بيروت الفاسدة مشغولة بالمنافع المادية… حلب عصية على الفهم: سورية ولبنان كما رآهما روائي فرنسي في العشرينات
محمد منصور
في واحد من أهم وأعمق وأمتع ما كتب عن سورية ولبنان في فترة الانتداب الفرنسي في النصف الأول من القرن العشرين، أصدرت دار المدى مؤخراً كتاب الروائي والصحفي الفرنسي بيير لامازيير (مسافر إلى سورية) الذي زار المنطقة عام 1926 ووضع كتاباً عنها يروي إخفاقات سياسة الانتداب الفرنسي والمشاكل التي زرعتها في الجسم السوري، حين تبرع الجنرال غورو مأخوذا بعصبية وروح الحروب الصليبية باقتطاع أجزاء من سورية الطبيعية وإعطائها إلى موارنة لبنان من أجل إنشاء (دولة لبنان الكبير).
الكتاب الذي صدر بترجمة ممتازة للدكتورة فوزية الزوباري، ومقدمة ملهمة للروائي خيري الذهبي، يشكل وثيقة نادرة ومدهشة عن كواليس الحياة السياسية السورية في مدن الشرق الكبرى: دمشق، بيروت، وحلب… مازجاً بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في رؤية شديدة الجرأة، يقول صاحبها رأيه الصريح في الأشخاص والمدن والنخب بلا مواربة، فيرى بيروت مثلاً: (بيروت الفاسدة، مشغولة بالمنافع المادية وحدها، مشغولة بالكسب، تمارس بمهارة تامة قول الكلام الذي يرغب السامعون في سماعه أياً كانوا) ويرى في حلب: (حلب المسلمة، والعصية على الفهم، الممتدة بين القلعة والصحراء، لا تسلّم سرها) أما دمشق فيقول عنها: (إن الوجهة يجب أن تكون إلى دمشق إذا ما أُريد حقاً التعمق في الروح السورية ومتابعة خفقاتها) مضيفاً: (إنها دمشق قلب سورية ودماغها)!
مذهب السياسة اللبناني!
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أصدر هذا الروائي والصحفي الفرنسي الذي ارتحل إلى سورية كي يعرف حقيقة ما يثار عنها في ظل الانتداب الفرنسي، هذا الحكم القاسي على بيروت؟! ولماذا اتهم نخبها السياسية بالممالأة وبيع الكلام والآراء المعسولة؟!ّ
ولا بد أن يمر الجواب على هذا السؤال من الطريق البحرية التي سلكها الكاتب، على ظهر (سفينة أبي الهول) من ميناء مرسيلية الفرنسي إلى ميناء بيروت مروراً بالإسكندرية… فقد تصادف أن مؤلف الكتاب، كان على متن السفينة نفسها، التي كانت تقل المندوب السامي الجديد على سورية السيد (هنري دوجوفينيل) ليحل محل المندوب السامي السابق الجنرال (ساراي) الذي تمت إقالته بعد سلسلة من الإخفاقات السياسية والعسكرية التي وسمت عهده… وخلال تلك الرحلة البحرية الطويلة شاهد الكاتب بأم عينيه كيف جاء مجموعة من الساسة والسماسرة والوكلاء اللبنانيون إلى مرسيلية ومكثوا مدة ثمان وأربعين ساعة في الميناء، كي يرافقوا السفينة التي تقل المندوب السامي الجديد إلى بلادهم، وقد وصف الكاتب خطتهم في ذلك بالقول:
(إنما الخطة الكبرى تكمن في محاصرة السيد الجديد من قبل الزملاء المتنافسين المتزاحمين، لذلك وعندما يكون الأمر ممكناً يجب الانتظار ليكون الرجل المعني قد تسلم مهمته، بل يجب السعي لملاقاته، وعندما يكون عليه أن يسافر مدة طويلة لتسلم مهمته، لاسيما بحراً، حينئذ تكون هناك فعلاً عملية رابحة على المرء أن يغتنمها. إن الحياة على الباخرة مناسبة للقاءات، للتعارف، وهي تسمح بشيء من التآلف. فعلى ظهر السفينة يستطيع الإنسان أن يتدبر أمره دائماً… وقد علمت بأن بعضهم اختصاصيون، ممن سبق لهم أن سافروا على مراكب كانت قد أوصلت غورو، وويغان، وساراي إلى سورية. وكان كل منهم واثقاً بصناعته وحذاقته، وليس على استعداد للتراجع أمام أي وسيلة، وهو يفكر بمضاعفة الانحناءات والقفزات المتكررة والتقرب من أحد معاوني ممثلي السلطة المنتدبة).
