صفحات أخرى

كتاب صورة الشرق في عيون الغرب لابراهيم الحيدري

دراسة للأطماع الاجنبية في العالم العربي
يقدم الباحث ابراهيم الحيدري في كتابه “صورة الشرق في عيون الغرب، دراسة للاطماع الاجنبية في العالم العربي” (الصادر عن “دار الساقي” في بيروت)، صورة عن رؤية الاوروبيين الى العالم العربي والاسلامي كما ظهرت في كتابات المستشرقين والرحالة الذين جابوا المنطقة، وكما جرت ممارسة هؤلاء الاوروبيين في الاراضي التي سيطروا عليها. تحمل هذه الكتابات منوّعات من الافكار والاراء، منها الاعتراف بحضارة العرب والدور المهم الذي قدّموه في مسار التقدم الغربي، خصوصا على صعيد الفلسفة والعلوم، وهو كلام يحمل ايجابيات في النظرة الى هذا العالم غير الاوروبي، ومنها كتابات تتسم بالسلبية وتحمل فكراً عنصرياً ضد العرب والمسلمين، ولم تنفصل يوما عن الاطماع الاستعمارية بالمنطقة العربية والسعي الى السيطرة على مواردها. مع الاشارة الى ان هذا  الموضوع لا يزال يتسم بزخم كبير في النظرة السلبية، واحيانا العدائية، المتبادلة بين الغرب والشرق، والعكس بالعكس.
يلاحق الحيدري هذه النظرة من خلال تحقيب تاريخي لمراحل تطور هذه العلاقة. تتصل المرحلة الاولى التي يتناولها بعصر الحروب الصليبية، حيث يميز بين الخطاب الايديولوجي الذي ساد آنذاك حول الاراضي المقدسة في فلسطين، واستعادتها من المسلمين الذين هيمنوا عليها. جرى ايلاء هذا الجانب النظري – الايديولوجي حيزا مهما في الكتابات الاوروبية في وصفه المبرر الديني للحملات الصليبية واضفاء التشريع الالهي عليها ، بما يعطيها زخما وقوة في الدفاع عن الحقوق الالهية. قد يكون هذا المبرر موجودا لدى فئة من المتحمسين المؤمنين بهذا الهدف، لكن حقيقة الامر ان الغزوات الصليبية كانت ذات اهداف اقتصادية –سياسية، ابتغى منها البابوات والامراء الاوروبيون السيطرة على المنطقة وتوسيع نفوذ اوروبا فيها والافادة من ثرواتها، وذلك كله تحت ستار انها حرب بين الكفار (المسلمين) والمؤمنين (المسيحيين). في الاماكن التي اتيح فيها للسيطرة الاوروبية خلال تلك المرحلة، لم يمارس الاوروبيون سياسة سليمة وعادلة مع ابناء المنطقة، حتى مع ابناء الطوائف المسيحية غير المنتمية الى المذهب نفسه، والتي عانت من اضطهاد الحكام لهم. اما الكتابات التي ظهرت في تلك المرحلة، فكانت مزيجا من الاعتراف بإيجابيات عربية واسلامية على صعيد العلاقة التي سادت خلال عهد صلاح الدين الايوبي، الذي اعترف رحالة بفضائل له في تعامله مع الاوروبيين عندما اتيح له تحقيق انتصارات على الصليبيين الغزاة، كما حفلت بعض الكتابات بالاقرار بما لدى العرب والمسلمين في مجالات الفلسفة والعلوم. لكن الغالب على الكتابات ظل مركزا على التحريض الديني واثارة الكراهية والحقد ضد “الشعوب الكافرة” التي اغتصبت الاراضي المقدسة، وهي كتابات مسؤولة الى حد كبير عن اثارة التعصب في اوروبا ضد العرب والمسلمين، الذي لا تزال آثاره تتردد على ألسنة البعض، عن قصد او من دون انتباه. في كل حال لا تزال الحروب الصليبية تترك بصماتها على العلاقة السلبية بين الشرق والغرب، بل تحضر دوما كلما تصاعد الصراع السياسي بين العالمين.
المرحلة الثانية التي يتحدث عنها الحيدري تتناول بدايات عصر الاستعمار الاوروبي للمنطقة في الفترة التي تلت عصر النهضة الاوروبية من القرن السادس عشر وما بعده. كانت بريطانيا الدولة الاقوى في تلك المرحلة، وامكنها ان تعزز وجودها في مناطق الخليج العربي والجزيرة العربية، بعد اكتشاف الاهمية الاستراتيجية لهاتين المنطقتين في السيطرة على طرق المواصلات العالمية ومعها طرق التجارة البحرية الى الهند والشرق الاقصى. جرى اهتمام بريطاني عموما واوروبي احيانا بدراسة التراث العربي الاسلامي في جوانبه المتعددة، الفلسفية والعلمية والادبية هذه المرة، وجرى الاقرار من البعض بأهمية هذا الإنتاج، كما انعكس هذا التراث في بعض الدراسات الاوروبية. لكن الجانب السلبي من رؤية هذا العالم غير الاوروبي ظل هو المسيطر، فقد “بقيت الصورة الغالبة صورة الشرقي، كغيبي، لاعقلاني، وعاجز عن استكناه الواقع وادراكه: فهو روحاني قبلي، اكثر منه واقعياً تحليلياً، يعيش في حضارة غربية، وجو خرافي، تسكنه الجن، كما ينعكس اثارة وسحرا”.
المرحلة الثالثة هي تلك التي بدأت مع عصر التنوير الاوروبي، والمترافقة مع اندفاعة استعمارية تجاه العالم غير الاوروبي، خصوصا البلدان العربية والاسلامية. واكبت الحملات الاستعمارية رحلات لعلماء ومستشرقين وباحثين اهتموا بدراسة اللغات والثقافات والحضارات “الغريبة” وفق نظرتهم. سادت في تلك الفترة افكار ترى في الشعوب الاخرى غير الاوروبية شعوبا متخلفة وجاهلة وغير عقلانية، مما خلق توجهات اوروبية نظرية تضع على عاتق الاوروبيين مسؤولية انقاذ هذه الشعوب من تأخرها، عبر استعمارها ونشر التراث الاوروبي بين شعوبها، وهو فكر كان ينظر الى الاستعمار بصفته المنقذ لهذه الشعوب الهمجية. لم تعد الحضارة العربية مصدر اهتمام او اعتراف بدورها، بل ناب عنها ما ستكسبه هذه الشعوب من حضارة الغرب وتقدمه. في هذه المرحلة تجلّت اكثر من اي وقت مضى الاهداف الحقيقية للاستعمار الاوروبي، بعد افصاحه عن المصالح الحيوية لبلدانه والتي تقتضي احتلال منابع الثروة العربية وتوظيفها في خدمة تقدم هذه البلدان الاوروبية. على رغم شراسة الحملات الاستعمارية واضطهادها للشعوب التي هيمنت عليها، الا ان الادب الاوروبي تأثر بالكثير مما كان يقدمه الشرق من سحر وعجائب وفنون تجلت بما حملته الحركة الرومنطيقية في اوروبا من آثار التراث العربي والاسلامي وانعكاسه في الادب والشعر، خصوصا كتاب “الف ليلة وليلة” وكتباً اخرى من التراث.
اما المرحلة الرابعة المتواصلة حتى الزمن الراهن فهي المعبَّر عنها بعصر الامبريالية، حيث السيطرة الغربية على مناطق العالم واقتسام النفوذ والهيمنة على منابع الثروة النفطية والمعدنية. في هذه المرحلة ازداد نشاط المستشرقين والانثروبولوجيين، الذين اولوا اهتماما لدراسة حال الشعوب الخاضعة لاستعمارهم، وتطبيق مناهج العلوم الحديثة على دراسة عقليات شعوب هذه المجتمعات. تمحور الجزء الاعظم من الكتابات على اظهار العجز العربي عن الخروج من اسار التخلف واستعصائه على الدخول في العصر والافادة من مكتسباته، وهي افكار تهدف في النهاية الى ضرورة بقاء الاستعمار لإنجاز مهمة تحرير هذه الشعوب من واقعها المزري الذي تحيا فيه.
من المهم معرفة ما يكتبه الاخر الغربي عن مجتمعاتنا، والتدقيق في استنتاجاته الفكرية والعملية، لكن في المقابل من المهم اكثر ان تقرأ المجتمعات العربية واقعها وعوامل عجزها نقدياً، وتخلص الى نتائج ترى فيها وجه الغرب في جانبه السلبي تجاه الشرق، لكنها في المقابل ترى صورتها الداخلية والذاتية فتقرأ من خلالها واقع العجز هذا. من دون هذه القراءة المزدوجة، سيظل العرب اسرى نظرة احادية الجانب، قائمة على ان الغرب يدير مؤامرة من اجل تكريس تخلفنا ومنع تقدمنا.

خالد غزال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى