وقدرة الفعل لحدّ أن توغّلوا في انتهاج سياسات إقليمية بعدت عن حسابات العقل وجنحت إلى التحرق المأزوم لتصدّر ساحة العمل الثوري العربي كيفما اتفق.
لكنهم في نهاية النهار جزء من حركة التحرر الوطني العربية، نختلف معه ونتفق، ويستحق أن تراجع سيرته بهدوء الملمّ وحلم المنصف.
ولست للحظة من مصدّقي اتهام أحد بارزيهم لأقرانه بالعمالة للاستخبارات البريطانية كما صارح الأستاذ هيكل (وفق رواية الأخير)، ولا مع اتهام أقرانه (قبل شباط وبعده) له بالارتباط مع الجهة ذاتها عند زيارته لندن عام 1965.
ذلك كله لغو لا طائل تحته ولا يصح لحصيف أن ينزلق في مساربه.
الأحياء من قيادة تلك المرحلة هم يوسف زعين ومحمد الزعبي وإبراهيم ماخوس وفايز الجاسم ومصطفى رستم وعبد الحميد المقداد ومروان حبش وحديثة مراد وسعيد طالب وكامل حسين و… حبيب حداد.
والأخير هو الوحيد الذي تقدم للآن بشهادة ــ وجيزة ــ عن 1967، لكنه امتد بالعرض ليغطي الصراع الداخلي بين الحزب ــ وهو من مجموعته ــ والجيش، فانصرف جهده عن التركيز على فترة 66 ــ 67 إلى بيكار زمني أفسح يلبي رغبة الكاتب في تصفية الحساب مع من كان رفيقه في الحزب والحكم… حافظ أسد.
11 مغالطة ارتكبها حداد
وبدءاًً، فإنّني أناشد باقي الأحياء أن يتقدّموا ويقولوا كلمتهم ولا سيما أنّ شهادة د. حداد محدودة في الاتساع والعمق، ولا تفي بعُشر معشار ما هو مسكوت عنه.
أبدأ بمجموعة من أخطاء التأريخ ــ بل والرأي ــ رصدتها في ورقة د. حداد:
1ــ كان محدداً لزكريا محي الدين أن يلتقي ليندون جونسون في واشنطن يوم الأربعاء 7 يونيو / حزيران وبالتالي يغادر إليها في 6 من الشهر نفسه. زكريا كان في القاهرة يوم 5 يونيو وطيلة أيام الحرب.
2ــ عبد الناصر أرسل إلى القيادة السورية مساء الخميس 8 يونيو / حزيران إخطاراً بقبوله وقف إطلاق النار، ونصحه إياها بعدم توريط الجيش السوري بأية عمليات تعرضية والالتزام بوقف إطلاق النار وقاية للجبهة والجيش من غائلة الاستفراد الإسرائيلي. إذن تسلّم البرقية كان في الثامن لا العاشر من حزيران.
3ــ بدأ الهجوم الإسرائيلي على الجولان يوم الجمعة 9 حزيران لا الثامن، واستمر حتى مساء العاشر منه لا الثاني عشر.
4ــ معركة القدس كانت نقيض نظيرتها في حرب 48… لم يكن هناك قتال ضار ولا من يحزنون…. وللعلم فعدد شهداء الجيش الأردني أيام 5 و 6 و 7 يونيو / حزيران هو 16 شهيداً… وسقطت الضفة والقدس في السابع.
5ــ مؤتمر القمة العربية بعد الهزيمة كان في 29 آب لا في تموز… ربما قصد د. حداد مؤتمر القمة المصغر في القاهرة في تموز الذي التقى فيه عبد الناصر للمرة الأولى مع اللواء صلاح جديد.
6ــ فلاديمير فينوغرادوف لم يعين سفيراً في القاهرة إلا في صيف 1970 قبل وفاة عبد الناصر بقليل… السفير بعد الهزيمة هو سيرجي فينوغرادوف.
7ــ لم يتطرق حداد بكلمة إلى ما جرى في اجتماع القيادة القُطرية بعد الهزيمة مباشرة الذي طالب فيه اللواء صلاح جديد بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان من منصبيهما لمسؤوليتهما عن الأداء الهزيل للجيش السوري في الحرب… ثم عندما طرح الاقتراح للتصويت سقط بفارق صوت واحد هو ــ للمفارقة ــ صوت عبد الكريم الجندي.
8ــ الفوارق البيّنة بين النهج الذي اقترحه حافظ أسد ونهج القيادة المدنية لم يتبلور ويتحول إلى خط فالق إلا في المؤتمر القُطري المنعقد في أيلول 68… في آب 67 كان الأسد بالكاد يتملص من تأثيرات الهزيمة على وضعه، ومنهمكاً في إعادة تنظيم الجيش (زار موسكو ذاك الشهر) بما يعيقه عن تنكّب طريق الصراع السابق لأوانه مع عتاولة الحزب. أخشى أن هناك خلطاً بين المؤتمرين.
9ــ مبادرة روجرز التي قبلها عبد الناصر ونصت على وقف مؤقت (3 شهور) لإطلاق النار كانت في تموز 70 لا في 69.
10ــ يكرّر د. حداد لازمةَ حرب اليمن وتأثيراتها الفادحة على الأداء العسكري المصري في سيناء. تلك مقولة تكتسي بالخطل من رأسها لرجليها: كان في اليمن فرقتا مشاة عند بدء التوتر في مايو / أيار 67، فيما القوات المدرعة والآلية مع جل المشاة كلها في مصر، ومعها السواد الأعظم من سلاح الجو والقوات الخاصة. وبعدما تصاعد التوتر سحب من اليمن ألوية ثلاثة لتملأ فراغات الطور وخليج السويس.
لليمن دور في تحفيز واشنطن على تدمير عبد الناصر…. هنا لبّ المسألة لا غيرها.
11ــ لم يكن عبد الناصر مطمئناً إلى استبعاد نشوب حرب. هو رفع احتمالها إلى 80 في المئة مع إغلاقه لخليج العقبة يوم 22 مايو / أيار، ثم تأكدت قناعته من وقوعها في الأول من يونيو / حزيران حين تولّى موشي ديان وزارة الدفاع وبدأ توجه القوات العراقية للضفة الغربية.
نأتي الآن إلى نقاش في العمق حول ما جرى وكيف:
1ــ استمرّ نظام 23 شباط في تبني حركة «فتح» حليفاً، وإفساح المجال لها للقيام بعمليات تنطلق من سوريا وعبر لبنان والأردن، بتواتر أشد مما كانت عليه الحال في السنة الأخيرة (1965) لحكم الائتلاف البعثي.
حكم تقويمه للأمور أن إسرائيل لن تتصرف بعنف يفيض منسوبه عن عمليات «فتح»، وأن الاتحاد السوفياتي لن يسمح بتراجع استراتيجي سوري أمام إسرائيل، وأن مصر عبد الناصر مضطرة إلى توفير غطاء عربي لسوريا وإن دون اقتناع بما تفعله (أي سوريا).
ولعله غاب عن أذهان القيادة حينها أن مسائل الحرب والسلام لا تعالج بمنطق المغامرة أو الإحراج وكسب النقاط، دون وافر استعداد لتقبل تحدي التصاعد والتصعيد من الخصم، وما يعنيه ذلك من احتمال الدخول في حرب إقليمية… محدودة كانت أم شاملة.
كانوا يتماهون مع عبد الناصر ويغارون منه… يطلبون رضاه وحماه ويقصرون عن توفير متطلبات حماية كهذه (رفضهم لمنح قواعد للطيران المصري في سوريا مثال). يزايدون عليه ــ وإن بقدر أخفت من أيام الائتلاف البعثي ــ ثم ينتظرون هرعه لترداد: أطلبوا وزيدوا.
والحاصل أن تشدّد نظام النيو ــ بعث فلسطينياً وقومياً صاحبه وهن عضلي وخيم لمؤسسته العسكرية تسببت به التسريحات الواسعة النطاق التي شملت بضعة آلاف من الضباط الناصريين والانفصاليين والبعثيين، بدأ من آذار 63 ووصولاً إلى أيلول 66.
ولعمري فإن تلك كانت وصفة مثالية لأداء قتالي فاشل في أيّ مواجهة كبيرة مع إسرائيل… وهكذا كان.
2ــ في مايو / أيار 66، طلب رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغن من عبد الناصر ــ عند زيارته إياه في القاهرة ــ أن يشمل برعايته نظام النيو ــ بعث الجديد، لسببين: حمايته، وهو المفضل عند السوفيات من سلفه بعث اليمين، واحتواؤه وهو المصاب بنزعة تشدد غير محسوب أحياناً.
استجاب عبد الناصر فعرض في 23 يوليو 66 ترتيبات دفاعية مشتركة مع سوريا، ثم ما لبث أن ترجم ذلك في اتفاقية دفاع مشترك مطالع نوفمبر / تشرين الثاني 66، في أعقاب تهديدات إسرائيلية متكاثرة طيلة الخريف، وعشية ابتعاث المشير عامر لموسكو.
أراد عبد الناصر بالاتفاق لجم النيو ــ بعث عن الانزلاق أكثر في مشوار تصعيد سابق لأوانه قد يؤدي لعواقب تفوق التوقع.
اتّسقت حركة عبد الناصر مع إيقاع نهجه العام تجاه إسرائيل منذ أعقاب حرب السويس، وهو باختصار التنائي عن حرب مع إسرائيل قبل تنفيذ خطتين خمسيّتين للتنمية، وقبل امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
لكن رقصة التانغو تحتاج إلى راقصين، وفي حالتنا هذه فنوتة كل من الطرفين (السوري والمصري) مغايرة للأخرى.
في دمشق، تصرف أهل النظام كأن الاتفاق أعلاه هو ضمانة حماية تمكّنهم من رعاية المزيد والمزيد من «العمل الفدائي»، الذي به يبدون كأنهم الساعون إلى التحرير، فيما غيرهم ــ وبالأخص عبد الناصر ــ قابع في مكانه كنمر من ورق.
■ الذريعة الفتحاويّة لضرب دمشق
والحاصل أن الثلث الأول من الـ67 شهد تصعيداً «فتحاوياً» ملحوظاً من قاعده انطلاق سورية.
وفر ذلك النهج الذريعة لإسرائيل لتشن هجوماً جوياً واسع النطاق شاهده قاطنو دمشق بأم أعينهم وشهدوا فيه سقوط 6 مقاتلات ميغ فوقها في السابع من نيسان… ورأى عبد الناصر أن هذا الهجوم، معطوفاً على سلفه هجوم السموع في نوفمبر 66 بالضفة الغربية، شأن لا يمكن السكوت عنه، وأن أي مزيد من أعمال الاستفزاز يستوجب تحركاً مضاداً يربك إسرائيل ــ ومن خلفها الولايات المتحدة ــ منتزعاً منهما زمام المبادرة، ومرسياً قواعد جديدة للعبة الاستراتيجية في المنطقة.
3ــ عند بداية الأسبوع الثاني من مايو تقدم السوريون بمعلومات استطلاع جوي للسوفيات والمصريين تفيد باحتشاد 4 فرق إسرائيلية جنوب غرب الجولان السوري تمهيداً لهجوم واسع النطاق على الهضبة السورية.
تثبّت السوفيات من الأمر وأخطروا زائرهم أنور السادات في الثاني عشر منه بمعلوماتهم مع طلب توصيلها لعبد الناصر. وتم ذلك في اليوم التالي.
اتخذ عبد الناصر في 14 مايو قراره بحشد 4 فرق مصرية في سيناء ــ إضافةً إلى الفرقة المرابطة هناك ــ وإرسال رئيس أركانه ــ الصوَري ــ الفريق أول محمد فوزي إلى دمشق للتثبّت من المعلومات ولأغراض التنسيق بين الجيشين.
وحصلت عملية استطلاع جوي جديدة بينت أن حشد الفرق الأربعة قد ناله شبه تبخر.
كيف ذلك؟
فصلت أيام ستة بين التبليغ الأول وبين إعادة الاستكشاف، قام الإسرائيليون خلالها بعمليات حشد وإعادة توزيع، ثم حشد وإعادة تموضع من جديد، تكفل لخصمهم الإصابة بدوار شديد وفقدان توازن وضبابية شديدة في الرؤية.
صاحب ألاعيب الحشد هذه تهديد رئيس الوزراء ليفي أشكول بأن صبر إسرائيل على سوريا قد نفد، وأن عملاً مدوياً في الطريق تأديباً لها… ثم لحقه يوم 12 مايو رئيس أركانه إسحق رابين ليعلن أن غزو دمشق وإسقاط نظامها، ثم العودة للعمق، أضحى أمر اليوم.
■ تقليم أظافر إسرائيل
لم يعد مهماً إن كان الحشد على أشده يوم 14مايو أم كان قد تلاشى حينها. أصبحت المسألة هي تقليم أظافر إسرائيل وتكسير ردعيتها بشكل من الأشكال.
بدأ تحرك الاحتشاد المصري يوم 15 مايو، وبقناعة أن احتمال الحرب هو 20 في المئة، ثم وصل الاحتمال إلى 50 في المئة عندما سحبت القوات الدولية من سيناء وغزة في 18 مايو.
استبق بدء الاحتشاد التوقيت المعتمد ــ 17 مايو ــ لحملة غزو إسرائيلية لسوريا، فقاد لإلغائها وتوجيه قواتها شطر الجنوب المصري حيث هناك ستخاض المواجهة إلى منتهاها.
منذ يومها ــ 15 مايو ــ بدأ نظام دمشق يحس بأنه أصبح شاهداً على الحوادث لا فاعلاً فيها، وأن عبد الناصر غدا سيد اللعبة من ألفها ليائها. انتابه القلق لهذا التهميش فسعى للّحاق بالعجلة… ذهب إبراهيم ماخوس لعبد الناصر غداة قرار الاحتشاد، ثم أتاه يوسف زعين غداة قرار غلق خليج العقبة، يحاولان أن يرصدا ما يجول في تفكيره وإلى أين تسير المسائل.
كانوا قلقين على أوضاع جبهتهم وجيشهم ــ ومن ثم نظامهم ــ إن تحولت المسألة إلى جد الجد، فهم أدرى بهزال ما عندهم وضموره.
■ هجوم مصري أو إسرائيلي؟
4ــ سأروي هنا حدثاً كنت شاهداً عليه بأم العين: كانت الثامنة والأربعين دقيقة من صباح 5 حزيران وأنا أستمع لنشرة أخبار إسرائيل عندما أورد المذيع خبراً عاجلاً عن قيادة الجيش الإسرائيلي فحواه أن قوات مدرعة مصرية اخترقت النقب في هجوم كبير وأن معارك تدور هناك.
كنت قبلها بدقائق أسمع عن اتفاق إرسال زكريا محي الدين يوم 7 يونيو… تساءلت ــ وأنا ابن الخامسة عشرة حينها ــ كيف السبيل للتوفيق بين الأمرين؟ ثم ما لبثت أن سارعت لاستنتاج أن خبر الهجوم المصري مفبرك وأن الهجوم إسرائيلي.
حرفت إبرة المذياع إلى إذاعة القاهرة لسرعان ما أسمع في الثامنة وخمسين دقيقة نبأ بدء الهجوم الجوي الإسرائيلي على قواعد الطيران المصري.
هرعت في التوّ واللحظة إلى سطح منزلنا في فيلات المزة الغربية بدمشق، والمطل على مطار المزة العسكري.
مكثت هناك، مع المكبّر وإبريق الشاي والمذياع، لما ينوف على ساعات أربع، أرقب ما يجري وأصله بما أسمع.
كان بادياً أن الأمور تجري كالمعتاد، والمقاتلات مصطفة في العراء لا تصعد السماء ولا تبدي حراكاً. مرّت الدقائق ثم الساعات وليس من حركة ولا تحليق ولا من يحزنون حتى وصلت الساعة إلى الثانية عشرة و10 دقائق ظهراً.
عندها ظهرت فجأة وعلى ارتفاع منخفض أعداد من طائرات السوبرميستير والميراج بلون يقارب السواد لتنقضّ على مقاتلات الميغ وتشعل بها عاصفة من النار والدمار أتت عليها الواحدة تلو الأخرى.
أسأل: كيف لذلك أن يحدث وقد توافرت للطيران السوري فترة إنذار مثالية طالت ثلاث ساعات ونصف ساعة كان يمكنه خلالها الابتعاد إلى حلب والشرق، مع تشكيل مظلات جوية متوالية تكفل إحباط احتمالات التدمير الواسع
النطاق؟
كانت الفرصة سانحة ــ بالمقابل ــ للإغارة على مطارات إسرائيل الشمالية، فيما طيرانها مشدود على الآخر في مهمته المصرية.
لا شيء… لا شيء على الإطلاق… وإنما انتظار التدمير دون أي مبرر سوى التقصير وانعدام الكفاءة.
■ ماذا فعل السوريّون بين 5 و8 حزيران؟
لا شيء سوى القصف البعيد لمستعمرات الشمال الشرقي بالمدفعية… لا إغارات قوات خاصة ولا هجومات موضعية هنا أو هناك داخل إسرائيل.
هي غارة جوية يتيمة وفاشلة على مصفاة حيفا، وتحريك لواء مشاة لداخل الأردن نجدة لقواته المتهالكة… والحق أن عبد المعين لم يكن قادراً على العون بل هو في أمس الحاجة إليه.
دبّ الذعر في أوصال أهل النظام مع نهاية الثامن من حزيران، حينما قرأوا بانتباه برقية عبد الناصر المؤذنة بخروج مصر من الصراع المسلح.
أحسّوا أن الأرض تميد من تحتهم وأن مصيرهم تحت رحمة إسرائيل التي، وإن قبلت قرار وقف إطلاق النار، إلا أن احتمال انطلاقها للحرب على سوريا معزز بفتحها للضفة والقطاع وسيناء.
هرعوا لنور الدين محي الدينوف وسفير الفاتيكان وبعض السفراء الأوروبيين يطلبون النجدة تحوّطاً من الأسوأ القادم. لكنه أتى يعصف بكل ما في طريقه طلباً لجولان كان طيلة الفترة منذ حرب 48 مصدر صداع لا يلين ولا يهدأ لإسرائيل.
5 – والحق أن أسطورة منعة الجولان عن أي اختراق أو التفاف لهول تحصيناته ونجاعتها لا تصمد أمام أي تحليل علمي للحروب… ماضيها وحاضرها.
كل الخطوط قابلة للسقوط وكل التحصينات ممكنة الاختراق. من هنا فإن خرق المحور الشمالي لم يكن ضرباً من المحال.
ما كان فجاً وسمجاً وفاشلاً هو تهافت قوات الجبهة وانكسارها السريع، النفسي أولاً ثم العملياتي، فيما كان الصمود أقل كلفة من تراجع غير منظم أودى بالسمعة والأرض والسلاح إلى قاع بلا قرار.
يروي د. حداد أن مسؤولية البلاغ الصادر في العاشرة من صباح السبت 10 حزيران عن سقوط القنيطرة تقع على عاتق محمد الزعبي وزير الإعلام.
والحاصل أن إعلاناً كهذا هو قرار قيادة لا فرد، وأن فهلوة من فكروا وقرروا قدّرت أنّ إعلاناً كهذا سيجبر السوفيات على التحرك على عجل لوقف الزحف الإسرائيلي إلى دمشق.
ثم حين أعملوا فكرهم بأعمق تبينوا أن الإعلان سيؤدي لا محالة الى فوضى عارمة في الجبهة وخسائر هم في غنى عنها. تحرك السوفيات منذ التاسع وأبلغوا جونسون أن شمال القنيطرة خطر أحمر.
لم يكونوا بحاجة إلى بلاغ القنيطرة، إذ بعد استقالة عبد الناصر مساء التاسع من حزيران ما عاد من مفرّ أمامهم إلا حصر التوغّل الإسرائيلي في الشمال.
والحاصل أن رئيس أركان الحرب ــ الذي تولى قيادة قوات الجبهة مع بدء الحرب ــ اللواء أحمد سويداني قد توفي منذ فترة، ثم لحقه قائد الجبهة الذي تحول إلى قائد لقطاعها الشمالي ــ مع تولي سويداني قيادة الجبهة ــ العقيد أحمد المير، وبقي من شهودها المهمين اللواء سعيد طيان واللواء عبد الرزاق الدردري ــ وهما قائدا القطاعين الأوسط والجنوبي للجبهة، واللواء عبد الرحمن خليفاوي رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمت مقصّري الأداء.
هم مطالبون بالشهادة فيما ذاكرتهم تستطيع الإعانة، وكما فعل أقران لهم في مصر بغزارة ناظرت التقتير السوري.
■ مسؤوليّة عامر… والآخرين
والثابت أن ما أصاب عبد الحكيم عامر بعد ظهر الثلاثاء 6 حزيران (عندما أصدر قراره ــ ولما تنقضِ ثلاثون ساعة بعد على بدء القتال ــ الأرعن والمدمر بالانسحاب الشامل من سيناء عبوراً للضفة الغربية للقناة في 24 ساعة) من شلل تفكير وانهيار أعصاب وضحالة في التدبير، ضربت أيضاً القيادة الحاكمة في سوريا منذ مساء الثامن من حزيران وحتى مساء العاشر منه، بل ومنذ صباح الخامس عندما فشلوا في استثمار الانشغال الإسرائيلي بالسماء المصرية للإغارة على مطارات الشمال، دعك عن حماية طيرانهم ذاته من التدمير، وفي صالحهم ساعات إنذار أربع ثمينة.
يخبرنا د. حداد أن القيادة درست في اجتماعها عند بداية الحرب مقترحاً متكاملاً عرضه اللواء صلاح جديد (وهو بالمناسبة ليس الأمين القطري المساعد بل الأمين العام المساعد لشؤون القطر وهناك الأمين العام المساعد الثاني هو محمد الزعبي) ويشمل دخول الحرب على الفور وضرب المستعمرات الإسرائيلية، ثم حماية الطيران السوري من العدوان، والتنسيق مع المصريين.
والحق أن أياً من هذه العناصر لم يتحقق بالمعنى الجدي للكلمة… فلا الطيران نجا، ولا التنسيق جرى، ولا القصف حتى كان مجدياً.
ما هي قصة الهجوم المضاد الذي كان على اللواء المدرع 70 القيام به ولماذا ألغي ومتى؟
من هم عناصر قيادة العمليات المفروزة من القيادة القطرية ليسهموا مع وزير الدفاع ورئيس الأركان في إدارة المعركة؟ وما الذي فعلوه وأثروا به في مجال صنع القرار طيلة أيامها الستة؟ ماذا كان دور اللواء صلاح جديد بالذات يليه العقيد عبد الكريم الجندي؟
■ توزيع عادل للمسؤوليّات
أصل من ذلك كله لتلخيص قسمات حزيران السوري على الوجه التالي:
1ــ أن حرب 67 كانت غير لازمة، وبكلمة أدق سابقة لأوانها بسنوات ثلاث تقريباً… مسؤوليتها من حيث السبب والذريعة تقع على عاتق نظام النيو ــ بعث بدمشق وحركة «فتح» الفلسطينية منفردتين ومجتمعتين… أمّا مسؤوليتها من حيث تصعيد مسار الحوادث ــ وصولاً لحتمية الحرب ــ فهي على عاتق جمال عبد الناصر، علماً أن كارثية النتائج هي مسؤولية القيادتين العسكريتين في القطرين، وبحسبان أن المسؤولية النهائية تلتف حول أعناق مراجعها السياسية.
2ــ إنّ الخفة التي تناول فيها نظام النيو ــ بعث مسائل الحرب والسلام ومزايدته البادية، فيما أوضاع استعداده في الحضيض، هي سمات وسمت شرائح من النخبة السياسية السورية تفيض عنه… وزمن الانفصال شهيد، سواء من أهل اليسار أم اليمين فيه.
3ــ إنّ الحرب وقد قامت، ما كان من داع لها ــ بالقطع ــ لتنقلب إلى كارثة، رغم كل سوءات الاستعداد وتواضعه هنا وهناك. كان يمكن قوات خط الدفاع الأول في سيناء أن تصمد على الخط المجهز هندسياً من الشيخ زويد إلى تمد، ثم تنكفئ عند الحاجة إلى خط المضائق الحصين طوبوغرافياً… هذا رغم اختراق المحور الشمالي عند رفح في اليوم الأول، اذ كان احتواء الخرق ممكناً باستخدام الفرقة الآلية الثالثة المرابضة على خط الدفاع الثاني في الحسنة، مع لحظ أن التحام القوات البرية يخفف من مزايا التفوق الجوي لأحد الطرفين.
أما في سوريا، ومع التسليم بأن اختراق أي قطاع مهما بلغت منعته ممكن بل وجدّاً، إلا أن ذلك يجب ألّا يكون آخر المطاف، فالمناورة بالقوات كانت كفيلة بحصر الاختراق وسد منافذه، بل والالتفاف حوله منعاً لسقوط كامل الجولان… ولا حتى بعضه.
صحيح أن الاستفراد الإسرائيلي قد يملأ النفوس خشية وتوجساً، إلا أن صموداً لأيام ثلاثة كان جديراً بردّ غائلته، إذ إن موسكو حينها وصلت إلى خط النهاية في صبرها واحتمالها الاندفاعة الأميركية الهوجاء نصرة لإسرائيل وفتوحاتها، والتي جسدت على الأرض تكليفاً أميركياً محدداً فحواه إسقاط نظام جمال عبد الناصر، ومكافأة القائم على ذلك التكليف في الشمال والشرق
حزين حزيران دمشق، ومحزن ما أفضى إليه من خطب دهمنا دون وافر داع أو سبب.
* كاتب عربي