وقد حدث أن السفينة وقعت أثناء تلك الرحلة، فريسة عاصفة هوجاء استولت عليها لمدة ستة أيام وليال، وراحت تقلبها وتهز أركانها، حتى خيل للكثيرين أنها النهاية… وقد صور لنا الكاتب مشاعر بعض اللبنانيين الذين كانوا على متن الباخرة يحفون بالمندوب السامي الجديد، إزاء تلك المحنة التي هددت حياة الجميع، وخاطبهم ساخراً بالقول:
(أما أنتم أيها البيروتيون الحاذقون في التدبير، فقد كنتم مجللين بالحزن، ومع كل تأرجح وآخر للباخرة كنتم تُرجعون، وربما لأول مرة في حياتكم، مشاعر المرارة والأسف بسبب إنفاق أموالكم دون منفعة. كان البحر قد خرب آمالكم بشدة، ولم يكف عن تعذيبكم، إلا في ميناء الإسكندرية، حيث وللاستخفاف بكم، أصبح فجأة هادئاً وعذباً مثل بحيرة جميلة).
دروس بكركي وحلوى برج إيفيل!
وليست هذه هي الصورة الوحيدة التي صفعت الكاتب إزاء حالة الاستقواء بالسلطة المنتدبة والاستزلام لها، التي رأى عليها بعض اللبنانيين منذ بداية الرحلة… بل هناك صور أخرى، صادفته بعد وصول المندوب السامي إلى بيروت ونزوله في قصر الصنوبر، كان محورها هذه المرة (بكركي) والعلاقة مع موارنة لبنان… فقد قصد المندوب السامي الجديد (هنري دو جوفينيل بكركي) ليلتقي غبطة سيدنا حويك بطريرك الموارنة، الذي كان سلفه الجنرال (ساراي) قد سمّم العلاقة معه… وقد شارك مؤلف الكتاب في الرحلة من بيروت إلى بكركي وقد وصف لنا مسار الرحلة على النحو الآتي:
(كانت قافلة السيارات الرسمية التي تسلك طريقاً يتعرج فجأة لتكتشف وفي كل لحظة، قرية أو شارعاً أو منازل عالية بيضاء نظيفة، تتدلى منها الورود، ولتكتشف رجالا يعتمرون الطربوش التقليدي، وقد عمهم اهتياج صادق لدرجة أنه لم يعد هزلياً. كانوا يندفعون إلى مقدمة السيارات ليرغموها على الوقوف، وقد شهروا أعلاماً ضخمة ثلاثية الألوان، بينما راحت مواكب الفتيات والفتيان الصغار المعتمرين طرابيش الكشاف اللبناني الرمادية اللون، تنشد المارسيلييز النشيد الوطني الفرنسي. لقد شاركتُ في هذا السفر، ومررت تحت أقواس مصر من الأغصان الخضر ثبتت عليها لافتات كتب عليها: ‘تحيا فرنسا… تحيا السلطة المنتدبة المجيدة’ اجتزتُ قرى كان علمُنا يخفق في نوافذ كل منزل فيها. سمعت الهتافات وتصفيق النساء والفتيات والأطفال، رأيتُ تلالاً كبيرة من أوراق الورد وهي تتساقط من الشرفات. كنتُ شاهد عيان مثل هنري دو جوفينيل، على الهيجان الصادق المتجرد من أي هزل، لرجال اعتمروا الطرابيش، يرددون بجنون، ودون كلل، العبارات المكتوبة على أقواس النصر).
ويصل الموكب إلى القصر البطركي، وهنا يصف الكاتب مشهداً آخر لا تقوله المظاهر والطقوس فقط، بل تعبر عنه الكلمات الصريحة وخطاب غبطة البطريرك نفسه، إلى درجة تجعل كاتبنا يقول ساخراً:
(لم أسمع قط، وتحت أي سماء، أحد يعبر بمثل هذا التأثر وهذا الحماس، وبهذا الحب لوطني فرنسة. لم ألتق أبداً برجال غُيُر بهذا القدر على تعظيم فرنسا وعلى خدمتها، وعلى الدفاع عنها إذا لزم الأمر، مثل أولئك الرجال أتباع القديس مارون… وبعد سماعنا هذه البلاغة الزاهرة، الفعالة، الملتهبة بهذا القدر، كيف يمكننا ألا نفكر بأن ‘ساراي’ كان أحمق جداً مذنباً إلى حد كبير، عندما تخلى عن أصدقاء على هذا القدر من الصدق؟ وكيف لنا ألا نقدر أن صاحب الغبطة سيدنا الحوّيك، كان منصفاً حينما كان يتكلم بهذا الحماس الفتي الذي احتفظ به رغم السنين قائلاً: إن الانتداب الفرنسي يجب أن يستند إلى الطائفة المارونية أو أن لا يكون).
ويتابع الكاتب في موضع آخر فيلوم نفسه على هذه السخرية المبطنة وهو يصوّر مشاعر هؤلاء وانسفاحهم فيقول: (في الحقيقة كنتُ مرتبكاً. فكيف بإمكان الكاتب الوطني الكبير- الكاثوليكي، أن يظهر هذا القدر من البرود ومن السخرية، تجاه أسقف فرنسي القلب إلى هذه الدرجة [يقصد البطريرك الماروني]، أسقف لم يتردد أثناء مؤتمر الصلح في ركوب البحر… والمجيء إلى باريس ليطلب تكليفنا بممارسة الوصاية على بلده؟)
لكن حقيقة المشهد ينكشف عندما يعود المؤلف إلى بيروت ويكلم صديقه الفرنسي المقيم هنا منذ سنوات عن زيارته لبكركي وعن الحماس الذي حيا به اللبنانيون المندوب السامي الفرنسي وبأية حرارة هتفوا لفرنسة وأنشدوا نشيدها الوطني… حيث يُخرج له صديقه عددا من صحيفة (بيروت) يعود إلى عام 1915 حينما زار جمال باشا وزير الحربية العثماني آنذاك المنطقة قاصداً بكركي، يتضمن وصفاً تفصيلياً للحفاوة التي قوبلت بها الزيارة بالمظاهر نفسها… وقد كان أطرف ما في ذلك الوصف أنهم قدموا لجمال باشا بعد انتهاء الطعام قالب من الحلوى على شكل برج إيفل، فقال وهو يقطع البرج وبسرعة بديهيته المعهودة: (إني أحطم رأس العدو). وردت على هذه البديهية الذهنية عاصفة من التصفيق متبوعة على الفور بهذا الكلام الحازم من الجمهور: (وستحطمها أيها الباشا بعون اللبنانيين)!
على ضوء هذه الوقائع والتجارب الشخصية يبني لامازيير حكمه الصريح على السلوك السياسي اللبناني، ولئن جاء تعبيره صادماً وقاسياً، إلا أنه كان نابعاً دون شك من عقلية مثقف بورجوازي كان ينبذ التعصب الديني الذي طبع تفكير وأداء كثير من جنرالات فرنسا أثناء حكم الانتداب، بمقدار ما كان ينبذ النفاق والاستزلام والروح الانتهازية في التقرب حتى ممن يمثلون سلطة وطنهفرنسة في تلك المنطقة… وحتى نرى لماذا أصر لامازيير على حكمه هذا يجب أن نرى كيف سارت وقائع رحلته التالية، وكيف كانت صورة المدن الأخرى الكبرى في تلك الفترة: حلب ودمشق… ونبدأ من حلب التي زارها المؤلف قبل أن يحط رحاله في دمشق. وهناك كانت مفاجأة من نوع آخر!
المفاجأة الحلبية: العبرة في الخاتمة!
في أيلول/سبتمبر عام 1920 ولم يكن قد مضى على دخول سلطة الانتداب الفرنسي دمشق أسابيع عديدة، بدأ الجنرال غورو تنفيذ مشروعه لتقسيم سورية إلى دويلات… وبحلول عام 1920 كانت سورية قد أصبحت خمس دويلات هي: (دولة جبل لبنان، دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة جبل الدروز) إلا أنه في عام 1925 أعلن اتحاد دولتي دمشق وحلب في دولة واحدة… وعندما زار بيير لامازيير مؤلف الكتاب حلب، كان هذا الاتحاد ما زال قائماً… وقد ظهرت بعض الأصوات التي تنادي بفصل حلب عن دمشق… حتى كاد الفرنسيون أن يصدقوا أن ذلك هو مطلب الحلبيين فعلأ، وهم الذين طالموا رددوا أمامهم: (سورية ضلع، وحلب هي اللب واللحم، ودمشق هي العظمة؛ لذلك لنضع هذه العظمة من جهة واللحمة من جهة أخرى). وبعد عدة لقاءات حضرها مؤلف الكتاب مع المندوب السامي الذي كان يزور حلب أيضاً، كتب لامازيير ملخصاً انطباعه بالقول:
(باختصار يمكن التأكد من أنهم لا يريدون أن يكون لهم أي شيء مشترك مع أعداء الانتداب، بل إنهم يطلبون فصلهم عن الدمشقيين المشاغبين وإعطاءهم الاستقلال الإداري والسياسي، والتقارير قاطعة من قبل السيد ريكلو وهو مفوض أو حاكم الدولة السورية في حلب، والذي يملك مقراً في دمشق).
وبناء على هذه التأكيدات، وعلى أحلام السيد ريكلو الحاكم الفرنسي الذي كان يطمح أن يصبح ملكاً على حلب، ليكون عين فرنسة على طريق قوافل فارس والهند كما كان يردد، تقرر إجراء انتخابات لتثبيت الحقيقة التي صارت معروفة للجميع حول رغبة حلب بالانفصال عن دمشق التي تكن العداء للانتداب، والتي لا ينفك ثوارها يعكرون صفو حكم الانتداب الذي يرغب الحلبيون في أن يتعايشوا معه بسلام… لكن ماذا كانت نتيجة الانتخابات؟! لنستمع إلى مؤلف الكتاب وهو يصف الصفعة المؤلمة التي وجهها أبناء حلب لفرنسا في تلك الانتخابات:
(خمسة عشر يوما انقضت، جرت فيها الانتخابات في ولاية حلب بأسرها، واجتمع المجلس المشكّل… وخلال الساعة الأولى من اجتماعه قام باقتراع جماعي، يؤكد ارتباطه بدمشق، هذا الارتباط غير القابل للتبديل. وللاحتجاج على محاولة ما قد يحصل لتقسيم جديد للأراضي الموضوعة تحت الانتداب، وللإعلان عن وفائه لفكرة الوحدة السورية، ولكي يظهروا بأنهم من خلال الاقتراع، يعبّرون عن شعور الشعب، هكذا حملوا نصف قنطار من الاعتراضات المزينة بتواقيع جميلة بخط اليد الأسود، ممهورة بأختام بنفسجية اللون، فحواها أن كل من له قيمة في سورية الشمالية يعلن أن حلب ودمشق لا تشكلان سوى جسم واحد له الدماغ نفسه، والأحشاء نفسها، وان لب الضلع من اللحم لا يريد أن ينفصل عن العظم. في هذه المغامرة لم يفقد السيد ريكلو سوى الحظ بالحصول على ترقية، وفرنسة فقدت شيئاً من هيبتها).
أجل لقد انتصر أبناء حلب لوطنيتهم ولقنوا فرنسا درساً قاسياً في الانتماء للوطن الأم، ولهذا بدت حلب التي تظهر غير ما تبطن، مدينة عصية على الفهم.. وقد قدم لامازيير بعين الصحفي ولغة الروائي، وصفاً رائعاً للمدينة اللغز في غير موضع من الكتاب… لعل أجملها قوله:
(مدينة ممتدة حتى حدود الصحراء، تلتمع عن بعد متوهجة تحت الشمس، كانت محاطة بحدائق ومقابر شاسعة ومزروعة بأشجار السرو، ومكونة من عدد لا يحصى من المنازل الصغيرة المكعبة. كانت المآذن تبرز هنا وهناك، والقباب تتكور واحدة إثر أخرى…. مدينة السكان الأصليين، المدينة العربية بامتياز، إنها مبنية فوق تعرج معقد من السراديب التي تنتهي إلى هذه القلعة، والتي كانت تسمح بتموينها أثناء الحصارات الطويلة التي قاومتها. تفحصت جزءاً بسيطاً من هذه السراديب محاولاً الحصول على سرها أو وضع مخطط لها، وجدت عند كل خطوة هياكل عظمية لجماعات كانت قد تاهت فيها. أنا شخصياً عندما أذهب إلى هذه السراديب أذهب برفقة عشرة من جنود الهندسة، وأستخدم جميع وسائل الاتجاه والاختبار المعروفة. مع ذلك ولوم لم أكن أنا ورجالي مربوطين بحبال كما يفعل متسلقو جبال الألب، لكنا تهنا من دون شك، وأصابنا ما أصاب الذين عثرنا عليهم).
دمشق: أحلام لا نهاية لها!
بعد حلب يفرد المؤلف فصولا لمناقشة فترة حكم الجنرال ساراي التي وسمت بالإخفاقات الكثيرة، ويتطرق إلى الثورة المتفجرة في جبل العرب إنما بلغة متجنية وغير منصفة… إذ لا يرى في الثورة التي قادها الزعيم الوطني سلطان باشا الأطرش سوى (ثورة الجماعة الوحيدة المحبة للحرب في البلاد) ومن غير المجدي الوقوف عند هذا الفصل الذي يبدو قائما برمته على مغالطات مرة وعلى فرضية أن الإنكليز هم الذي يحركون أبناء جبل العرب لتطفيش حليفتهم فرنسا من المنطقة… ولهذا لا بد من متابعة خط سير المؤلف على طريق المدن، حيث كانت دمشق هي وجهته الأخيرة، وحيث كان الفصل المخصص لها: (ما الذي نتعلمه في دمشق) تعبيراً عن المكانة الاستثنائية التي أدركها المؤلف، للمدينة العريقة وأثرها في تشكيل وجدان السوريين… وفي ذلك يكتب فيقول:
(على الرغم من أن السفر يحمل شيئاً من المفاجأة، إلا أن الوجهة يجب أن تكون إلى دمشق إذا ما أريد حقاً التعمق في الروح السورية ومتابعة خفقاتها). ويضيف في موضع آخر: (إنها دمشق قلب سورية ودماغها)… وبعد أن يطوف شوارع المدينة ويقضى أياماً فيها ويتابع مجالسها وصخب مقاهيها، يكتب المؤلف انطباعه الأعم عن دمشق فيقول عن الحجر والبشر:
(في شوارع هذه المدينة الواسعة ذات السمة الشرقية الخالصة والغنية بمئات الجوامع والقصور والأطلال القديمة الغافية تحت الغبار المتراكم عبر القرون، يعج شعب ملون وهائج لدرجة يقوده فيها تعصبه وكرهه للأجنبي أحياناً لارتكاب أفظع الأعمال. لا يمكن إطلاقاً إحصاء هذا الشعب، ولا يمكن لأحد أن يفتخر بأنه توّصل إلى معرفة عواطفه وأمانيه، أو أن يتكهن بردود أفعاله المتوقعة في ظروف وأحوال معينة. يغذي رجال الدين تعصبه، ومن خلال عدد لا يحصى من الخطباء المحرضين الذين يطوفون الحارات الشعبية، والأسواق والخانات، يتوقفون في باحات الجوامع، في المقاهي الصغيرة، حيث يقضي الدمشقيون ساعات في لعب الدومينو والنرد، أو يجلسون بسيقانهم المتصالبة على مقعد خشبي قديم، حالمين أحلاماً لا نهاية لها).
إذاّ دمشق في العشرينيات، دمشق التي اضطرت ساراي لقصفها وتهديم بعض أحيائها بالمدفعية والطائرات عام 1925 مدينة هائجة لم يروضها الاحتلال، تظهر كرهها للأجنبي المحتل أو المنتدب بشكل سافر لا لبس فيه، مدينة يلوك أبناؤها أحلاماً تعبر عن الغنى والحراك والطموح والرغبة في خوض غمار السياسة، والدفاع عن الهوية… من هذه الزاوية بدت دمشق (قلب سورية ودماغها) كما قال الكاتب، إنها لا تجامل الأجنبي كما تفعل حلب في المجالس والخطابات على الأقل، ولا تمشي في ركابه كما تفعل بيروت المشغولة بالمنافع بالمادية… لكنها تجمع على جدران بيوتها بطريقة مدهشة كل صور ورموز مقاومة المحتل الأجنبي في الوطن العربي في تلك الفترة إذ يقول لامازيير:
(إذا كان المرء يستطيع أن يشك في التضامن الحاصل بين دمشق وأنقرة وريفيي المغرب والمصريين الوطنيين، فقد كان يكفي للاقتناع بوجود هذا التضامن، أن نتأكد، انه لا يوجد مقهى صغير، أو مخزن تجاري أو حرفي، أو منزل أميري إلا وزين صدر بيته في إطار من الزخرفة أو التصوير الجميل بصورة شخصية لمصطفى كمال، وسعد زغلول، وعبد الكريم الخطابي، ولكل أبطال الإسلام الذين واجهوا الغرب).
امتحان الضمير: غورو وموارنة لبنان!
ويتعلم مؤلف الكتاب الكثير من دمشق… فبعد فصل (ما الذي نتعلمه في دمشق) ينتهي إلى فصل هو الأكثر حدة في محاكمة سياسة الانتداب وأخطائها التاريخية، جعل له عنواناً صادماً هو (امتحان الضمير) ولعل أكثر ما يلفت الانتباه اشمئزازه من وقوف غورو على قبر صلاح الدين بدمشق وعبارته (هاقد عدنا يا صلاح الدين) حيث يكتب معلقاً: (آه لهذا الطيش وهذا الكلام المحزن) ثم حديثه عن الطريقة التي شكل فيها الجنرال غورو خارطة لبنان الحالي، وعلى أية خلفية، إذ يقول:
(انخرط غورو في حرب صليبية جديدة على طريقته حال وصوله، وتصرف بصدق تام، لم يخف إطلاقاً رايته ولا الاتجاه الذي كان ينوي منحه لسياسته بعد أن كان محاصراً برجال الدين الموارنة الذين تبدو لهم السياسة قضية كبيرة. قرر غورو أن ينشئ لهم منطقة أكبر في جبل لبنان، لذلك كان منحازاً سلفاً لقضيتهم، فحسم الأمر وضم لسنجق عام 1860 أقضية: حاصبيا وراشيا وبعلبك والسهل الخصب للبقاع، وكل الأقاليم المسكونة بغالبية مسلمة، مثل مقاطعة طرابلس وعكار في الشمال، والمقاطعة التي تعود لصور وصيدا في الجنوب قريباً من الحدود الفلسطينية حتى جزيرة أرواد، أي كامل الشاطئ السوري. لقد أصبحت دمشق الآن معزولة عن البحر، دمشق التي لم تكن مقدسة فقط، بل كانت دمشق التجارية والصناعية، ودمشق المدينة الأكثر أهمية في سورية، والمفتاح إلى بغداد).
إن كتاب (مسافر إلى سورية) وثيقة هامة عن متاعب وأحلام فرنسا في الشرق وعن دروس السياسة في المشرق، عن سورية الكبرى التي كانت، وعن دمشق القلب النابض المشحون بالأحلام والإيمان والنزق والحراك الحي، وعن لبنان ومذهب ساسته في الماضي… وربما في الحاضر أيضاً!