صفحات أخرى

كتاب: الديموقراطية أولاً… الديموقراطية دائماً لعبد الرحمن منيف

عللها كثيرة لكنها أفضل بكثير من الديكتاتوريات
ادى فشل مشاريع التحديث العربية الذي ترافق مع دخول المجتمعات العربية نفقاً انحدارياً بعد سلسلة الهزائم على مختلف الصعد، وتحميل الايديولوجيات مسؤولية هذا الفشل، الى اعادة الاعتبار الى مقولة الديموقراطية، فكرا وممارسة، بصفتها مفتاحاً رأت فيه النخب العربية مخرجا من الحال المتردية التي تعيش فيها مجتمعاتنا. هكذا سادت كتابات كثيرة حول الديموقراطية والتنظير لها وتبيان ايجابياتها قياسا الى الايديولوجيات الشمولية او الفئوية التي سادت على امتداد عقود مضت. يشكل كتاب عبد الرحمن منيف “الديموقراطية اولاً… الديموقراطية دائماً”، الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت، محاولة تطرقت الى القضية من مداخل مختلفة.
لا ينظر عبد الرحمن منيف الى الديموقراطية في وصفها المفتاح السحري الذي يمكننا بواسطته ايجاد الحلول لمعضلات مجتمعاتنا او الامل بالخلاص من دوامة الجهل والتخلف والعنف المرافق لها. لكنها تبقى احد الشروط الاساسية تجعلنا نواجه مشكلات مجتمعاتنا وتعيننا في تعيين الوسائل للتعامل معها والوصول الى حلول لمعظمها. مما يعني ان الديموقراطية وسيلة لإدارة الحوار وتحقيق التسويات والسماح باجتهادات تفتح المجال امام خيارات متنوعة. الاهم من ذلك كله، انها مفتاح رئيسي يسمح بإمكان المشاركة الواسعة للقوى الحية والفاعلة في المجتمع لتحمل المسؤولية العامة. هذا ما يجعل الديموقراطية اداة فعلية للتغيير عبر الوسائل السلمية، وما يجنب المجتمعات النزاعات الاهلية والحروب الداخلية.
ينتقد عبد الرحمن منيف مقولة سادت لعقود حول تأجيل البحث في تحقيق الديموقراطية الى حين انجاز الاشتراكية والوصول الى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. يأتي النقد استنادا الى النتائج السلبية التي رافقت تطور المجتمعات العربية مع تغييب الديموقراطية ومشاركة ابناء المجتمع في عملية التنمية، او مع الاضطهاد الذي رافق هذا المسار، بحيث خرجت المجتمعات العربية فارغة من التنمية والحرية، فلم تتحقق لها الديموقراطية ولا تحقق لها التغيير في مستوياتها المعيشية نحو الافضل. لذا يشدد الكاتب على اقتران الدعوة الى تحقيق الاشتراكية بالتلازم مع تحقيق الديموقراطية، بل تبدو هذه الديموقراطية الشرط الضروري والحاسم للوصول الى الاشتراكية. كما يرى ان الامر نفسه ينطبق على قضايا الوحدة العربية والمسألة القومية وقضية التقدم، بحيث ترتبط جميعها بمسار ديموقراطي حتمي من اجل انجاز المهمات التي تطرحها على نفسها.
لكن القول بالوصول الى الديموقراطية ليس مجرد شعار يجري استبداله بشعار آخر، على غرار انتقال اصحاب ايديولوجيات شمولية الى القول بالديموقراطية وكأن الامر “ابدال طربوش مكان طربوش”، فالديموقراطية اولا ثقافة سياسية واجتماعية وممارسة يومية تطاول جميع مناحي حياة الانسان، وهي ثقافة تقف على النقيض مما هو سائد من افكار وتقاليد وعادات، كما هي على النقيض من التراث والايديولوجيا التي ترى في فكرها ومفاهيمها الحقيقة المطلقة والصواب الكامل. بالنسبة الى الديموقراطية، لا حقائق مطلقة، كل الامور نسبية، ولا يقينيات وثوابت دائمة، بل التبدل وفق معطيات الواقع، بما فيها ما يشار اليه بحقائق وبديهيات الهية او دينية.
من هذه المقدمات ينتقل عبد الرحمن منيف الى مناقشة ما تتطلبه الديموقراطية عربيا. اول الامور المطروحة يتمثل في الاعتراف بالآخر الذي هو جوهر الديموقراطية، وهو اعتراف يعني قبول الاخر كما هو، متفقين او مختلفين، والتعايش معا على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات وحق احترام الخصوصيات، وهو امر لا يزال عزيز المنال عربيا، حيث لم تخرج مجتمعاتنا العربية من سيادة الايديولوجيات الاقصائية والاستئصالية، التي لا ترد في قاموسها مسألة المساواة بين المجموعات التي يتكون منها المجتمع، بل تغلب التمييز الفاضح بين اكثرية واقلية، والعكس بالعكس. اما الشرط الثاني المطلوب عربيا، فيتعلق بضرورة نقد المرحلة السابقة، وتعيين عوامل الفشل، ومناقشة الشعارات التي شكلت اساس الممارسة السياسية. يمثل نقد المرحلة السابقة عنصرا جوهريا في صدقية الانتقال للقول بالجديد الديموقراطي الغالب اليوم على ألسنة النخب اياها، المسؤولة عن المرحلة السياسية السابقة بكل اخفاقاتها ومشكلاتها ونتائجها الكارثية. من دون ممارسة نقد ذاتي للمفاهيم والشعارات والبرامج والممارسات، لن تكون هناك صدقية للتشدق بشعار الديموقراطية. اما العنصر الثالث الواجب توافره فهو الذي يعترف بصعوبة الخيار الديموقراطي اولا، وان الديموقراطية لا تتلخص باستفتاءات او انتخابات غالبا ما تكون شكلية، بل هي حق الفرد والمجتمع معا في نيل الحرية والمساواة امام القانون وضمان المشاركة السياسية والاجتماعية في التعبير والتغيير المنشود.
اذا كانت الديموقراطية في ذاتها لا تشكل مفتاحا لحل المشكلات، الا انها تحمل في جوهرها ايضا معضلات والتباسات وسلبيات، وقد لا يكون النظام الديموقراطي هو النظام الامثل، لكنه يظل افضل الانظمة في مقاربة مشكلات المجتمعات العربية والوصول فيها الى حلول مرحلية. لكن مواجهة معضلات الديموقراطية لن تكون الا بالمزيد من الديموقراطية، فمهما تكن سلبيات النظام الديموقراطي، فإنه يبقى افضل بكثير من السلطة القائمة على الديكتاتورية والاستبداد.

خالد غزال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى