أسرار وثائق ويكيلكس!
سلام عبود
أخيرا نُشرت آلاف الوثائق “السريّة”، عن أكثر الحروب العدوانية علنية وافتضاحا في تاريخ البشرية!
لماذا؟
تيار المالكي يجيب باطمئنان خرافيّ عجيب: الأسباب سياسية خالصة، معروفة التوقيت، تهدف الى إطاحة حكومة العراق الديموقراطي وايقاف عجلة الحرية والازدهار. قشور الفكر الشمولي يقولون: السبب يكمن في عقدة النقص الانطولوجية في شخصية أوباما وتركيبته الاثنية والسوسيولوجية المتقاطعة مع ميكانزم تحرير العراق. القادة الكرد على لسان ناطقهم الرسمي يقولون: بيها شي زين وشي مو زين، وهذا الزين والمو زين مرهون بمن يوافق على النقاط التسع عشرة. الصدريون يؤكدون وأياديهم على القرآن وعيونهم شاخصة في اتجاه سيد الشهداء: مما لا شك فيه، ولا ريب فيه، أن الوقائع كلها كانت صحيحة مئة بالمئة، ولكن قبل أن نتحالف مع المالكي فقط. القائمة العراقية: الوثائق إحقاق للحق وانتصار للتجربة الديموقراطية وانقاذ لها من الانحراف عن مسارها الإنساني الفريد. البنتاغون: جندي منحرف المزاج استغفل الدولة العظمى المسكينة وسرّب الوثائق السريّة، من دون علمها!
الأجوبة متنوعة، متضاربة، متفاخذة، ومتفاخخة، لكنها جميعها، من دون استثناء، لا تنطلي على حمار صغير، لم يزل في طور جحش رضيع.
دول الخليج العربي تطالب بالتحقيق الفوري في “الانتهاكات”. أعلى مسؤول في الأمم المتحدة يعد بفتح تحقيق جدي في “القضية”. الصحافة العالمية تصرخ: لا بدّ من كشف الجريمة “السرية” البشعة.
كشف الجريمةّ! هل حقا أنها جريمة مستورة الى هذا الحد؟ أحقا يحتاج كل هذا الدم، كل هذا الدمار، كل هذه القنابل، كل هذه السرقات، في وطن يستباح من أدناه الى أقصاه على مرأى ومسمع البشرية كلها، وطن يُنحر من الوريد الى الوريد، يحتاج الى كشف وكاشفين ووثائق وتسريبات وسخافات ويكيلكسية؟
هل يوجد غبي على سطح المعمورة لا يعرف بالتفصيل الممل وقائع الجريمة كلها، بكل دقائقها؟
ولكن المعضلة الكبرى، في القضية العراقية الكبرى، تكمن في أننا لا نستطيع أن نعثر على الجواب الحقيقي الكامن خلف نشر الوثائق، سوى في هذه الأمثلة الحمقاء وحدها. لأن الحماقة الكبرى هي دليلنا الوجودي الأوحد. ففي العراق تقوم الفلسفة السياسية للحكم على قاعدة ذهبية متوارثة تقول: أنا سياسي أحمق، إذاً أنا موجود.
من يتابع الفضائية العراقية، ومن يقرأ شريطها الاخباري اليومي، يعثر على أرقام تفوق ما تحمله هذه الوثائق بعشرات المرات؛ أرقام موثقة وممهورة باسم أعلى سلطة عسكرية وحكومية في العراق.
ففي كل يوم يقوم الشريط الاخباري لقناة الدولة الرسمية، باسم قيادة عملياته، التي تقع تحت مسؤولية رئيس الوزراء المباشرة، بالاعلان عن انتصاراته الكبرى: ايقاع ما يقرب من مئتي قتيل ومعتقل، يتوزعون على الأرض العراقية، من زاخو حتى الكويت. أي ما يقرب من ستة آلاف شهريا، أي ما يقرب من سبعين ألف معتقل وقتيل سنويا، أي ما يقرب من ربع مليون، وهو الرقم الذي تلمّح اليه الوثائق.
السؤال الجنائي الذي يواجه هذه القناة ومسؤوليها: هل هذه الأرقام صادقة، هدفها تنوير الشعب وتثقيفه، أم أنها كاذبة؟ وإذا كانت كاذبة، كيف تسول الحكومة لنفسها أن تخدع الشعب المظلوم بهذه الأرقام المرعبة، ولماذا؟ وإذا كانت صادقة: أين جثث القتلى؟ أين تم دفنهم؟ من هم؟ لمن سُلـّموا؟ ومن سلـّمهم واستلمهم؟ أين المعتقلون؟ من هم؟ ولماذا؟
السؤال القانوني هنا هو التالي: مهما كانت تهم هؤلاء فهم موطنون لهم حق الدفاع عن أنفسهم إن كانوا أحياء، ولهم حق الدفن كما يأمر رب العالمين إن كانوا قتلى، وللشعب حق مطلق في معرفة تهمهم وحقائق موتهم أو اعتقالهم أو براءتهم والجهات التي ينتسبون اليها.
لقد أعدم صدام بسبب جريمة الدجيل وحدها، التي لم تتعد أرقام ضحاياها سوى واحد بالألف من ضحايا عام مالكي أو علاوي واحد، طبقا لأرقام الفضائية العراقية الحكومية.
هذا هو سبب نشر الوثائق.
لقد منحت أميركا عصابات السياسيين الحاكمين حرية كاملة في النهب والقتل والتدمير، وسهّلت لهم ومكنتهم من فعل كل ما يحلو لهم من جرائم انتهاك كرامة ووجود البشر، ومن ممارسة أبشع أنواع اللصوصية الإجرامية، ودفعتهم الى ابراز أعلى مشاعرالخسة والانحطاط السياسي والأخلاقي، في هيئة استهانة مطلقة بالبشر والثروة والحاضر والماضي والمستقبل، ووثقتها توثيقا كاملا، ولم تنشر منها سوى عيّنات صغيرة، تريد أن تقول بها ما يلي: إن الإدارة الأميركية تملك بالصورة والصوت والسجلات كل ما قام به خدمها المتفانون في طاعتها، وإنها تحصي عليهم أنفاسهم، وإنها وحدها من يقرر كيف وكم سيبقون على كرسي السلطة، أو متى وكيف سيذهبون الى المشنقة، كما فعلت بسابقيهم.
أمّا ما يتعلق بالجانب الأميركي فلا جديد هنا، لأن كل ما نشر قد تم تداوله عسكريا وقضائيا من قبل الطرف الأميركي، وتم البتّ فيه وتقييده ضد مجهول، بدءا من عجائب سجن “أبو غريب” السبع، حتى آخر قتيل في شوارع العراق. أما الجانب السياسي والتنافسي منه فمعروف للجميع، حتى أن أكثر الصقور عدوانية وصلفا، اعترفوا بالقصور الميداني علنا، جاء هذا على لسان كونداليسا رايس شخصيا.
الوثائق الحقيقية، التي لم ولن تنشر أبدا، تمتد الى ما هو أبعد من عام 2004، أي أبعد من حقبة مجلس الحكم المقبور وعلاوي والجعفري والمالكي. الوثائق الحقيقية، وليس الترهات المعروفة للجميع، سجّلت ووثقت أوّل مكافأة نقدية استلمها هذا الحزب، وهذا السياسي، وهذا المثقف الزنيم، من جهاز المخابرات الأميركية، وأوّل أكذوبة بطولية منحت له فخريا، وأوّل جريمة شخصية تم توقيعها بيديه، وأوّل رتبة عسكرية رمزية حملها في فيلق تحرير العراق ورقمها السري. الوثائق الحقيقية تحمل أسماء وعناوين موقعي صفقات وعقود النفط والسلاح والحدود والتحركات العسكرية والمخططات الدولية، تحمل أسماء قادة وقواعد فرق الاعدام الطائفية والعرقية والمناطقية.
إن أميركا تقول لنا جميعا، بملء الفم: هذه وثائقنا، وما عليكم سوى الطاعة العمياء، الطاعة الموثقة بالصوت والصورة، صوت وصورة شعب كامل تم نهبه ونحره علنا، بطريقة شريرة وخسيسة، يرتعد لها فزعا واحتقارا التاريخُ البشري الحاضر والقادم كله.
هذه هي الأسباب.
الحوار المتمدن