قضية فلسطين

مـــا بعـــد غـــزّة …

جهاد الزين
وسط بحر الدم الذي اغرق فيه الجيش الاسرائيلي الغزاويين، لا شك في ان السؤال السياسي المباشر الرئيسي هو: هل هذه الحرب الاسرائيلية الجديدة التي تجري بوضوح تام خلال الايام الفاصلة عن موعد بدء ولاية الرئيس الاميركي المنتخب باراك اوباما في العشرين من كانون الثاني الجاري، هي حرب التمهيد لمشروع تسوية جديد في المنطقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، او بين السوريين والاسرائيليين… ام هي حرب نسف مشروع التسوية عبر الدخول بل استحداث مناخ توتير عام انطلاقا من غزة؟
اذاً: هل هي حرب تمهيد للتسوية ام حرب نسف تسوية؟
مجموعة استحالات تجعل الجواب المنطقي على هذا السؤال هو انها حرب تمهيد لتسوية.
اذا كان من المستحيل لقرار عسكري – سياسي بهذه الاهمية الاقليمية كالهجوم على غزة ان يُتّخذ في اسرائيل بدون موافقة اميركية، واذا كان من المستحيل ان يقبل الرئيس المنتهية مدته سياسيا بذلك بدون موافقة الادارة الجديدة الآتية بزعامة الرئيس المنتخب اوباما، واذا كان من المستحيل ان يدخل الرئيس اوباما في تشجيع عملية عسكرية بدون خطة “تحريك” للتسوية السياسية في المنطقة على المسار الفلسطيني – الاسرائيلي او على المسار السوري – الاسرائيلي، وهو ما ظهر واضحا انه احد عناصر تميز رؤيته للسياسة الخارجية عن سلفه، اي اعادة الاعتبار لـ”مدرسة” في التسوية اهملها الرئيس جورج بوش… فمعنى ذلك انه من المستحيل بالنتيجة ان يُتّخذ القرار الاسرائيلي – الاميركي بهذه الحرب الجديدة دون ان يكون على قاعدة البحث عن تسوية بمعزل عن مدى نجاح المشروع العسكري – السياسي الجديد في تحقيق اهداف حامليه. والهدف الواضح البديهي هو توجيه ضربة لحركة “حماس” قبل الشروع باطلاق دينامية الحلول بعد تولي الرئيس اوباما لمسؤولياته.
وللتذكير، هناك اكثر من صوت قريب من الادارة الجديدة الآتية دعا اوباما الى اطلاق مبادرة لا سابق لها في علاقة الرؤساء الاميركيين بتجارب السعي لحل فلسطيني – اسرائيلي عبر الانطلاق قبل الجميع بتحديد “عناصر التسوية” في موقف معلن من الرئيس الجديد يليه لقاء الطرفين المعنيين، خلافا للسابق، عندما كان الوسيط او الراعي الاميركي ينتظر ما يتفق عليه الطرفان المتنازعان لكي يدعمه، او في احسن الحالات كان يقدم مقترحات في الكواليس.
وبالعودة الى مسلسل الاستحالات… يمكن الاضافة ايضا انه ايا تكن عملية ضرب حركة “حماس” مغرية للاطراف العربية الناظرة اليها على انها اصبحت ابرز “اختراق” للنفوذ الايراني في المنطقة، فمن المستحيل ان يحاول الاميركيون والاسرائيليون الاستحصال على موافقة هذه الاطراف العربية بدون وعد، بل مشروع جدي او حتى ضمانات بأن يجري توظيف العملية سياسيا لبلورة حل تسووي فلسطيني – اسرائيلي في غيابه تعرف هذه الاطراف انه لا يمكن تغيير المناخ المتوتر في المنطقة.
لهذا، وبسبب مجموع هذه الاستحالات، يمكن الخروج بجواب ان الحرب الدموية، والتي تكرر فيها الآلة العسكرية الاسرائيلية تقاليدها الاجرامية فعلا ضد الكتل السكانية العربية في فلسطين ولبنان، هي “حرب تحريك” سياسية كما سُميت ذات يوم على مستوى اوسع “حرب تشرين” عام 1973، آخر حرب بين جيش الدولة العبرية وجيوش دول عربية، ليبدأ بعدها مسلسل الحروب الجديدة الطويل بين جيش الدولة الاسرائيلية من جهة، ومنظمات “حروب العصابات” غير الدولتية من جهة أخرى، بدءا من العام 1978 مع “فتح” وفصائل منظمة التحرير مرورا بحرب 1982 مع “فتح” خصوصا في حصار بيروت لبضعة اشهر، الى حرب 1993 الاولى مع “حزب الله” ثم الثانية الاخطر عام 1996 ايضا مع “حزب الله”. الى “الحرب الكبيرة الاولى” بعد تحرير جنوب لبنان عام 2006، والتي ظهر فيها “حزب الله” للمرة الاولى منظمة حرب عصابات لكن بامكانات تدريبية لفرق كوماندوس نخب الجيوش، الى الحرب الجارية الشبيهة بين الجيش الاسرائيلي و”حماس” التي يبدو انها تحاكي نموذج “حزب الله” المستجد. على الرغم من الفوارق الكبيرة لصالح البيئة الجغرافية – العسكرية المتعرجة التضاريس والواسعة، والمفتوحة على عمقين استراتيجيين: العمق الاجتماعي المناطقي اللبناني، والعمق السوري التسليحي وهي كلها ميزات لا يتمتع بها قطاع غزة شبه الخالي من التضاريس وشبه الصحراوي ناهيك بضيقه الجغرافي الذي يجعله لا يتجاوز مساحة قضاء من اقضية جنوب لبنان. لهذا يبدو وضع قطاع غزة، وتحديدا غزة، اقرب عسكريا الى وضع بيروت الغربية عام 1982 التي صمدت اربعة اشهر وهي مدة طويلة لكن كان فيها الخناق السياسي يزداد على قيادة ياسر عرفات الذي كان ينتظر انفراجا لم يحصل فاضطر الى التسليم السياسي بالانسحاب. في حين ان المدة التي تحتاج اليها “حماس” ربما تكون اقل اذا تمكنت من تحمل الضغط الوحشي الاسرائيلي على السكان المدنيين حتى ما قبل 20 كانون الثاني الجاري.
ما يحصل في غزة هو من نوع الاحداث المنعطفات التي لا يمكن  إلا ان تترك اثرا عميقا في البنية السياسية العربية، كما اظهرت التجربة منذ العام 1948. فحدث تأسيس اسرائيل، ادى الى ابعاد تدريجي للجيل الاول في السياسة العربية في سوريا ومصر والعراق وليبيا والسودان وفلسطين نفسها عندما انتقلت القيادة من جيل ليبرالي وارث للعصر الذهبي لليبرالية العربية في النصف الاول من القرن العشرين وفاشل في معالجة المسألة الوطنية الناشئة ضد اسرائيل الى جيل قومي يساري ابرزه النموذج الناصري. ثم كانت هزيمة 1967 التي فتحت المجال لبدء تدريجي لسقوط جيل، او جزء كبير من الجيل القومي اليساري خصوصا في البيئة الفلسطينية التي اتت بجيل جديد تمثل بمدرسة “فتح” وقيادتها لفصائل العمل الفلسطيني. السؤال الآن، بمعزل عن حدود نتيجة المواجهة المباشرة في غزة، هو اي انتقال جيلي يمكن ان تشهده البنية السياسية العربية، لا سيما بعدما بدت الضفة الغربية وكأنها دولة عربية اخرى داعمة وليس جزءا فلسطينيا منخرطا في المعركة.
لكن بالعودة الى مدى فرص نجاح مشروع التسوية الآتي مع باراك اوباما، فالسؤال الآن هو اي طرف فلسطيني ستتحدث معه ادارة اوباما اذا كانت السلطة الوطنية غير قادرة عمليا على تحمل مسؤولية حل وحدها، وعلى فرض استعدادها للتحمل، غير قادرة على استيعاب نتائج الحل… فمن هي الجهة القادرة على اعادة وصل “حماس” بالعملية السياسية، لا سيما انه وخلافا للترويج الشائع، فان “حماس” لم تكن هي المسؤولة في العمق بعد فوزها في الانتخابات عن رفض مسار التسوية، وانما ادارة جورج بوش والحكومة الاسرائيلية التي رفضت اي حوار معها… حاولت، وحاول الرئيس محمود عباس، مده باشكال تدريجية.
تاريخ محاولات التسوية ليس فقط تاريخ تناقض المواقف الفلسطينية – الاسرائيلية بل هو أيضاً – وجوهريا – تاريخ النسف الاسرائيلي لمشاريع التسوية الأميركية نفسها!
يجب ألا ننسى ذلك كي لا يكون باراك أوباما لاحقا رئيساً آخر في سلسلة طويلة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى