فرج بيرقدار: لا مكان للصحافة في ظل الديكتاتورية
أجرت الصحافية اللبنانية باتريسيا خضر هذه المقابلة مع الشاعر السوري المقيم في السويد فرج بيرقدار في بيروت، و نُشرت المقابلة في “شبكة الصحافة العربية” مترجمة من الإنكليزية إلى العربية. الان ننشر هذه المقابلة كما وردت بلغتها العربية.
س- كصحافي كيف كان وضع العمل في سوريا قبل دخولك السجن؟
ج- كان كأنه لم يكن. كان ليته لم يكن. كان فخّاً أو مصيدة. كان لعنة على هيئة شعار مصاب بسرطان تخليد الأمة، وتأبيد “القائد” ولو من غير تأييد، وتوسيع أفق ومدارك المعارضة، يميناً ويساراً ووسطاً، بما “تكرّمت” به السلطات من زنازين وسجون، وإن كانت أقل من “الحاجات الوطنية” الملحّة. هكذا كانت سوريا ولا تزال: جمهورية متأفِّفة في ثياب ملكية متخفِّفة.
في حالة كهذه لا مكان لشيء اسمه صحافة، وإن كان ذلك لم يمنع بعض الاستثناءات أو الاجتراحات الصحفية لأفراد انتحاريين أو على استعداد للتحول إلى قرابين.
س- سجنت مرتين قبل أن تسجن لأربعة عشر عاماً، لماذا؟
ج- كانت المرة الأولى على يد المخابرات الجوية عام 1978، وذلك بسبب كراس أدبي كانت تصدره مجموعة من الكتّاب الشباب، وربما بسبب قصيدة لي نشرت في ذلك الكرّاس. بعد بضعة شهور أطلق سراحي في سياق عفو بمناسبة عيد الفطر، ولكن في اليوم التالي اعتقلت من قبل مخابرات أمن الدولة- الفرع الداخلي، بتهمة الانتماء لرابطة العمل الشيوعي، وقد أكّدت لهم جميع وسائل التعذيب براءتي من تلك التهمة، فأطلقوا سراحي بعد فترة قصيرة. لقد كان الاعتقالان الأول والثاني، كما لو أنهما “منحة” من قبل السلطات ليتاح لي إجراء التمارين الضرورية أو التدريبات الأولية من أجل الاعتقال الأخير.
س- كنت رئيس تحرير مجلة أدبية، بسبب أي نوع من الكتابات المنشورة تم توقيفك؟
ج- تلك المجلة كنّا نسميها “الكرّاس الأدبي”. وقد شاركت في تحريرها إلى جانب الأصدقاء وائل السواح وبشير البكر وحسان عزت وخالد درويش وموفق سليمان والمرحومين جميل حتمل ورياض الصالح الحسين. في الحقيقة لم يكن بيننا رئيس تحرير. في البداية قامت المخابرات الجوية باعتقال رياض الصالح الحسين وخالد درويش ثم أطلقت سراحهما بعد أسبوع، أو ربما أسبوعين، لتعتقلني بعدهما متوهمةً أو محاوِلةً إيهامي أنني الدينامو أو رئيس التحرير. لم نكن حينها أصدرنا سوى تسعة أعداد بوتيرة شبه شهرية. ولم ننشر في الكراس غير القصائد والقصص القصيرة. لا أعتقد أن تلك الكتابات كانت خطرة إلى حد يستدعي الاعتقال، ولكن الاستبداد يضيق ذرعاً بكل ما هو ليس تحت سيطرته، أو بكل ما هو خارج “توجيهاته الحكيمة” وفق مصطلحات ماركة الاستبداد السوري.
س- عشت متخفياً مدة من الزمن، كم كان طول تلك المدة، كيف قضيتها وهل استطعت أن تنشر المقالات خلالها؟
ج- تخفّيت احترازياً بعد حملة اعتقالات 1982 التي طالت أعداداً كبيرة من قيادة حزب العمل الشيوعي وكوادره الوسيطة، ولكن في العام التالي، وبعد مداهمة بيوت الأهل والأقارب والأصدقاء، فقد أصبحت متخفياً مطارداً أو “مطلوب حياً” حسب لغة الأفلام التكساسية. كنت أحسد الصعاليك على ما تتيحه لهم ظروف صحارانا “المجيدة” من عدالة في السلم والحرب، وبالتالي في الهروب أو المواجهة سيفاً لسيف. سوريا “الحديثة” أمر مختلف، حيث دوريات الأمن المدججة بالأسلحة الأوتوماتيكية وانعدام الأعراف والقوانين. وقد زادت أحوالي سوءاً بعد انكشاف جزء كبير من إطار وسطي الصداقي، الذي كنت ألجأ إليه عند ضرورات الجوع أو النوم. في تلك السنوات لم يكن الشعر ممكناً. كنت أكتب فقط المقالات السياسية وأحياناً الثقافية لجرائد الحزب.
س- ما أنواع الترهيب والملاحقات التي استعملتها السلطة السورية عندما كنت تمارس عملك؟
ج- كانوا يريدون اعتقالي وليس ترهيبي. وقد نصبوا لي العديد من الكمائن، وكنت أنجو منها بالمصادفة حيناً، إذ المصادفات ليست في صالحهم دائماً، وباليقظة والحذر حيناً. ولكنهم كانوا يحاولون ترهيب أصدقائي وأهلي. وقد وصلت بهم الخسة إلى حد اعتقال والدي العجوز من قريتنا القريبة من حمص، وأخذوه إلى دمشق، إلى “فرع فلسطين” السيء الصيت. هناك شاهدَ المسكين معتقلين عراة يعذَّبون ويصرخون. كانوا يريدون منه معلومة واحدة تتعلق بمكان سكني، فأقسم لهم أنه لو يعرف لدلَّهم إليه. ظل والدي مرعوباً من المخابرات إلى أن خرجتُ من السجن، ورأى أني أمتلك من الجرأة الأخلاقية والقوة المعنوية ما يكفي لجعله أقل خوفاً وأكثر قابلية للاستقواء بي.
س- ما هو وضع الصحافيين حالياً في سوريا؟ ما هي خياراتهم إن أرادوا البقاء أحراراً، وكم عدد الصحافيين المسجونين في سوريا اليوم؟
ج- مثلما لم يتغيّر الوضع نوعياً بين مرحلة الأسد الأب والأسد الإبن، فإن وضع الصحافيين وغيرهم لم يتغير أيضاً، وليس من خيار لمن يرغب أو يريد البقاء حراً، سوى الاستعداد لمواجهة احتمال الاعتقال. إنها إحدى مفارقات سوريا، ولكن هكذا هي الحال. أما بالنسبة للصحافيين المسجونين في سوريا، فإن عددهم أكبر مما كان في أي مرحلة من تاريخ سوريا المعاصر، وذلك وفقاً للتقارير الموثقة التي تصدرها المنظمات المعنية بحقوق الإنسان. وإذا كان العدد أمراً مهماً، فإن نوعية الصحافيين المسجونين الآن أكثر أهمية بكثير. أعني أسماء من طراز ميشيل كيلو وعلي العبد الله وأكرم البني وفراس سعد وحبيب صالح وكمال اللبواني وأمثالهم.
س- هل تعتقد أن الوضع تغير للأحسن أو للأسوأ منذ بدأت بممارسة الصحافة في سوريا؟
ج- في مطالع السبعينيات وحتى أواسطها، لم تكن ديكتاتورية حافظ الأسد متحررة من الضوابط والقيود، وذلك لاعتبارات ذاتية وحزبية “داخلية” خاصة، وسياسية بوجه عام، واجتماعية بوجه أعمّ، وإقليمية ودولية تقتضي المعالجة والحل من أجل التفرّغ للداخل بصورة متحللة من أية ضوابط أو قيود. في أواخر السبعينيات لم تعد لفظة “الديكتاتورية” تفي بالغرض أو بالتوصيف. لقد بدأت أحلام وطموحات الرئيس الأسد “الأب” تتأبّى ربما حتى على ذاتها. لم يعد يرضى بأقل من ديكتاتورية شمولية، تسوس كل شيء، وتحكم كل شيء، باسم حكمته أو توجيهاته الحكيمة. كان الرجل “ذكياً” ودموياً بما يكفي لتصفية جميع خصومه، وأحياناً محبيه “النجباء”. بدايتي كصحافي بدأت عند ذلك المفصل أو التحوّل من الديكتاتورية بالمعنى الضيق، أو السياسي، أو المتعارف عليه في الأدب السياسي الكلاسيكي، إلى الديكتاتورية الشمولية التي لا تُبقي ولا تذر سياسةً واقتصاداً وثقافةً وإعلاماً ونقاباتٍ وعشائرَ ومذاهبَ وأبالسة، من المهد، إلى “طلائع البعث”، مروراً بالشبيبة، وانتهاء بحزب البعث الذي لم ييقَ منه غير الاسم أو الإشارة إلى القابلية أو الاستعداد للتسبيح بالولاء. ضمن هذا السياق، أو المقاربة إذا أردتُ التحفّظ، أستطيع القول إن الوضع بصورة عامة، وعلى صعيد العمل الصحافي بالضرورة، قد تغير خلال السنوات الخمس السابقة وبشكل مطرد أو متصاعد من السيء إلى الأسوأ.
س- هل تعتقد أنه من خلال مشاركتك في مؤتمرات في أوروبا وأميركا تستطيع أن تدعم حرية التعبير في العالم العربي؟
ج- كنت أحاول أن أدعم حرية التعبير قبل اعتقالاتي وخلالها وبعدها، ولم تتغير اللوحة كثيراً بالنسبة إليّ. كنت وما زلت أحاول القيام بما يرضي ضميري، الذي لم يتكئ بعد على الجانب الذي يرضيه. لم أوفّر فرصة عندما كنت في سوريا، وأحاول ألا أوفّر أي فرصة تتاح لي وأنا في أوروبا، فما اعتراضكِ على ذلك؟ إذا كان في سؤالكِ رائحة اعتراض أو توقّع أو إشارة إلى صعوبة أو استحالة ذلك، فإن لديّ ولدى غيري الكثير من الوقائع التي مشت وتمشي في اتجاه مختلف أو مناقض لما تشيرين أو تتوقعين. وفي الواقع لم أكن أنتظر المجيء إلى أوروبا لكي أدعم حرية التعبير. لقد بدأتُ بدعمها، أو بدعم نفسي وأمثالي منذ زمن باكر لم أكن أعرف فيه شيئاً عن أوروبا، إلا من خلال الكتب المدرسية المزوّرة، التي صاغوها لنا بمنتهى السذاجة والمزايدة أو الكذب القَراح. معظم ما علّمونا إياه عن فرنسا المستعمِرة لم يكن صحيحاً. فرنسا المستعمِرة برَّأت حتى إبراهيم هنانو الذي قاد ضدها ثورة جبل الزاوية في شمال سوريا. ولكن محاكم الأسد الأب، وكذلك الابن، لم تبرّئ ولم تتساهل حتى مع معارضيها السلميين أو الإصلاحيين والذين هم بطبيعة الحال أكثر وطنية من النظام أو ادعاءاته عن نفسه. مع ورغم كل ذلك فإن بإمكاني القول إن أوروبا تسبقنا بعشرات الأيام على الأقل. لا أريد الحديث عن أرقام فلكية مرعبة فيما يتعلق بالإنتاج والاستهلاك، أو بالثقافة والتعليم والصناعة والزراعة وأشكال الضمانات الاجتماعية والصحية و “بدعة” الحريات وحقوق الإنسان والحيوان والطبيعة.
س- سجنت 14 عاماً، غادرت بلدك ولا تزال تناضل لحرية التعبير، هل حرية التعبير تستحق كل هذا العناء؟
ج- إذا أردتُ الحديث بلسان غالبية شعبنا السوري أقول إن حرية التعبير لا تستحقّ أن نتحمل من أجلها ولو كرباجاً واحداً. معظم الناس البسطاء لا يفكرون في أكثر من حرية الصمت أو حرية عدم التعبير، ولا سيما في أعراس الديكتاتورية واستفتاءاتها ومناسباتها “القومية والوطنية”. بالنسبة لي أرى حتى حرية الصمت وعدم التعبير تستحق مثل ذلك العناء، فما بالك بحرية التعبير؟
رغم ذلك ينبغي عليّ القول أو الاعتراف أن سجني لأربعة عشر عاماً، لم يكن في الواقع عناء محضاً أو معاناة محضة. لقد كان في كثير من الوجوه محطات آمنة ومنسية لا تتوقف فيها قطارات السلطة، إلا إذ جاءتها إخبارية، من “عميل أو مخبر” مضمون، تستوجب التوقف.