صفحات ثقافية

الحنين إلى الشاعر الواقف وراء الشعر والسينما والرواية: “زريبة الخنازير” مختارات شعرية لبازوليني إلى العربية

null
بيروت- ‘القدس العربي’من ناظم السيد
ربما كانت المختارات الشعرية لبير باولو بازوليني والتي ترجمها محمد بن صالح (‘منشورات الجمل’ و’كلمة’) تحت عنوان ‘زريبة الخنازير’ (عنوان فيلم للشاعر) الترجمة الأكبر لهذا المخرج والرسّام والمفكر والروائي والشاعر الإيطالي الذي أمضى حياته غاضباً ومناضلاً بالكتابة والصورة.
الشاعر الذي ولد في 5 آذار (مارس) 1922 وتوفي ليل 1-2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، طعناً بالسكين على يد فتى في السابعة عشرة من عمره يدعى بينو بيلوزي اتهمه هذا الأخير بالتحرش الجنسي كما أشيع (البعض يذهب إلى أن عملية القتل هذه كانت مدبرة إذ اعترف الفتى لاحقاً أن ثلاثة رجال خرجوا فجأة في الظلام وانهالوا على بازوليني بالطعنات وهم يصرخون ‘الشيوعي القذر’. وكان المخرج الإيطالي مارك توليو جيوردانا أشار إلى الدوافع السياسية لمقتل الشاعر في فيلمه الذي أخرجه سنة 1995 بعنوان ‘بازوليني: جريمة إيطالية’)، هذا الشاعر عاش حياة عنيفة سواء في صراعه مع نفسه أم في صراعه مع ما يحيط به. من ناحية هو الشخص المعذب بمثليته (كما يُقال) وبعلاقته غير السوية بوالده الضابط في سلاح المدفعية وأحد نبلاء مدينة بولونيا، والذي أفلس لاحقاً بسبب القمار فلجأ إلى الكحول ومات جرّاء مرض في الكبد، إضافة إلى مقتل شقيقه الذي انضم إلى الثوار المناوئين للفاشية. ومن ناحية أخرى هو المناضل السياسي الذي انضم إلى الحزب الشيوعي قبل أن تقوده انتقاداته وبلاغات فساد طاولت مجموعة من الأعضاء إلى طرده من الحزب، لينتقل مع والدته سنة 1950 إلى روما حيث عاش بلا وظيفة متفرّغاً للكتابة (بعد خمس سنوات ظهرت روايته ‘أطفال الحياة’ التي شهدت نجاحاً كبيراً)، إضافة إلى نقده اللاذع للكنيسة وعلى رأسها بابا الفاتيكان وللطبقة السياسية المتحالفة مع هذه الكنيسة في زمن حكم الفاشية. هذه الحياة العنيفة للشاب العصبي والقاسي بأحكامه وملامحه على السواء والقادم من قرية كازارسا (نشر كتابه الأول في سن العشرين بعنوان ‘أشعار من كازارسا’) الواقعة في منطقة الفريول الزراعية شمال إيطاليا (كانت جزءاً من النمسا التي تنازلت عن جزئها الشرقي بعد الحرب العالمية الثانية ليوغسلافيا)، هذه الحياة معطوفة على المنطقة التي ولد فيها شكلت الخلفية الكبيرة لشعر بازوليني والذي تنوّع وتبدّل مع مرور الأعوام.

تحولات الشاعر

بدأ بازوليني كتابة الشعر باللهجة الفريولية (كتاب ‘الشباب الجديد’)، عبر قصائد تقع تحت تأثير شعراء التروبادور (الجوّالين) وغنائيتهم. لكنه ما لبث أن أصبح أكثر قسوة وعنفاً وانتماء بعد اكتشافه الماركسية وتزايد نقمته على رجال الدين والسياسة كما في ‘اكتشاف ماركس’ و’رماد غرامشي’ و’ديانة زمني’، لينتقل أخيراً إلى التجريب والعناية أكثر بشكل القصيدة ولا سيما في ‘أشعار على شاكلة الوردة’ و’تربية الإنسان وتعضيته’.
رغم انتمائه إلى الحزب الشيوعي ومناصرته الفقراء لم ينجرّْ بازوليني إلى كتابة نص واقعي مباشر. لقد حاذى الواقعية وكتب من الواقع من غير أن يقع في المباشرة. إن اهتمام صاحب ‘لغة’ باللغة وعمله المتواصل على شكل القصيدة وتضمينها أفكاراً مستمدة من قراءاته الماركسية (تحديداً غرامشي) وانتقاله الدائم من تيار إلى آخر، من الغنائية إلى الهرمسية إلى الوضوح من غير إسفاف، جعلت من نصه الشعري شعراً أصيلاً. ليس بازوليني مخرجاً كتب الشعر، بل هو شاعر أخرج عدداً من الأفلام، إذا عرفنا أن طموحه الأول كان شعرياً قبل أن يتحول إلى السينما. ‘كل هذه الأفلام أخرجتها كشاعر’ يقول عن سينماه. كتب بازوليني نصاً عن علاقته بالشعر وُضع خاتمة لهذه المختارات، وفيه يتوجه إلى قارئ لا منتبه: ‘في تربيتي يوجد تقدير عظيم للشعر، لقد نشأت، وهذا له دلالته، في ظرف كان الشعر فيه أسطورة: ما قبل الرمزية، والهرمسية، الشعر في معناه المطلق، الشعر الخالص. إنني لا أقدر أن أحمل عن هذا الشعر دلالة لا تكون سامية، ولهذا كان لا بد من أن أتنازع مع نفسي، وبسبب أن الشعر كان قد أصبح على مستوى تاريخي أسطورة، فقد كان لا بد من إزالة الوهم عنه. ولذلك، وبجهد إرادي، قاومت نفسي وأعدت الشعر إلى صورته الأدواتية (كأداة)، وأكرر إنه جهد خاص، صراع تاريخي يومي، ولكن يبقى الشعور بالإجلال تجاه الشعر كامناً في أعماقي صلباً كما في الصوان’.
إذاً، شكلت الماركسية بما تعني أنها التزام بالفقراء والمهمّشين والمنبوذين (هؤلاء الذين اكتشفهم الشاعر بعد انتقاله إلى روما حيث عاش فترة متبطلاً)، واجهة لأعمال بازوليني الشعرية (‘رماد غرامشي’ نموذجاً)، إضافة إلى مثاليته السياسية التي جرّته إلى مواقف مناوئة لليمين ولليسار معاً، معطوفة على نقد للكنيسة، ولا سيما أن هذه الكنيسة لم تناصر الفقراء ولم تقم بالتزاماتها الأخلاقية من وجهة نظر الشاعر. لكن موقف بازوليني من رجال الكنيسة يكشف إيماناً بهذه الكنيسة (الأصح بالمسيحية) أكثر منه موقفا إلحادياً. في مجموعته ‘عندليب كنيسة الكاثوليك’، وهي من المجموعات الأجمل في هذه المختارات، يبرز موقف الشاعر هذا. إنه موقف إصلاحي يهدف إلى تنقية التدين من رجال الدين، وإلى الذهاب بهذا التدين إلى منابته الروحية والأصلية. من خلال شخصيات هي طفل وفتى وشاب وعجوز ونساء وخادم الكنيسة ومريم (العذراء) يتحدث الشاعر عن الكنيسة مستعيداً براءة الإيمان في قريته كازارسا قبل أن تكشف له روما وجهاً عنيفاً آخر للحياة وللتدين. لكن هذا الموقف يبلغ ذروته الحادة مع مجموعة ‘ديانة زمني’ التي تتضمن هجاء صريحاً للكنيسة وللبابا نفسه، ثم يتصاعد هذا الموقف مع مجموعة ‘مهان ومغتاظ’ التي ينتقد فيها الكنيسة والبابا وخروتشوف والأدباء المعاصرين: ‘كانت كنيسة حبي المراهق/ قد انخمدت عبر العصور/ وما كانت تعيش إلا من الرائحة العتيقة والمؤلمة،/ رائحة الحقول. وجاءت المقاومة التي كنست/ بأحلام جديدة حلم أقاليم المسيح المتحدة،/ وعندليبه العذب- المضطرم…/ ولا واحدة/ من أهواء الإنسان الصادقة/ قد انكشف في كلام الكنيسة أو في سلوكها./ على العكس، ويلٌ لمن لا يقدر أن يمتنع/ عن أن يكون جديداً! أن يهبها/ بسذاجة كل هذا التموّج داخله/ مثلما البحر من الهوى شديد الاضطرام./ ويل لمن يرغب/ مترعاً بالبهجة الحيوية،/ أن يخدم شريعة ليست سوى الألم!’.

الطفل والموت

إذا كانت مجموعة ‘دمع الوردة’ تشكل المرحلة الهرمسية من شعر بازوليني، فإن مجموعات مثل ‘لغة’ و’عندليب كنيسة الكاثوليك’ و’اكتشاف ماركس’ و’ديانة زمني’، هذه المجموعات تحديداً تشكل في جزء منها عودة إلى الطفولة وإلى الأجواء الريفية في كازارسا. الطفولة ثيمة أساسية في شعر بازوليني. إنها المكان الآمن والنقي والبكر في حياة الشاعر الصاخبة بالملذات والشجارات والمناكفات والسجالات. الطفولة بالنسبة إليه عالم لم يُلوث بالعالم. الطفولة خلوٌّ من العالم: ‘أريد صمتي العاري،/ صمت الطفل الذي كانت أوروبا/ الخالية من الأنصاب تؤججه عند السحر،/ صمت الطفل الذي في اللهجة المحلية يحلق/ فوق قلبه الطاهر الخالي من العالم’.
يشكل الموت ثيمة أخرى أصيلة في شعر بازوليني. من النادر ألا يكون الموت موضوعاً أو محركاً لموضوع في مجموعة شعرية للشاعر. ‘قصائد قليلة الأدب’ نموذج لهذه العلاقة بالموت والألم والوحشة والثورة والأحلام. في هذه المجموعة يستعيد الشاعر متأخراً هذه المشاعر التي رافقته في شبابه. إنه يتذكرها الآن بلسان المفكر والمحاور والمتأمل. إنه يسأل نفسه لماذا أراد طوال كل تلك السنوات إبدال الكنيسة بالثورة. في الخاتمة التي أشرت إليها كتب الشاعر عن أيام الثورة التي أمضاها متخفياً ومطارداً. ‘كنت آنذاك- يقول- مسكوناً، بالتأكيد، بقلق مرضي من الموت، ومهووساً على الدوام بفكرة أن أجد نفسي مشنوقاً عند عقافة…. إن ما يذهلني في أشعاري ناظراً إليها بعين غريبة، وهو ما لا يوافق الحقيقة – هو شعور مطنب في الحزن موهن الهمة: حزن هو جزء من اللغة ذاتها، حزن هو أحد مكوناتها القابل أن يُترجم من حيث الكم ومن حيث الكثافة’. الغضب أيضاً حاضر في كل خطوة من خطوات الشاعر. هذا الغضب الذي كان يراكم أعداءه أينما ذهب. ‘مهان ومغتاظ’ نموذج جيد لهذا الغضب. في حين كتب عن الحرية، الخوف من الحرية، خوف الآخرين لأنهم عاشوا عبيداً، هي الثيمة الأخيرة التي وصل إليها في مجموعته ‘تربية الإنسان وتعضيته’ الذي نشر قبل موته بخمس سنوات.
‘زريبة الخنازير’ جهد يُضاف إلى جهود الترجمات التي تنقل إلى العربية آداباً جديرة بالترجمة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى