المحكمة وأخواتها
ساطع نور الدين
لم يكن قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان الانفتاح على الإعلام وبالتالي الجمهور اللبناني وتنظيم منتدى إعلامي في لاهاي الأسبوع الماضي مبنياً على اساس التمهيد لصدور القرارات الاتهامية التي تبدو وشيكة، ولا على قاعدة احتواء السجال المحتدم في بيروت وفي عدد من العواصم المعنية، والذي يتخلله الكثير من التكهنات والسيناريوهات. كان أقرب الى التعبير عن الرغبة في إعادة النقاش الى سوية تقنية إجرائية، تضع المحكمة في سياقها القضائي، وفي مسارها المستقل عن أي شأن سياسي، والذي يحتمل المقارنة بينها وبين بقية المحاكم الدولية او ذات الطابع الدولي.
كان المنتدى أشبه برحلة افتراضية في عالم العدالة الدولية الحديث العهد والتكوين، يجري خلالها استثناء او استبعاد الكثير من الأسئلة حول المعايير المزدوجة والقيمة الأساسية التي حكمت جميع التجارب السابقة، وهي أن المنتصر هو الذي يحاكم المهزوم دوماً، لكي يعبر عن تفوق ثقافته القانونية والسياسية التي تستبدل الثأر من رافعي الراية البيضاء بإتاحة الفرصة لهم لكي يمثلوا أمام القضاء ويعترفوا بجرائمه الخاصة قبل ان يستمعوا الى أحكام الإدانة ثم ينقلوا الى السجون بدلاً من منصة الإعدام.
ترددت أكثر من مرة في سياق المنتدى الاكاديمي الطابع، تجربة محاكمة النازيين الألمان في نورمبورغ والفاشيين اليابانيين في طوكيو، لكن فقط للتأكيد على فكرة محددة جداً هي أن المحكمة الخاصة بلبنان لا تحاكم دولة أو كياناً أو حزباً، بل مجرد أفراد قتلوا الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وأيضاً للانتقال الى المقارنة الجوهرية المنشودة بين هذه المحكمة وبين المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة التي لا تزال تعقد جلساتها. وقد أتيح للوفد اللبناني حضور جلسة تحاكم اثنين من مجرمي تلك الحرب الصربيين، قبل أن يطلب القاضي إسدال الستارة وتحويلها إلى جلسة مغلقة.
بذل منظمو المنتدى جهداً استثنائياً لنفي التسييس عن المحكمة اليوغوسلافية، التي أنشئت بقرار أميركي واكب الغارات الأميركية التي أدت الى تحطيم مشروع «صربيا الكبرى»، ومنع توسيع النفوذ الروسي الى البلقان.. لكنها اكتسبت ديناميتها الخاصة في ما بعد نتيجة المجازر التي اعقبت تشكيلها، لا سيما مجزرة سربرنيتشا الشهيرة، وحرصها على عدم استثناء الكروات والمسلمين من المحاكمة عن جرائمهم بحق الصرب أيضاً، مهما كانت محدودة بالمقارنة مع ما فعله «سفاحو البلقان» في التسعينيات.
أعاد المنظمون الى الأذهان أن المحكمة اليوغوسلافية تعرضت، ولا تزال، لاتهامات مشابهة تماماً لتلك التي تتعرض لها محكمة لبنان حالياً، سواء بالتسييس او التشكيك بهويتها ونزاهتها وحياد محققيها وقضاتها، لكنها مضت قدماً في عملها، من دون ان تشكل مانعاً، بل شكلت، حسب تعبير احدهم، مجرد رادع أمام المزيد من الجرائم… مع أن التاريخ يشهد على العكس تماماً، لا سيما في السنوات السبع الأولى من عمرها التي سبقت إعلان الاستسلام الصربي الكامل.
من أي زاوية يمكن أن يطل لبنان على محكمته الخاصة التي لن تحاكم مهزومين، ولن تمنع مجازر جديدة، ولن تكرر تجربة المحكمة الكمبودية ذات الطابع الدولي التي أصدرت الشهر الماضي بالذات قرارات اتهامية بحق أربعة من قادة الخمير الحمر الذين بلغوا الثمانين من العمر، أي بعدما مر نحو أربعين عاماً على المذابح التي ارتكبوها في سبعينيات القرن الماضي.
السفير