حوار نقدي في قضايا عامة مع ياسين الحاج صالح
اسئلة أحمد الواصل – السعودية
1- تستخدم في تقديم أطروحاتك الفكرية والنقدية (المقالة)، ولكنها مقالة تأملية وتحليلية تتعدى حالة اليومي والراهن. ماذا تعني لك المقالة، ولماذا كانت هي الاختيار؟
كانت أقرب إلى اضطرار في الواقع. تخرجت من الجامعة عام 2000 وأنا في نحو الأربعين، ولم أكن أريد العمل طبيبا. كان البديل الأقرب هو الترجمة وكتابة المقالات في الصحف من أجل العيش. ولكن كذلك لأن المقالة هي الوسيط الكتابي الأنسب للتعبير عن الموقف والرأي في شأن القضايا العامة. كنت سجينا سياسيا سابقا، وأريد التدخل في الشأن العام بأدوات الكاتب هذه المرة لا بأدوات المناضل السياسي وحدها.
وهناك أيضا عامل ظرفي تمثل في أن سورية عرفت في ذلك الوقت مناخا منفرجا نسبيا، “ربيع دمشق”، حتّم عليّ وعلى كثيرين غيري أن يكون لهم قول في شأنه.
وإلى هذا كله، يضاف عامل تكنولوجي تمثل في شبكة الانترنت التي يبدو أن المقالة هي الوسيط الكتابي الأبرز فيها.
وبحكم تأخري في الكتابة ونوعية تثقفي (اجتماعيات وفلسفة بخاصة)، وجدت نفسي أكتب المقالة الفكرية التحليلية أكثر من التعليق السياسي الظرفي.
على أني ربما أصدر غير كتاب في الفترة المقبلة، وستتضمن دراسات موثقة وليس مقالات نشرت في الصحف فقط.
2- بحسب أحد دارسي تاريخ الفكر العربي في القرن الماضي .. وصف أربع اتجاهات حيال قضايا الحضارة والثقافة والمصير: اتجاه واقف على موروثه الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي؛ واتجاه يوفق بين ما لديه وما لدى الآخر الغربي، أي يحافظ على خط رجعة؛ واتجاه ثالث ذاهب إلى الآخر بالتمثل والانصهار؛ واتجاه رابع – وهو نادر– يتحرر كاملاً من الموروث والتبعية، ولكن بلا سند. كيف ترى هذه الاتجاهات ضمن تحولات التاريخ العربي خلال القرن وما انتهت إليه؟
أرى أن الاتجاهات الثلاثة الأولى تشكل ما يمكن تسميته المُركّب التوفيقي. إذْ لا يترك التطرف التراثي والتطرف التبعي حيّز تواصل وتفاهم غير التوفيقية. اقترح مفهوم المركب التوفيقي من أجل أن نتقدم في فهم التوفيقية، وكي نتمكن من نقدها ونقد شروط إمكانها معا، أي أيضا نقد الحل الوسط التوفيقي ومعه التراكيب الإيديولوجية الجزئية التي لا تؤدي إلا إليه، والتي ليست بحال عنصر كسر للتوفيقية أو خروج منها. التحرر من التوفيقية يقتضي كسر المركب ثُلاثي الشُّعَب كله.
فإذا رفضنا الحل التوفيقي وحده، دون رفض جناحيه، تأدينا إلى تطرفين متناحرين لا يحوز أي منهما شرعية أكثر من الآخر. ويبدو لي هذا محققا بصورة ما اليوم مع تراجع الوسط التوفيقي الذي مثلته يوما القومية العربية. لذلك يتواجه حداثيون مطلقون مع إسلاميين مطلقين بدورهم، دون منطقة وسط فكرية ثقافية تخفف من وقع صدامهما. الدولة وحدها تشكل عامل ضبط لهذا الصراع المتفجر اليوم في أكثر مجتمعاتنا. وهو ما يمنحها استقلالية وشرعية غير متعوب عليهما.
وأتصور أن كسر المركب التوفيقي ككل يقتضي شيئين.
أولهما تقدم مستمر في إنتاج القيم الثقافية، المعرفية والأخلاقية والجمالية. التوفيقية تعمل على التسوية بين تيارات فكرية مختلفة، بين التراث والحداثة، أو السلفية والتبعية حسبما رأى برهان غليون في كتابه “اغتيال العقل”، أو الأصالة والمعاصرة، بدرجة تتناسب مع ضعف الإنتاج الثقافي لدينا. أو لنقل إن التوفيقة حل توزيعي لتنازع النظم والقيم الثقافية، فيما المطلوب حل على مستوى الإنتاج. وفي الإطار العربي اليوم، تعكس التوفيقية ضعف إنتاجية ثقافتنا وعجزها عن تقديم تغطية معرفية وقيمية ورمزية للواقع الذي نعيش. أي أيضا قصورها عن تحقيق الهيمنة البانية لإجماع عريض أو لهيمنة ثقافية واسعة. التوفيقية هي الحل حين المشكلة هي القصور الثقافي.
المقتضى الثاني لتجاوز المركب التوفيقي هو تقدم مستوى التوافق السياسي والاجتماعي في بلداننا. كثيرا ما لا نميز التوفيق بين الأفكار (وهذا لا معنى له) عن التوفيق بين الناس (وهذا له كل المعنى ومطلوب دوما). فنعمل على التوفيق بين “الحداثة” و”الأصالة”، أو في وقت مضى بين الماركسية والإسلام، الأمر الذي يفسدهما معا ويفسد تفكيرنا أيضا، بينما المطلوب هو ترقية التوافق بين ماركسيين وإسلاميين مثلا، أو بين القطاع الاجتماعي الذي يتماهى بالإسلام والقطاع الذي يتماهى بالحداثة، وذلك على أرضية من المساواة السياسة والحريات العامة والتفاهم الوطني. وتقديري أن من شأن التقدم الديمقراطي في بلداننا أن يغني أكثر وأكثر عن التوفيقية لكون هذه معالجة إيديولوجية لمشكلة ليست إيديولوجية أصلا، بل هي اجتماعية وسياسية، أعني مشكلة التفاهم الوطني أو تشكل المجتمع المندمج.
والخلاصة أن من شأن تقدم الثقافة من جهة والديمقراطية من جهة أخرى أن يقوض أسس المركب التوفيقي. وأفترض أنهما معا يشكلان “السند” الذي ألمحتَ إليه في السؤال للتحرر من سيطرة الموروث كما من التبعية، ولقيام بديل مختلف، أصيل وإبداعي ولا توفيقي. الشيء الأساسي أن نتكون كذوات تعرف وتتساءل وتنتج المعنى من جهة، وتتعاقد وتتفاهم من جهة ثانية، الأمر الذي يمر في تصوري عبر الصراع مع المركب التوفيقي ككل، وعبر تحويل نموذج الدولة القائمة الذي يبدو لي أنه معادل سياسي للتوفيقية.
3- كيف ترى استعادة أفكار ما يسمى بعصر النهضة منذ قرن في زمننا الحاضر، التقدم والتخلف مثلاً؟
أخمن أنها وجه من وجوه الحركة التراثية التي انساقت إليها الثقافة العربية العالمة منذ ثمانينات القرن العشرين أو أبكر قليلا. تتمايز التراثات، لكن الحاجة إلى “الانتظام في تراث”، على قول المرحوم محمد عابد الجابري، مشتركة بين الجميع. وقد يكون الأصل في ذلك هو تعطل مشاريع العمل وإيديولوجياته، القومية العربية بخاصة، ثم الشيوعية. فمع انسداد فرص تغيير الواقع لم يكد يبقى للمثقف غير مساءلة الذات أو مناجاتها. ولما كانت الذات هذه معزولة عن العمل، كان مرجحا أن تُعرِّف نفسها بأصل مفضل أو متخيل. هذا ما أعتقد أنه دفع قطاعا من المثقفين إلى استعادة “عصر النهضة” الذي كان في الواقع مترددا وضعيف الإنتاجية، وأسس للمركب التوفيقي لا لأية اختراقات ثقافية وروحية ومعرفية وأخلاقية. إنه مسعى إلى الانتساب إلى أصل أو إيجاد نسب تاريخي مغاير لذلك الأصل والنسب الذي تخيله إسلاميون لأنفسهم. ولعله تحرك هذا المسعى إرادة نيل شرعية تاريخية لخيارات سياسية وفكرية واجتماعية بدت معرضة للتهميش في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وصولا إلى أيامنا.
لكن في اعتقادي أننا محتاجون إلى نهضة جديدة وتأسيس جديد، وطموح أكبر وأكثر جذرية. لا النسب النهضوي أساس متين، ولا النهضة ممكنة على أساسنا الإسلامي القديم. نحتاج إلى تجاوز جدلي لكليهما، يتضمن استيعابهما معا.
4- بماذا انعكست نظرية المؤامرة والفراغ، على الوضع العربي في الحالة السياسية والإيديولوجية؟
نظرية المؤامرة بذاتها انعكاس لوضعنا التاريخي المنفعل اليوم، وإن شئت لفراغ القوة والمعنى والفعل في مجتمعاتنا المعاصرة. نشعر أن الأمور تتحرك حولنا بطرق لا نستوعبها نظريا ولا نتحكم بها عمليا، فننسبها إلى فعل أيدٍ خفية وعقول مستورة. وتخفى علينا علاقات القوة العالمية متعددة المستويات، العسكرية والسياسية والحضارية، فنتخيل إرادات واعية مغرضة توجه سرا أوضاعنا المتدهورة ضمن نسيج العلاقات هذه.
وكآلية تفكير، نظرية المؤامرة مبنية جوهريا على شخصنة ما هي علاقات وعمليات اجتماعية وتاريخية، وعلى نسبة أغراض ومقاصد وأجندات محجوبة إلى ما هو في الواقع “فعل” موازين القوى وتعارضات المصالح وتفاوت الكفاءات والجهود.
لكن لا ريب أن المستوى المتقدم من تدويل منطقتنا، ونقص الشفافية المميز لنظمها السياسية، وكثافة الروابط المتنوعة، المحجوبة عموما، التي تشد كثيرا منها (النظم) إلى المراكز الدولية، والحضور المحسوس لأجهزة المخابرات المحلية والإقليمية والدولية في بلداننا، فضلا عن فراغ القوة والفاعلية الذي يلمح إليه السؤال، كل ذلك يشكل ما يشبه “بنية تحتية” لنظرية المؤامرة، أو نواتها العقلانية. الحجم الكبير لما هو خفي ومستور وسري في الشؤون السياسية والمالية والعسكرية والأمنية لبلداننا يبقي جذوة نظرية المؤامرة مشتعلة.
ويجب ألا نخلط، بالمناسبة، بين أفعال التآمر وبين نظرية المؤامرة. أفعال التآمر الخفية شائعة ومنتشرة، وتمارسها أطراف سياسية متنوعة، ومنها نحن، بهدف تحقيق مصالحها. وتكتسب تلك الأفعال معقوليتها من توافقها مع مصالح الأطراف القائمة بها. لكن نظرية المؤامرة ليست نظرية في تلك الأفعال، بل هي اعتبار التاريخ نفسه مؤامرة، أو افتراض وجود عقل خفي، قدير، عليم، يُسيِّر أمورنا من وراء ستار وفقا لبروتوكولات سرية، بحيث أن كل التحليلات العقلانية ومجمل ما تقوله العلوم السياسية والاجتماعية يتحول إلى مظاهر سطحية الغرض منها إخفاء ذلك العقل المستور وألعابه المحبوكة. من ذلك مثلا الأدبيات التي تتكلم على الماسونية ودورها العالمي، ومنه وثيقة “بروتوكولات حكماء صهيون” المزيفة. وهي مصدر خطير لتزييف الوعي، يبدو لي أن بعض الحكومات العربية تستخدمه للإيحاء بأنها هي ذاتها ضحية، وأن سياساتها ليست مسؤولة عن أوضاع مجتمعاتها وعن تفريغها من الحياة السياسية والقدرة على المبادرة الفاعلة، بل هي المؤامرة الشريرة العالمية، التي تنسب للامبريالية أو للصهيونية أو للماسونية، وفي وقت مضى للشيوعية العالمية. بهذا تكون نظرية المؤامرة ملئاً زائفا لفراغ صنعي أحدثته نخب السلطة في بلداننا، بهدف حجب مسؤولياتها، وربما بغرض إخفاء روابطها هي بالذات بالمراكز الدولية التي يفترض أنها لا تكف عن التآمر علينا.
ومما يسهم في تشويش الوعي العام أن هناك رد فعل غير سليم في تقديري على نظرية المؤامرة، يخلط بين الرفض الصائب لتلك النظرية المزعومة وبين إنكار “البنية التحتية” التآمرية، أعني دور تدويل منطقتنا وبنى السلطة غير الشفافة فيها في تفسير أوضاعنا المعاصرة، وفي الحد من فرص انتشار أنماط تفكير ومناهج تفسير أكثر عقلانية. وقد يأخذ رد الفعل الإيديولوجي هذا شكل تفسير كل شيء بعوامل داخلية محض، مع رد الداخل إلى الثقافة أو الهوية. فتغدو أوضاعنا نتاجا لفساد “بذرتنا” أو عقلنا وثقافتنا. وهذا مسلك عقلانوي وغير عقلاني في رأيي، يسهم في صنع الفراغ الفكري الذي تتغذى منه نظرية المؤامرة لا في ملئه.
5- هناك أسماء من المفكرين الذي يدرسون الظاهرة الدينية والأسطورية والإيديولوجية، تعمل على مشاريع تتجلى في أبحاث وكتب وندوات ومحاضرات. بعضها يثمر ويترك أثراً رغم عدم شهرته مثل المفكرة اليمنية أبكار السقاف التي أكمل مشروعها تلامذتها – بشكل غير مباشر- مثل كمال الصليبي وسيد القمني وفاضل الربيعي، وبعضها الآخر يشغل الحقل الأكاديمي والمشهد الثقافي إلا أنه لا يثمر عن تيار مثلما رأيت في مقالك الأخير عن محمد أركون. ما السبب؟
لست على اطلاع على عمل السيدة أبكار السقاف، ولا أعرف شيئا عن مشروعها وتلامذتها. قرأت أشياء لسيد القمني، يميزها تناسب طردي بين حدة انفعال كاتبها وبين تراجع قيمتها العلمية.
أما عمل المرحوم أركون فأظنني على اطلاع معقول عليه. وقد قلت في المقال الذي تومئ إليه إن افتقار هذه العمل إلى أسس فكرية واضحة يجعل من الصعب تبلور تيار أو مدرسة أركونية. لكني استدرك هنا للقول إن هناك ما يشبه تيارا فكريا فضفاضا، متكونا حول نقد المجمل الإسلامي، يشكل المرحوم أركون أحد أعلامه. إلا أن وحدة هذا التيار إيديولوجية وانفعالية وليست معرفية في رأيي. أقصد أنها مبنية عموما على غضب أو على نفور حيال هذا المجمل، وربما على خوف منه، وفي الغالب على خلط بين أوجهه المتنوعة. عدا ذلك لا يتبين المرء وجهة عملية واضحة لها أو أسسا فكرية مميزة يمكن البناء عليها. هذا شيء مؤسف جدا. لأن “الإسلام” سؤال كبير جدا، السؤال بأل التعريف الذي يواجه ثقافتنا ومجتمعاتنا، وبصورة ما يواجه العالم اليوم. والذي علينا نحن قبل الجميع، المسلمين بعامة والعرب خاصة، طرحه والإجابة عليه. وهو إن كان سؤالا بالغ الصعوبة، إلا أنه ثمين جدا معرفيا وإنسانيا، ومن شأن الاشتغال عليه أن يكون عملا ثقافيا بالغ الخصوبة. وهو بعد عمل لا مناص منه.
وليس للاستسلام للانفعالات والأهواء إلا أن يكون عائقا أمام عمل كبير كهذا. أظننا نحتاج إلى قدر أكبر من الانضباط الفكري والنفسي، ومن الصبر والشجاعة، من أجل أن يكون التناول النقدي للمجمل الإسلامي مثمرا.
6- هل يمكن أن نرى المثقف المعني بالقضايا العامة في الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والرياضي يمكنه أن يطور أدواته ومناهجه وتحليلاته حسب تطورات وتحولات هذه الشؤون، بينما لماذا يختفي الفيلسوف أو المفكر الذي تشغله مجالات الفلسفة: علوم السياسة والنفس والاجتماع والمنطق والماورائيات؟ ما تعليقك؟
قد أجادل في إدراج “علوم السياسة والنفس والاجتماع والمنطق والماورائيات” في “مجالات الفلسفة”. الماورائيات شأن لا تكف الفلسفة عن محاولة التحرر منه، أما السياسة وعلم النفس والاجتماع والمنطق فهي علوم مستقلة اليوم.
وتقديري أنه ليس صائبا القول إن التفكير الفلسفي غائب في ثقافتنا المعاصرة، غير أن فاعليته محدودة لسببين. أولهما الحضور القوي لعقائد المطلق، الدينية بخاصة، وكذلك إيديولوجيات العمل وإيديولوجيات الهوية، وهي ذات طابع مطلق وشبه ديني بدورها. والثاني متصل بسابقه ويتمثل في كثافة حضور شاغل العمل والتغيير، والسياسة عموما، في تفكيرنا، وهو ما يناسب التفكير الإيديولوجي لا الفلسفي. ولعل للنزعة النفعية المميزة للثقافة العربية دور أيضا في هذا الشأن. الفلسفة لا نفع منها، وثقافتنا تنزع تلقائيا على تقييم الأفكار بنفعها وجدواها العملية.
فإن كان هذا صحيحا، اقتضى ترقي التفكير الفلسفي نقد عقائد المطلق والتحرر من الشاغل العملي أو تراجع ضغطه الكثيف على تفكيرنا.
7- تعددت الأطروحات التي تناقش قضايا عربية مكررة كالهزيمة (نكسة 1967) وسواها من الهزائم الكاريكاتورية، والإسلامي السياسي وتطرفاته ومشاريعه الانقلابية، والنهضة المجهضة، والسياسات المعوقة للأنظمة العربية مثل انعدام تداول الحكم. إلى أين نحن؟
أفضل الاعتقاد أننا في مأزق تاريخي معقد بفعل التأثير المتضافر لعوامل ثلاثة، التكوين الاستبدادي للدولة؛ والتكوين الراهن، الاعتقادي والسياسي والتشريعي، للإسلام المتطلع إلى السيادة والسلطة العمومية؛ وتدويل الإقليم والدور الاستبدادي والمخرب للمحور الأميركي الإسرائيلي فيها. وضبط هذه القوى الثلاثة وأنسنتها هو ما قد يمنح معنى لتمخضاتنا واختلاجاتنا الراهنة، أو يضفي عليها معقولية تاريخية.
نمر بأزمنة عصيبة لا تبدو موشكة على الانفراج. لكني لست متشائما، وأرى أنه لا يتعذر علينا ملء هذه الأوقات المتعسرة بجهود فكرية وثقافية وأخلاقية تساعدنا على تحملها وترسم لنا آفاق الخروج منها.
8- هل يمكن أن أقول أن الاستعمار من مخلفاته تصعيد وتيرة الإسلام السياسي بقدر ما صعدت وتيرة القوميات القطرية. إذ تعارف أن ورقة الأقليات العرقية والدينية كانت لعبة سياسية استخدمها الاستعمار (أو الانتداب أو الحماية البريطانية) آنذاك، وربما حتى الآن؟ ما تعليقك؟
لا أرى أن “تصعيد وتيرة الإسلام السياسي” من مخلفات الاستعمار. لعب الأميركيون بالورقة الإسلامية في زمن الحرب الباردة ضد كل من حركة القومية العربية والشيوعية، وبلغ لعبهم بها الذروة في عقد الثمانينات من القرن السابق أثناء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. لكنهم لم يخترعوا “الإسلام السياسي”. أعتقد أن هذا وليد تفاعل دين عالمي، فقد موضوعيا السيادة السياسية والمعرفية، مع العالم المعاصر الذي يعرض صيغا دنيوية وإنسانية للسيادة السياسية (الدولة الأمة) والمعرفية (العلوم التجريبية). بعبارة أخرى، صعود الإسلام السياسي كمشروع للسيطرة على الدولة ولتعريف معنى الحقيقة (فضلا عن تعريف الأخلاق الصحيحة والحقوق الصحيحة)، ممكن دوما ما دمنا لم نقم بإعادة تشكيل الإسلام في صورة غير سيادية، لكنها لا تمس مطابقته لنفسه. وأنا أؤمن أن هذا ممكن، لكنه عملية تاريخية شاقة وصراعية ومديدة، قد نسميها الإصلاح الديني الإسلامي.
وما جعل الممكن الإسلامي السياسي محققا بالصورة التي نعرف هو ظروف تاريخية متنوعة، منها التقاء مصالح الإسلاميين مع أطراف دولية أقدر على استخدامهم من العكس، ومنها أيضا ما يوفره الحرمان السياسي والحقوقي لقطاعات واسعة من الجمهور العام في بلداننا من تربة خاصة لقطاعات من النخبة محرومة من السلطة لاستخدام الإسلام في الصراع على السلطة. ولعل الفراغ الثقافي والروحي الذي نعيشه اليوم عامل ملائم أيضا للحنين إلى زمن امتلاء متخيل، يسخره إسلاميون لأغراضهم السياسية.
