مخللات الشام.. لوحة فنية تجذب الذواقين والزوار
دمشق: هشام عدرة
المتجول في بعض أسواق العاصمة السورية، دمشق، المتخصصة في بيع الخضراوات، وما يحضر ويحول منها إلى مواد غذائية ومجففات وغيرها كما في سوق باب سريجة والشعلان والشيخ محيي الدين والميدان، سيدهشه حتما ذلك المنظر الكبير بمساحته والجميل بألوانه الزاهية والرائع بتنظيمه الهندسي المتدرج بمعروضاته بشكل متقن، وكأنه ديكور ثابت من مواد صناعية تزين واجهات محلات بيع المخللات الدمشقية، حيث حرص أصحابها على إبرازها بهذا الشكل الفني وكأنهم مصممون وفنانون تشكيليون رغم أنهم أناس عاديون تخصصوا في ذلك وورث البعض منهم فن صناعة المخللات عن آبائه وأجداده.
ودهشة الزائر ستزداد أكثر، وقد يفتح فمه مستغربا، وهو يقترب من هذا المنظر البديع سائلا البائع: «حتى الكوسا والقرنبيط والخوخ بتخللوه في الشام؟». وسيجيب البائع المتخصص مبتسما، وبكل ثقة بالنفس: «نعم نخلل كل شيء تنتجه غوطة دمشق العامرة بكل أنواع الخضراوات والفاكهة الصيفية والشتوية». وهذا بالفعل ما سمعناه من بائع المخلل ومحضره إبراهيم اللحام، الذي ورث المهنة عن أجداده، كما ورث الدكان في سوق باب سريجة، ويعتبر محله أقدم محل في سورية لبيع المخللات واسمه «خليلي إخوان»، حيث ورث المحل عن خاله وجده لأمه من آل الخليلي الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» شارحا الأسباب التي تجعله وزملاءه يتفننون في تخليل كل هذه الأنواع من الخضراوات والفاكهة، وموضحا الطرق التي يستخدمونها وميزات مخللات الشام عن غيرها في البلاد الأخرى، قائلا: «تعتبر المخللات من أقدم المأكولات الشامية، وكانت تحضر في المنازل من قبل النساء للاستهلاك اليومي والاحتفاظ بها ضمن مفردات المونة الدمشقية، ولكن ولمذاقها اللذيذ وحضورها كمقبلات مع معظم الوجبات الغذائية وفي كل الأوقات كالفطور الصباحي مع الفول والتسقية والمسبحة وغيرها، وعلى موائد الغداء والعشاء مع الفروج المشوي والبروستد والمسحب، ومع مشاوي اللحوم الحمراء، ومع الأسماك المقلية والمشوية وغيرها، فكان لا بد من تحضيرها بشكل واسع وبيعها في الأسواق بعد أن كانت محصورة في المنازل فقط، وهذا ما حصل فعلا منذ نحو نصف قرن، حيث بدأ محضرو الأغذية في دمشق بتحضير المخللات وافتتاح محلات خاصة بمنتجهم لبيعها كما هو الحال مع المنتجات الغذائية الأخرى».
وأضاف اللحام: «والجميل هنا أن الدمشقيين أضافوا الكثير من الأنواع لفن تحضير المخللات ولم يكتفوا بالأنواع الرئيسية التي كانت تخلل في المنازل كالخيار والقتة واللفت والخس والباذنجان والفليفلة الحارة والحلوة، ومن الأنواع التي أضافها الدمشقيون إلى مائدة المخللات هناك: البطاطا والجزر والبندورة والفاصولياء الخضراء والليمون والبرتقال والفراولة، وحسب مواسم وجود هذه الثمار والخضار ومدى تقبلها للخزن، فالفراولة مثلا لا تتحمل فترات طويلة في التخزين كمخلل، ولذلك تؤكل في موسمها كمخلل، وكذلك الحال بالنسبة لثمار التفاح، كذلك نخلل كل الثمار القاسية ومنها الدراق والخوخ والجانرك والعوجة (العقابية) والعنب والمشمش العجمي صاحب اللون الأخضر، بينما المشمش العادي الحلو الطعم لا يخلل، ونخلل الكرز أيضا ولكن لفترة محددة لا تزيد عن الشهر، بعدها يجب بيعه حتى لا يتغير مذاقه لدينا في المحلات التي نستفيد منها في بداية موسم إثمارهما حيث تكونان بمذاق حامض حاد، فنضيف ماء الملح ونخللهما بشكل ناجح وجيد، في حين أنه عندما تكونان بمذاق حلو فلا يجوز تخليلها وإضافة الماء المالح لها، حيث لا يمكن أن تستاغ من الناس، وخصوصا ذواقي الطعام المتميزين حيث يكتشفون مباشرة مذاقها السيئ في هذه الحالة، كما أنهم حضروا نوعا من المخللات يدعى (الكرافس) يضم وبشكل فني متقن وبمذاق لذيذ أنواعا فرعية داخله وهي: شرائح الملفوف والثوم والليمون مع ورق نبات الكرافس باللون الأخضر، وتشبه ورق البقدونس، ولكن بحجم أكبر، حيث توضع جميع هذه المكونات بعد فرم بعضها مع بعض ويضاف إلى الخليط الفليفلة الناعمة الحادة، وفي المرحلة النهائية يوضع الخليط جميعه ويكبس بشكل متقن في قرن فليفلة أخضر من النوع الأميركي الكبير والعريض، كذلك نقوم أيضا بتحضير مخلل الباذنجان بشكل فني، حيث يفرغ قلب الباذنجان ونحشوه بالثوم والشطة فيتحول إلى مخلل بطعم لذيذ».
وحول طرق التخليل التي يتبعها أهالي الشام والمتخصصون في محلات بيعها يقول اللحام: «نأخذ مثلا ثمار الخيار نقوم في البداية بثقب هذه الثمار، وهناك آلة مستخدمة حاليا لعملية الثقب، ومن ثم نضعه في برميل كبير لتبدأ بعد ذلك مرحلة النقع في خزانات كبيرة حتى ينظف تماما من التراب والمواد التي تكون عالقة به في المزارع، وبعدها يصفى ويعبأ ببراميل بيضاء شفافة ويضاف إليه الملح وخل التفاح الطبيعي حصريا، الذي يعطي المخللات اللون الأصفر الفاتح، وهناك خل تفاح بلون أبيض نستخدمه فقط في تخليل الفليفلة البلدية ويغلق البرميل بشكل محكم (ونضيف لبعض الأنواع، وبشكل خاص اللفت، ثمار الشمندر حتى تأخذ اللون الأحمر، في حين أن جميع أنواع المخللات الأخرى تأخذ لونها الطبيعي)».
وحول الوقت الذي يستغرقه نضوج المخلل لكي يصبح جاهزا لأكله قال اللحام: «يختلف الوقت هنا حسب نوع الثمار التي نخللها والحد الأدنى للوقت هنا 15 يوما، وهو لثمار الخيار، بينما الفليفلة تحتاج لشهر كامل حتى تصبح مخللا في حين أن اللفت يحتاج 25 يوما»، ويوضح اللحام أن مخلل اللفت مثلا تقوم النساء في المنازل بسلقه قبل تخليله، بينما أصحاب المحلات لا يسلقونه، والسبب أنه في المنازل يتم تناوله مباشرة، في حين أنه في المحلات يظل 6 أشهر يباع منه، وبالتالي فإن عملية السلق تسرع في استهلاكه وتقصر فترة تخزينه.
وحول تفنن الدمشقيين بطريقة عرض المخللات قال اللحام: «استخدمناها لجذب المتسوقين، وهناك مجموعات سياحية تتجول في باب سريجة ومن دهشتهم بطريقة العرض يقولون لنا هل هذا لوحة فنية طبيعية مرسومة، ويلتقطون صورا تذكارية بجانبها»، ويتذكر اللحام كيف كان والده وزملاؤه في النصف الثاني من القرن العشرين يستخدمون الأوعية الفخارية في التخليل بدلا من الخزانات البلاستيكية الحالية، ولكن كانت الأنواع التي يخللونها قليلة نسبيا قياسا للواقع الحالي، كما أن الفخار أصبح من التراث وحتى الفخار الحالي صار يضاف له مواد تسيء لعملية التخليل وغير صحية، ويؤكد اللحام أن المخللات مقبلات شامية الولادة والنشأة والتحضير والابتكار، ويعود عمرها إلى نحو قرن من الزمن، وهناك عائلات دمشقية معروفة اشتهرت بها ومنها من أخذ لقبه منها كعائلة مخللاتي، والأتراك أخذوها من دمشق، وكذلك فعل المصريون، وما يؤكد هذا الكلام الرواية التي سمعها من والده وانتقلت من الآباء والأجداد أن هناك أسرا دمشقية كانت تنقع الخيار في بدايات القرن المنصرم بالماء وتتركه لليوم التالي لكي يظل طازجا حيث لم تكن البرادات موجودة في ذلك التاريخ فلاحظ البعض منهم تغير لون الخيار من الأخضر إلى الأبيض قليلا (الملوح) فقاموا بإضافة الملح له مع الماء عل لونه لا يتغير فاكتشفوا مصادفة أنه تحول بعد عدة أيام إلى طعم حامضي لذيذ المذاق وحافظ فعلا على لونه الأخضر الزاهي، ومن هنا جاءت عملية التخليل. ويضيف اللحام أن الثمار المخللة تظل محافظة على قيمتها الغذائية وفوائدها الصحية، ولكن ينصح مرضى ارتفاع ضغط الدم بعدم تناولها لوجود الملح فيها وكذلك المصابين بالقرحة المعدية والقولون العصبي عليه تجنب تناول المخللات على الرغم من أن الملح يعتبر من جهة ثانية من أقوى المطهرات، حيث يقتل أي نوع من البكتيريا والجراثيم ولذلك تأخذ المخللات الشكل النظيف الصحي المفيد غذائيا.
الشرق الأوسط