سبهان آدم: الفن يجب أن يحوي طاقة موسعة كطاقة الأنبياء والرسل ولا يحدّ بمعايير مصغرة كالهوية والوطنية

رنا زيد
ليس لدينا تجارب تشكيلية في العالم العربي خصوصاً في بلاد الشام
«لعل ما أقبض عليه مشدوداً لم يكن إلا ظلاً»، ما قصده الشاعر الفرنسي إيف بونفوا من تلك اللحظة حرّك حياة الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم أو سبهان محمد (38 عاماً) منذ بدايته، وقول بونفوا جعل آدم يُحوّل مسيرته الإبداعية من كتابة الشعر (بعدما عرف أنه لن يأتي بأكثر مما كتبه بونفوا) ليدخل وكائناته المتخيلة عالماً لونياً متقلباً، ثبت أخيراً على منطق ما، لاسيما بعد تَعرُّضه في ربيع 2009 لحادث سير على طريق دير الزور/ الحسكة (شمال شرق سورية)، فالرضوض والكسور زادت حدة عُزلته الإنسانية، ثم بدّدتها قليلاً بعد الالتئام. الصنابير النحاسية المعلقة في سقف غرفة بيته الدمشقي القديم (لجلب الخير والبركة) تنحَّت عن منزله الجديد في منتصف المدينة، كما أن مستودعاً كبيراً خُزِّنتْ فيه مئات اللوحات نَفِدَ منها، كل ما يُرسَم يُباع، أهي أحجية؟ أم درس يُلقّنه آدم للمبتدئين في الفن؟ بعمله بلا احتكار أو خضوع لصالة عرض فنية، وبيعه عشرات من لوحاته ضمن مبدأ الصفقات.
أعمال تعطي طاقة هرمون «الأدرنالين»، جسد الآخر يدخل حالة الغضب من هامشية شخوص آدم وتطرفها وغموضها، ليثبت ككائن بشري، بضخ أصوات لا تنطق من الأفواه، بل من حدة البشاعة ـ الألم، وبفاصل زمني عن الأعمال يرى آدم كائناته ضده، يحترمها كأعدائه الكثر، تعارضه ويرعاها بلطف «كائنات الهامش ـ العزلة، والأمراض السيكولوجية كما يقول» تفاجئه هو ذاته بمنتجه، وتقلل حدة الثرثرة الدائرة حول شخصه في مقاهي دمشق، أمّا مزادات كريستيز ودبي وسوذبي أو البورصة العالمية، فلا تعرف أن الفنان الحاضر فيها، كان يمكن أن يكون لصاً مثلاً فيما لو لم يرسم (حسب قوله: الحياة السلبية أو الخطأ والكذب حتماً، كانت ستجعلني مجرماً. البشرية تمرض، وهذه حقيقة الحقيقة على مر الوجود البشري، نحن نعيش مختبراً ومسرحاً). أخبرنا أن أدونيس قال إن لوحته تنطق بـ«يا آدم أبعدني عن آدم»، وأنه عَدَّ فنه «انفجاراً في أحشاء تاريخ فنِّ العالم العربي الإسلامي»، واصفاً إياه بـ «ترجمان لليل الغريزة، وللجسد الليلي»، أقام آدم نحو 60 معرضاً فردياً في أوروبا وأميركا والشرق الأدنى والأوسط، والعالم العربي، كما تمَّ تكريس 22 معرضاً له في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، بدأ الحوار مع آدم، بشيء من الغرابة، لا تقل استفهاماً عن نسخه وتوزيعه يوماً على عدد من أقراص الـ«دفي دي» صوت شخيره، ليبرهن أنه ينام دون قلق:
÷ عام 1989 افتتح معرضك الأوّل في الحسكة، ما هي الذاكرة التي تحملها قبل تلك الفترة من نشوئك في بيت فقير مع أحد عشر أخاً، وهاجس بالوجود والتأثير لم تمنعه عدم دراستك الأكاديمية؟
} لا أخفي أنني أتذكر لحظة ولادتي، وأول نفس أوكسجين لي في غرفة صغيرة كنت أعيش فيها وأهلي جميعاً، كان المنظر أمامي طهرانياً أبيض، ومع مرور الأيام أتذكر التأتأة، حتى دخلت غيبوبة ووقتاً غامضاً لا أذكره، لأعاود تذكر أيام الحروب المحتدمة على أطراف منطقتنا (الحسكة) الموضوع على صلة بالعدم أكثر مما له علاقة بالوجود.
÷ هل هذه نظرية في الوعي أم أنك تتكلم عن ذاكرة حقيقية؟
} لا أنا جاد، أتذكر كل شيء، من مشهد ولادتي، المرحلة اللاحقة كانت لتمضية الوقت وخلق سعادة معينة خاصة في صحراء زمنية (الحياة البدوية) لم أرد أن أقطعها ببؤس أكبر مما فيها. كنت سعيداً مع نفسي وغير راضٍ عما يجري في العالم، أما الإنسان فكان خطاً أحمر ومرحلة من الشك والتساؤل، الآن أحاول تصنيع روائح المكان وكأنها مركبات جاهزة في الذاكرة؛ ما كان من غدائنا أو عشائنا (خبزاً يابساً، بندورة، بصل) هناك أيضاً روائح الطين، وغرفة بسقف صغير، أتذكر البرد أيضاً والتلفاز الأبيض والأسود، هذه اللحظات الآن مقدسة لدي وحالمة، فحتى الرسوم المتحركة كانت تحرضني على الحلم بأن أكون مثلها (السندباد، روبن هود) وصولاً لعلاقتي وتأثري برامبو وسقراط وأدونيس وأمين معلوف وكولين ويلسون، أو الدادائية، انتهاءً بالمطربين الشعبيين وعلى رأسهم سميرة توفيق، وفهد بلان، والمقام العراقي، وحتى أندريا بوتشيللي الملازم للحظاتي اليومية الآن. ما أنقذني أنني قرّرت أن أكون رساماً فبدأت بتلوين بطاقات كرتونية للثياب (يبيعها أهلي في المنزل) ذهبت إلى المكتبة وطلبت ألواناً بخمس عشرة ليرة سورية، وبعد إنجازي مجموعة قدمتها إلى المركز الثقافي في الحسكة ووافقوا على عرضها بعدما أشيع أنني أكتب الشعر، أتى الجميع ليروا رسوماتي، وربما لأنني كنت أتكلم بنبرة قوية لم يجرؤ أحد على قول: هذا العمل جيد أو لا، آمنت في تلك الفترة بأنني إذا مشيت فقط على الأرض سأصنع زلزالاً بقوة 4 درجات على مقياس ريختر.
÷ هل كان نجاحك أمراً واقعاً، هل كانت هذه الخطوة ما نقلك عام 1999 للعرض العالمي، وقلب موازنة الحياة القاسية ـ الفقيرة بعد معرضك في مدينة ديجون الفرنسيّة؟
} أول شرعية نقدية أتت من معرضي في الحسكة، فلوحاتي تقاطعت مع الشعر، عنونت واحدة منها بـ«هرقل في المرحاض»، وكنت أصف القس بارتفاع درجة حرارته لـ 45د، وحملت إحدى لوحاتي عنوان «أنوثة الأنبياء» الذي كان صادماً للزوار، بنفس مستوى تسمية لوحة أخرى بـ«النبية سيبورا» استوحيتها من شخصية امرأة متسولة في الحسكة (بشعر أحمر، وزن زائد يفوق المئة كيلو) كانت تسحرني بجمالها المفترض، بسعيها، وصعلكتها دون أهل يرعونها، والتفافها في شوارع المدينة. غيرت اسمي في أول معرض لي وأنا الآن في المعمعة، والحقيقة أنني أصبحت رساماً معروفاً عالمياً، لا ينكر أبوة الفنانين العالميين أو السوريين أمثال (فاتح المدّرس، مروان قصّاب باشي)، لقد مثّلت الألم الإنساني بكل مناحيه الجغرافية، ولا أحمل تقنين ثقافة المكان، فالفن يجب أن يحمل طاقة متوسعة كطاقة الأنبياء والرسل لا تخضع لمعايير مصغرة؛ لكلمات الهوية والوطنية.
÷ لم ترسم حتى اليوم في دمشق سوى الأعمال الورقية (مكرهاً بسبب الحادث وصعوبة سفرك إلى الحسكة)، هل هو بعاد بينك وبين مقوماتها المحفزة على الإبداع، أم تنكر لجوها الثقافي المُحرّض؟
} لا، حاولت أن أفعل ولم ينجح الأمر، أحب الحسكة وأهلي، كما أنني متأثر بوالدتي وكل أعمالي رسمتها بالقرب منها، الفقر دفع بي إلى الطاقة والخيال، وآثرت مشهد أنثى (أمي) تستيقظ صباحاً، تجهد دون تأفّف وترعى مَنْ حولها ببهجة. ثم إن العزلة عن المحيط جعلت لي مختبري الخاص، اكتشفت كل شيء بنفسي، وتضحية الزمن التي قدمتها لأكون أنا، بعد طور العزلة جعلتني قادراً بإنتاجي الغزير على ملء أقمشة العالم من تصوراتي، أُخزِّن ألواناً لثماني سنوات قادمة في منزلي في الحسكة (لا أجد من له حماستي على العمل حتى خروج الدم من عينه)، أروِّج لفني أيضاً دون مساندة أحد لإتاحة بيع أعمالي عبر صفقات ضخمة لقُرابَة الخمسين لوحة مقابل مبلغ من المال، طبعت كتباً ضخمة، ووصل سعر لوحتي حتى 15 ألف دولار أميركي، مَن من فناني سورية التشكيليين تُعرَض له إعلاناتٌ ترويجية في أهم مراكز العاصمة دمشق، إضافة إلى طريق بيروت – دمشق مدة عام كامل دون انقطاع؟ وبالضرورة فإن الوحيد الذي يشعر بقيمة أعمالي هو أنا. الرسامون الآخرون أنتجوا من بيئة الكتب، وهم جزء وامتداد للآخرين، كلهم يستقون تجاربهم من النظريات الجاهزة وهذا لا يصنع فناً، إنما الموت على اللوحة والدفن بين الألوان، حاولت دائماً أن أفتح المجال مع الآخر في دمشق أو غيرها، بتفكيك الكائن وإكسائه لحماً جديداً أمامهم، لكنهم يكرهون النجاح ويحاربونه.
÷ ما قصة تكرار المسخ ذاته، في كل اللوحات، وكم تراهن على تقديم الجديد بعد جولة أخرى من الألم الجسدي والنفسي فترة حادث السير الذي تعرضت له؟
} أولاً كائناتي متخيلة وليس لها تسميات، هناك بينها حتى قصائد الحب المهموسة دون أي ارتباط بالإنسان، لأنني أخلق كائناً جديداً محرضاً، والرابط الوحيد بين كائني والعالم هو دمار العالم. أما التكرار المقصود هنا فهو الأسلوب، بيكاسو مثلاً؛ أسلوبُ ومشاريعُ أعماله الضخمة أبقى اسمه ساطعاً، لذا الأهمية تكمن في توزيع الكائنات اللونية ديموغرافياً، لكنني أقمت حديثاً سلسلة من المعارض الاستعادية (ثلاثة في سورية آخرها معرضي في غاليري كامل، الكويت المغرب، البرتغال)، سينتهي بعدها احتفائي بالرسم لأنحو في الفترة القادمة صوب مشروع متكامل بين الحفر والغرافيك والخزف والنحت، أودِّع الآن المرحلة القديمة، وأسلّم فكرة إيجابية لن تعاد عن أعمالي فترة التسعينات وبداية القرن الحالي، لعله يتقبلها بعمق بعدما كان وحده التباهي الاجتماعي يجعل الآخرين يقتنون أعمالي، وحتى مع امتلاك الحب والثقافة فإن شراء لوحاتي ليس عملاً سهلاً على المجتمع بسبب غرابة كائني وتيقظه في لاوعي الآخر، ولا أعرف كيف نفدت لوحاتي القديمة كلها الآن.
الثورة التشكيلية
÷ ارتباط فنك بالقلق هل يجعل الاستقرار النفسي لكائناتك، غير متوافر لاحقاً أو فارضاً هيمنته على حياتك اليومية؟
} الاستقرار موجود، ففي الفن هناك ثورات تصاعدية وخمود، وانكماش، وهذا أمر طبيعي- لا أعرف كيف يتمكن الفنان الشاب اليوم من تدبر أموره المالية- لكنني أرى في الرسم، والشعر، تضحية كبيرة بلا محصول وافر، إلا إذا دمج الفن بما له علاقة بالأخذ والعطاء، التبادل مع المجتمع، على الرسامين استعمال ثقافتهم وإدراجها مع واقعهم. أتماشى الآن بهدوء أكبر مع وتيرة الواقع والسياسة الاقتصاية العالمية التي يزداد إرباكها وتطرفها أكثر فأكثر عن سيكولوجية البشر، ويعبرها مناخ أزمة الاقتصاد، والحروب، والتفاوت الطبقي، وصرعات الحرية، وعدم بقاء البشر على منظومة اجتماعية واحدة، كل هذا كان يربكني، وفني يمثل حدة التمرد والثورة التشكيلية الحداثية، وهذا النوع من الفن لا يحظى برعاية في سورية، العارفون بالحداثة وما بعدها محدودون وضمن المحدودية هناك محدودية بفهم العمل، وتحليله.
بالنتيجة لا يوجد اليوم ما يؤرقني، مع توفر المال والشهرة الخارجية أريد رسم أعمال، بقدر ما يتطلب الوقت، فالحياة والأشياء تستحق أن يعيشها المرء بسهولة.
÷ ما هي الأصالة في الفن التشكيلي العربي الحديث. ما مردودها، وكيف تفهمها الأنتلجنسيا التشكيلية الشابة؟
} التجربة الشابة والرعيل الأول يتبع في معظمه المدرسة والتيار الفرنسي الحديث، ليس لدينا تجارب تشكيلية أصيلة في العالم العربي وخصوصاً في بلاد الشام، لاسيما في لبنان وسورية، الأردن بالطبع مستبعد عن هذا، استيراد الحداثة الفرنسية والغربية، ظاهر في أعمال كل الفنانين، ويخلط الجيل الشاب بطريقة مفبركة، أعمال الغير دون أصالة أو طريقة خاصة به، ما أسميه ببيئة الكذب، لنستورد ولا نصدر الفن بالمعنى الأصيل، أسماء محددة أضافت إلى الفن في سورية كالمدّرس وقصاب باشي.
الفرادة
÷ لكن أسماء التشكيلية اللامعة واسمك بينها، دخلت مزادات عالمية، هل تعني أننا توقفنا عند فاتح المدرس؟
} تجربة المدرّس متفردة ولا أفهم لِمَ يُحطّم الناس كلمة التفرد، القصة ليست مماطلة وتكرارا، التفرد أن تكفي المرة الأولى ليرى العمل، أي أعمال فنية عربية تلك التي تحمل ما قدمه المدرّس؟؛ من يتحدث عن أعمالي ويتهمها بالسرقة نظرته قاصرة أيضاً، كوني أحمل تفردي الخاص، من قال إن العمل الفني الحقيقي ليس واحداً يتكرر ويتوالد، من مناخاته وأشيائه، يغفل أن أجيالاً كاملة نقطعها ليظهر بعضا من التفرد كما هو حال الشعر،.. (يستطرد) من السهل أن ينسخ شعر نزار قباني، بسرقة فحواه، أو وزنه، وما ينتج من ثقافة حالية يخضع وينافس بعضه بعضاً ضمن نظام مافيات، أي منافسة ضمن الجماعة، ففي تجارب الفن السوري معظم الفنانين الشباب تأثروا بأسلوب سبهان آدم، حتى الجيل الأكبر يفعل ذلك بناء على سهولة تغيير الأسلوب في العالم العربي، وتحوله.
÷ أتصنف ذاتك ضمن الأسلوب وتنفيه عن الآخرين؟
} المعادلة هي لوحة بيضاء لدى من أتحدث عنهم، عندما يُرسم عليها تأخذ من تجارب الآخر أو تقطع من لوحة أخرى مشهداً لونياً لتنجز اللوحة، قليل من هنا وقليل من هناك يتكون عمل خادع، لا فطرية، ولا تحليل فيه، هذا هو اللاأسلوب، كل قطعة في لوحاتهم سرقة من مكان، عشرات الآلاف يعملون بطريقة واحدة، هناك نحات سوري يأخذ كل أعماله عن الفنان السويسري ألبرتو جاكوميتي.
هكذا تكرر الأسماء ذاتها، وهنا علي ألاّ أشتريها بقرش، ويعبر الجمهور في المقابل على النحو التالي: لا يقول إن هذا العمل قد رأينا على شاكلته ملايين الأعمال، لكن يجلس أمامه ويصفه بأنه لطيف وجيد، لكن هل هو متفرد، الجواب: لا، إذاً أين البصمة والأسلوب؟.
أسماء مهمة
÷ هل لديك القدرة على المتابعة؟ أو المحافظة على الأسلوب وعدم هدمه مع الوقت؟
} أتحدى أن يروا أعمالاً مشابهةً لأعمالي ولو بعد ألف عام، وهذه رؤيتي للفن، لِمَ لا نتكلم عن أدونيس فموضوعه متفرد أيضاً هو كفر بالمرتزقة، وكون حوله إشكالية، لكن إن اختار يوماً أن يتوقف عن الكتابة فهذا حقه وهنا يضع آخر لمسة على أسلوبه بقوة، ولا يجب أن يعمل المبدع للحظة الأخيرة، وهذا إنقاذ للأسلوب، فيروز مثلاً شوَّهت صورتها المبنية على مر عقود بالتعاون الأخير مع زياد الرحباني في ألبوم «إيه في أمل»، ظهورها اختلف عن السابق، حتى لو كانت اقترحت أسلوباً جديداً فهذه مغامرة، لا تبررها حاجتها إلى المال. أنا أيضاً أحتاج المال لمتابعة عملي، لكنني أتوقف ولو جعلني ذلك أخسر أسلوبي.
÷ انتماء مشروعك الفني إلى الواقع كما تقول، أيبعدك عن أحلام المبدع الرمزية؟
} أسست لمشروعي الثقافي خلال طفولتي؛ على الحلم، معتمداً فيما بعد على أسماء مهمة وثرية، لديها طفرة عربية كالماغوط وأدونيس، كانت الأحلام تتضمن الثقافة إلا أنها أصيبت بالكسل، والواقع ليس له علاقة بما قبل الآن، كما أن لكل واحد منا وجهة نظر خاصة، أول ما يهم المبدع في الوطن العربي لنجاح حالة إبداعه هو بناء صداقات مع الآخر، لغياب دولة الرعاية، هل يمكن أن أبقى مثلاً في منظومة المتحف القديم في مديرية الفنون السورية، طبعاً لا. أنا أبيع وأشتري اليوم، وأقيم صفقات مع أضخم صالات الفن المعروفة دولياً، والعالم يجري حولي هكذا. لا يمكن أن أنتظر، فالكتاب الورقي سينقرض قريباً، أي إننا ندخل حالياً في حالة الوهم، وهناك موارد بشرية تتقلص، فمئات الرسامين موجودون في سورية ولا شيء مهما لأن التشتت في الثقافة السورية يلحق الأفكار والمصالح الخاصة بها. وهناك إنكار لوجود الأب والرمز، أنا كنت أباً للآخرين وهم رفضوا ذلك، قبل وجودي بإنتاجي الغزير لم يتوافر للجمهور فن يوضع في البيوت بسهولة، حتى الفنانون الشباب يحدثون أهاليهم عني ليقنعوا بالسماح لهم بممارسة الرسم الذي ارتبط بالفقر، وأنا ربطته بالثروة والنجاح.
÷ أتحاول فرض أبوتك دون رعاية للآخر أو اهتمام بمشروعه؟
} (يشير إلى النافذة) الهواء البارد الذي يأتي من هنا هو أهم من هذا المجتمع، السخف قتل بشرية الناس، ليصبحوا جزءاً من منظومة فاسدة لا أريد التعاطي معها.
÷ أهي فلسفتك النهائية، وهل نفدت مشاعرك مع انقضاء أيام الفقر، ليحل العقل فقط؟
} ليس لدي أي مشاعر، لأن الآخرين لديهم هشاشة، يعيشون الفقر وأعيش المنطق، الفن الآن هو صالة عرض فنية ثم تحالف استراتيجي بيني وبينها، لتتحرك أعمالي محلياً فعربياً ثم عالمياً، وهذه البيئة هي الصالحة لنموي، وليست خادعة، كما المزادات التي تحركها ثورة ولعبة أوراق مالية، وبلدان تنتزع مقدرات الثقافة، ضمن ترسيخ نظام العولمة لذات رافضة لتيار المحافظة على نظام الطبيعة والخير، المصلحة لعمل المافيات فقط، ولا أبالغ إن قلت إن عشرين في المئة من هذا العالم يتحكم بالبقية الباقية وهذا مشهد فلسفي بشكل ما؛ الفن التشكيلي هو جزء من اللعبة المالية العالمية، وهذه الموازين غير الراجحة أدت إلى نشوء مجتمع من كبار السن في سورية محبط من جراء إحباط القضايا الكبرى (الفلسطينية وغيرها)، وصنعت أشخاصاً غير منتمين، وثقافتــهم أصبحت جزءاً من الواقع والسياسة. لذا أنزوي وأرسم على فترات فصلية ثم أبيع محصولي، دفعة واحدة كمزارع الأرض، دون الاعتماد على أي مرجعيات فكرية ـ إنسانية، كي لا أمشي في مناطق مجهولة، فالقصة معروفة وضمن الوضع، وما يطلبه واقع العمل، أباشر مرحلة التسويق مع الصالات الفنية من فترة إلى أخرى.
÷ سجال من عدة أطراف خاضه الوسط التشكيلي السوري حديثاً (غاليري الأيام، يوسف عبدلكي، صفوان داحول، وآخرون) هل خدم الحركة التشكيلية في رأيك، وهل للصالة حق الترويج الفني، وللفن حق إدارة الثقافة كما يحلو لكل منهما؟
لم يتكلم أحد بالحقيقة كاملة، الكل رأى الأمر من زاويته الخاصة، والمثل الشعبي يقول: (فخار يكسر بعضو)، لأن ذلك يستلزم أن يكونوا حرقوا أنفسهم بأنفسهم، عبدلكي دفع تكلفة هائلة وطاقة بالهجوم، أما خالد سماوي فهو إيجابي من ناحية الحركة والتسويق في سورية، لكن لديه أخطاء ولا نقاش حول ذلك، وصفوان داحول لديه تبعية للغاليري السورية المحتكرة له، الأطراف البقية تتحرك حسب ما يدفع لها من مال، وبهذا تتداخل الأشياء، لم نعرف إلى الآن ماذا حدث بشكل دقيق؟ سوى أنه ليس هناك من وجبة دسمة للصراع عليها، في وقت يجب فيه طرح أزمة أخرى للنقاش: لماذا تعاني صالات الفن السورية من توقف حركة العرض فيها، وكيف ظهرت هشاشة بنية التسويق؟ هل كانت فورة للفن السوري؟ وواضح ذلك للعيان، أغلب الأعمال بيعت للخارج لتعلق في المدن التي تبنى في الدوحة أو المنامة، لنتبين أن العمل الفني هو بزنس، وارتباطاته متشعبة بذلك.