جلبير الأشقر: الدعاية الذكية لا تكون في إنكار المحرقة بل بإنهاء حق الصهيونية بالتذرع بها لاضطهاد الفلسطينيين
محمد فرج
لعبت الصهيونية دوراً متعاوناً مع النازية بتسهيلها هجرة اليهود الألمان إلى فلسطين
تتعالى بين الحين والآخر أصوات عربية وإسلامية تنكر وقوع المحرقة النازية لليهود خلال سنيّ الحرب العالمية الثانية وهو الأمر الذي يجد تعاطفا وقبولا لدى القطاعات الجماهيرية العربية والإسلامية، وفي الوقت ذاته يؤدي إلى إضعاف الموقف العربي عالميا حيث يصب الإنكار العربي للمذابح التي وقعت في حق اليهود في إطار مزايدة إسرائيل على العالم الغربي لإطفاء مزيد من الشرعية على ما تقوم به من اضطهاد للفلسطينيين، المفكر اللبناني الأصل جلبير الاشقر صاحب كتاب «العرب والمحرقة النازية» الصادر حديثا عن المركز القومي للترجمة،
والذي قابلناه في زيارته الاخيرة للقاهرة يقوم عبر كتابه بتحليل مسألة لعب دور «الضحية» من جانب وإنكار ما حدث من جانب آخر وكيف يمكن أن يؤدي إنكار المحرقة إلى تعميق موقع إسرائيل كضحية أمام العالم وفي الوقت نفسه يشير عبر الكتاب إلى أن الاعتراف بالوقائع التاريخية هو ما يمكن من الفضح الفعلي لجرائم إسرائيل وإيقاف دور الضحية الذي تلعبه طوال الوقت. جلبير الأشقر الذي يعمل حاليا أستاذا بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن أحد أهم الأصوات المناهضة التي تحلل الأساطير الأميركية والصهيونية التي يجري الترويج لها عبر وسائل الإعلام المملوكة لليمين الغربي والتي تتشابه مع ما يطرحه اليمين الإسلامي بطريقة أخرى في اضطهاد الآخر والعنصرية والاستغلال.
÷ دعنا نبدأ من عنوان المحاضرة التي ألقيتها في مؤتمر الترجمة الذي أقيم بالقاهرة منذ فترة «ترجمة المشاعر وترجمة التعابير» ما الذي تعنيه من وراء هذا العنوان؟؟
} العنوان قد يبدو ملتبسا بعض الشيء ولكن يجب قراءته في سياق كتابي الذي صدرت ترجمته مؤخرا بالعربية عن المركز القومي للترجمة وقام بترجمته الصديق «بشير السباعي» وعنوانه «العرب والمحرقة النازية» والعنوان الفرعي للكتاب «حرب المرويات العربية ـ الإسرائيلية» والإشارة هنا إلى البعد الدعائي في الحرب العربية الإسرائيلية، دعاية الطرفين، فكل حرب بالتأكيد لها جانب دعائي، وهذا الجانب في النزاع العربي الإسرائيلي أعظم مما في الحروب الأخرى، ليس بسبب العرب ولكن بسبب طبيعة الحركة الصهيونية وكونها بطبيعة بنيتها مرتبطة بالدعم الخارجي وبالتالي كانت من البداية تكرس جزءاً كبيراً من مجهودها للحرب الدعائية وليس فقط للحرب العسكرية على الأرض.
وبالطبع وصل العرب إلى هذه الساحة متأخرين فالدعاية العربية كانت دعاية داخلية، فاستعمال قضية فلسطين كان يتم فقط للتحريض والتعبئة الداخلية. أما الدعاية المتوجهة للرأي العام العالمي ظلت لعقود شبه احتكاراً للحركة الصهيونية، وبالتالي كان التفوق في كسب الرأي العام العالمي لصالح الحركة الصهيونية.
÷ لكن بشكل ما أو بآخر تغير هذا الوضع.. منذ متى يمكن القول ببداية هذا التغير؟؟
} بدأت الأمور في الانقلاب منذ نحو ثلاثين عاما بجملة من التحولات وكان أهمها وبدايتها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي كان له دور أساسي في تغير صورة إسرائيل من صورة الدولة الوليدة الضعيفة المحاصرة التي يهددها جيرانها إلى دولة تقوم باحتلال أضعف جيرانها وأقلهم قدرة على التصدي لها عسكريا.
÷ وماذا عن حرب 1967؟؟
} في حرب 1967 تمكنت الدعاية الصهيونية من تصويرها باعتبارها انتصار «داود» على «جوليات». انتصار الدولة الصغيرة بالذكاء والمهارة على عدو أكبر وأضخم يتكون من مصر وسوريا والأردن. وبعد 1967 أصبح نجم إسرائيل أعلى وأكبر في ساحة الرأي العام العالمي، وجاءت حرب 1973 التي قامت بمبادرة عربية للمرة الأولى بتعزيز فكرة إسرائيل كدولة مهددة حتى لو كانت تمتلك قدرة عسكرية لكنها لا تزال مهددة.
الصورة تغيرت في الثمانينيات فبعد اتفاقية كامب ديفيد التي حيدت مصر في الصراع العربي الإسرائيلي استغلت حكومة مناحم بيغن هذا التحييد في احتلال لبنان، وضرب منظمة التحرير الفلسطينية.
هنا حدث التغيير وساهم في ذلك ـ ما بعد ـ ولنا في عصر العولمة بمفهومها التقني حيث الفضائيات والإنترنت، كل هذا جعل حرب الدعاية تشتعل بشكل هائل وتضخم حجم الإمكانات الموضوعة لهذه الحرب لا سيما أنه منذ تلك الفترة تصاعدت الدعاية العربية المضادة والتي بدأت بعد حرب 1967 ثم بروز منظمة التحرير بشكلها السبعيني، وقيام عدد من المثقفين داخل منظمة التحرير بإنتاج خظاب دعائي عربي موجه للغرب والرأي العام العالمي. هذه العوامل لعبت دورا مهما في تحويل حرب الدعاية.
÷ كيف أثرت هذه الفترة على صورة إسرائيل وممارستها دور «الضحية»؟؟
} بدأت صورة إسرائيل في التدهور منذ ذلك الحين ومع اشتداد الحرب الدعائية بدأت تأخذ منحى جديداً حيث يتم التنافس على لعب دور «الضحية» أصبح كل طرف سواء الصهيوني الذي يلعب هذا الدور منذ فترة أقدم أم الطرف العربي الذي فهم أهمية هذا الدور في استعطاف الرأي العام العالمي.
إسرائيل تعطي الشرعية لما تقوم به عبر استخدام ذريعة «المحرقة النازية» وأن اليهود هم شعب مضطهد معذب شهيد. بالطبع الجانب العربي خاصة الفلسطينيين الضحايا الرئيسيين للمشروع الصهيوني فهموا ذلك وبدأوا في إنتاج خطاب مضاد يركز على أنهم ضحايا الصهيونية. وأن إسرائيل دولة اضطهادية عنصرية.
إلى جانب أن الحرب لم تكن تنافسا فقط على لعب دور الضحية ولكن أيضا الإنكار. إنكار المأساة التي يشير إليها الطرف الآخر ليعطي الشرعية لما يقوم به. فرأينا من الجانب العربي تزايد الاصوات المنكرة للمحرقة النازية، تلك الأصوات التي تمثل ردود فعل على التذرع الإسرائيلي بالمحرقة وهي ردود فعل تتميز بالغباء والسذاجة. بمعنى أن إنكار المحرقة لا يخدم بأي شكل القضية الفلسطينية والعربية بل على العكس يحدث ضرراً كبيراً، وهو أمر تستخدمه إسرائيل لتبتز به الغرب المسئول التاريخي عن المحرقة والذي يشعر بمسؤولية جماعية ما تجاه هذه المحرقة. وهو ما يلعب عليه الإسرائيليون. وبالتالي عندما تصدر أصوات عربية منكرة للمحرقة يستخدمها الإسرائيليون.
إنكاران
÷ إذا كان «الإنكار» العربي يقوم على نفي المحرقة.. فما هي صورة الإنكار الإسرائيلي؟؟
} التركيز الإسرائيلي على الإنكار العربي للمحرقة يأتي مصحوبا من جانبهم بإنكار «النكبة» وهو ما تقوم به إسرائيل منذ اللحظة الأولى للنكبة، حيث يوجد رفض إسرائيلي قطعي للاعتراف بالمسؤولية عن النكبة. مقابل نشر الأسطورة الأخرى التي تؤكد فيها المزاعم الصهيونية أن الحكام العرب دعوا الفلسطينيين الى الخروج من فلسطين.
هذا الأسطورة التي بدأ تحطيمها في أواخر الثمانينيات على يد المؤرخين الإسرائيليين الجدد أنفسهم الذين استندوا على الأرشيف الإسرائيلي وأظهروا الدور الصهيوني في طرد الفلسطينيين، وبينوا أن ما حدث كان اقتلاعاً لشعب من أرضه وليس نزوحا بدعوة عربية.
لكن يظل إنكار «النكبة» إحدى الدعائم التي تحرص عليها إسرائيل إلى حد قيام «تسيبي ليفني» وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة بالاحتجاج الرسمي على بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة لاستعماله تعبير «النكبة» وألقت خطابا أكدت فيه أن أحد شروط حصول الفلسطينيين على دولة التوقف عن استخدام تعبير «النكبة»، هذا على سبيل المثال عملية إنكار ممنهجة وقاهرة. هذه الحرب الايديولوجية تلعب على المشاعر العالمية بالتأكيد.
÷ لكن برأيك ما هو الدافع للجانب العربي لإنكار المحرقة؟؟
} الذين ينكرون المحرقة يعتقدون أنهم بهذه الطريقة يوجهون طعنة إلى الجانب الإسرائيلي ولليهود بشكل عام، وهذا ما أصفه بالغباء. فالخطاب العربي حتي في أيام عبد الناصر – أعلى ذورة للخطاب القومي – كان يميز بين اليهودية والصهيونية. والذين ينكرون المحرقة يتناسون أنها لم تكن موجهة للحركة الصهيونية، بل بالعكس لعبت الصهيونية موقفاً تعاونياً مع النازية ـ قبل المحرقة بالطبع ـ حيث ساهمت مساهمة أساسية في تنظيم هجرة اليهود الألمان إلى فلسطين.
لذا فالجانب العربي بإنكاره للمحرقة يساهم بشكل كبير في كسب إسرائيل لتعاطف اليهود في مختلف دول العالم وأيضا في كسب إسرائيل للرأي العام العالمي.
فهذا اللعب بالمشاعر ـ غير العقلاني ـ من الجانب العربي مضر بمصلحة القضية. هذا بالإضافة الى أنه لا يمكن بشكل تاريخ علمي إنكار حدوث المحرقة، يمكن مناقشة تقديرات الضحايا لكن لا يمكن إنكار وقوع الحدث من الأساس.
ونحن في الجانب العربي ليس من مصلحتنا إنكار هذه الحادثة التاريخية بل على العكس في الواقع يجب التسلح بدروس المحرقة النازية كدروس مضادة لما تقوم به دولة إسرائيل من اضطهاد للفسلطينيين والعرب. حرب الدعاية العربية الذكية لا تكون في إنكار المحرقة بل في إنكار حق إسرائيل في التذرع بالمحرقة لإعطاء الشرعية لما تقوم به من اضطهاد.
÷ إذا تحدثنا عن دور الفضائيات العربية… والمتغير الذي صنعه وجود هذه القنوات وعرضها لما يحدث من ممارسات إسرائيل؟؟
} التطور الإعلامي سيف ذو حدين، فبالتأكيد القدرة العربية اليوم على إظهار صورة ما يجري في الواقع أكبر بكثير مما مضى وهذا شيء مهم. فعلى سبييل المثال التغطية الإعلامية العربية لحرب غزة الأخيرة فضحت ما جرى بصورة مؤثرة بشكل كبير على صورة إسرائيل الخارجية. لأن العالم كله رأى كيف حولت إسرائيل مدينة غزة إلى معسكر اعتقال كبير تقوم فيه بقصف المدنيين وأيضا بأسلحة محرمة دوليا بشكل وحشي تام. هنا لعب الإعلام الدور المطلوب من أي إعلام حقيقي لكن في الوقت ذاته نلاحظ أن الوفرة الإعلامية تؤدي إلى كشف عيوبنا بشكل ما أو بآخر، حيث رأينا ظهور خطاب رجعي ظلامي عنصري ينكر المحرقة. وهذا النوع من الخطاب أصبح منتشرا بقوة في بلادنا العربية وهو الامر المرتبط بتراجع نسبي في مستوى وعينا.
الأمر الذي جعل مؤسسة صهيونية صغيرة تدعى «memory « لها موقع على الإنترنت تختص برصد الإعلام العربي والإيراني واقتطاف كل ما يظهر في المحطات العربية فيه إنكار للمحرقة. أو تنم بجهل بالتاريخ وتعرضها على الرأي العام العالمي.
يجب أن نعي أن وظيفة الإعلام هي إظهار الحقائق وليس التعتيم عليها وإنتاج خطاب جاهل، يساهم في تخلفنا ورجوعنا للوراء أكثر.
لذلك قمت بكتابة هذا الكتاب لأني رأيت مساحة خالية عربيا حول هذه قضية المحرقة في مقابل سيل إسرائيلي يصف العرب بأنهم نازيون ولا ساميين إلى آخره.
÷ لكن قد تبدو القنوات الفضائية العربية في الأخير محكومة بتوجهات رؤوس الأموال العربية.. فماذا عن الإنترنت والساحة البديلة التي يقدمها.. هل استطاعت المواقع والمدونات العربية لعب دور في صالح القضية الفلسطينية أم أنها تبقى موجهة للداخل بشكل ما أو بآخر؟؟
} بالتأكيد يمكننا القول إن الأنترنت في المحصلة الأخيرة لعب دورا في صالح القضية العربية، لقد أصبح الانترنت في الغرب أداة رئيسية لمنتقدي إسرائيل ولمناهضي الصهيونية في تنظيم دعاية مضادة لإسرائيل باللغات الغربية. حيث نعاني أصلا من عدم التكافؤ بين الدعاية المؤيدة لإسرائيل وبين الدفاع عن وجهات النظر العربية والفلسطينية في وسائل الإعلام الكبرى، يأتي الأنترنت كنافذة إعلام بديلة للمتعاطفين مع القضية الفلسطينية. بالطبع أنصار إسرائيل يستخدمون الإنترنت ولكنهم يتوجهون الى دعاية موجودة بالفعل في وسائل الإعلام الأخرى، من هذه الناحية يساهم الأنترنت في كشف الحقائق التي تقع على الأرض. وهذا بالأساس موضوع ترجمة بمعنى كيف نترجم قضيتنا إلى اللغات الغربية ليس ترجمة عاطفية بل عبر حديث عقلاني يحمل معلومات تؤكده.
(القاهرة)