أتحفظ أيضا عن قولك إن القوميات القطرية من صنع الاستعمار أو من مخلفاته. هذا ينطبق على بعض قليل منها. أكثرها ليست كذلك. ثم إن السيادة الاستعمارية زالت، ولم تزل معه أي من الدول “السيدة” التي أقامها. الأمر الذي يوحي بأن التشخيص المتضمن في السؤال لا يخلو من تبسيط. الوحدة ليست شيئا نرثه من الماضي أو تجود به علينا الطبيعية؛ إنها رهان إيجابي علينا الاضطلاع به وإلا فلن يتحقق. وخلافا لما تقوله العقيدة القومية العربية التقليدية فإن الأمة عموما بناء صنعي وليست كائنا طبيعيا. وهذا أشد انطباقا على الأمة العربية منه على “الأمة المصرية” أو “المغريية” أو “اللبنانية”، لكون هذه محققة بصورة ما، ولها جذور تاريخية متفاوتة العمق.
ولا ريب أن الاستعمار لعب بورقة الأقليات العرقية والدينية دوما، إلا أن شرط إمكان ذلك هو تصلب البنية المِللية لمجتمعاتنا المشرقية أو انتظام تلك المجتمعات في صورة جماعات معرفة بأديانها وإثنياتها، ونشوء صيغ اجتماع سياسي أكثر مرونة وأغنى بالطاقة التحررية في البلدان التي استعمرتنا. وضعف اندماج مجتمعاتنا اليوم هو ما يؤهل ظروف مناسبة للتدخلات الخارجية، من قوى استعمارية سابقا أو من قوى غير استعمارية (إيران مثلا اليوم) أومن أطراف عربية حيال أطراف عربية أخرى أضعف.
أقول هذا عن “ورقة الأقليات” وعن “القوميات القطرية” لأن نوعية تشخيصاتنا تحدد نوعية ما نقترح من علاجات. فإذا أرجعنا القضيتين إلى الاستعمار كان من المرجح أن نعتبر مطالب الأقليات ذرائع استعمارية، فنجعل من قمع تلك المطالب كفاحا وطنيا وتحرريا؛ وكان مرجحا أيضا أن نرى الانقسام والتخاصم العربي الراهن نتيجة ألاعيب الاستعمار، فلا نرى ترسخ “الدول القطرية” ولا نعمل على تطويرها لتكون دولا وطنية حديثة قائمة على المواطنة والمساواة بين السكان.
9- كيف ترى مستقبل الشباب العربي، وهو في عصر مأزوم دينياً وسياسياً، يواجه مسائل معلقة في الهوية والانتماء. وأزمات متلاحقة في رداءة التنمية وانهيار الإصلاح في مجالات التعليم والصحة والحياة الاجتماعية والثقافية؟
أقدر أن المجال العربي سيبقى منطقة عواصف داخلية وخارجية لوقت غير قصير بسبب كثرة وثقل الملفات غير المعالجة وغير المحلولة على طاولتنا التاريخية، ملف الدولة وملف الدين والملف الغربي الإسرائيلي بخاصة. فضلا عن قضايا النمو السكاني والتغيرات البيئية والمناخية الخطيرة وجملة مسائل التنمية والفقر ومستويات المعيشة والتعليم إلخ. سيلزم أكثر من جيل واحد من أجل معالجة هذه القضايا وإبطال مفاعيلها النازعة للاستقرار السياسي والنفسي والمضعفة للتراكم المادي والمعنوي. وأكثر من يعاني من ذلك هم بالطبع جيل الشباب. ولعل مما يضاعف الأزمة أن توقعات طيف واسع من هذا الجيل موجهة بصورة مفرطة نحو الرفاه والحياة البهيجة تحت تأثير جاذبية النموذج الغربي الناجز، وأقل نحو العمل العام وتغيير الواقع، أو نحو الثقافة والمعرفة.
لذلك فإن العمل على تحويل نوعية أوليات الجيل العربي الشاب نحو الثقافة والسياسة والعمل العام هو مساهمة في تغيير الواقع في اتجاهات أكثر إيجابية، وأقل إحباطا، ومن شأنه في الوقت نفسه أن يمنح معنى وقيمة لحياة قطاعات واسعة من الشباب، وأن يسهم في حل مسائل الهوية والانتماء التي أشرت إليها في السؤال.
تغيير الواقع هو الحل الإيجابي لمسألة الهوية في رأيي، بالضبط لأنه يجعل الهوية مشروعا، فعلا وشيئا يصنع ويخترع، وليس شيئا موروثا نرتديه فوق ثيابنا أو تحتها.
http://www.yalhajsaleh.com/2010/11/blog-post_09.html