المعارضة السوريّة بين الأخلاق والنفعيّة
ورد كاسوحة*
إنّ موضوع حراك المعارضة شائك ولا شك. لكنّه في الوقت نفسه مغرٍ لمن لم يعتد مقاربة الوضع في سوريا إلا على شكل مقارعة بين تنميطين.
تنميط أول مفرط في سلطويته ونهجه التعقيمي لكلّ نقاش خارج عن «الإجماع» الفوقي السائد.
وتنميط ثانٍ يبدو كأنّه نقيض للأول (وهو كذلك فعلاً في حدود تقسيم العمل السلطوي بين الموالاة والمعارضة) لكنّه ينطوي في الحقيقة على مكوّن سلطوي جنيني لم تتح له ظروف القمع المنهجي أن ينمو ويسود. طبعاً من المستحيل اليوم تخيّل تسلّط مماثل في المستقبل المنظور لطرف ضعيف إلى هذا الحدّ ومحال على الهامش، وهو ما يجعل من افتراض وجود نزوع سلطوي لدى هذا الطرف أمراً خارج السياق.
السياق هنا أخلاقي أكثر منه براغماتي واقعي، غير أنّ نقاشنا فيه من هذا وذاك. فالأخلاق بدون سياق منطقي يوظفها جيداً تغدو يوتوبيا عمياء، وكذلك الأمر مع المنطق البراغماتي غير الخاضع لحيثية أخلاقية، إذ يصبح من دون هذه الأخيرة كتلة خبث صماء.
على هذه الأرضية الملتبسة يمكن فهم الحراك الحاصل في سوريا اليوم. فمن جهة هنالك سلطة تقبض على كلّ شيء ولا تترك لمعارضيها إلا مساحة محدودة لا تكاد ترقى إلى مستوى الهامش. ومن جهة أخرى، لدينا معارضة لا تملك شيئاً يذكر بفعل «السطو» المنهجي على أفعالها، لكنّها مصرّة على استعادة فاعليتها وتثبيت وجودها حتى لو لم يكن لهذا الوجود أساس مادي. فهو وجود رمزي في النهاية. وتؤكد رمزيته كلّ النبل الذي تنطوي عليه فكرة التنميط التي تهواها السلطة ولا تجد المعارضة سبيلاً لتفكيكها. لا بل تذهب المعارضة أحياناً إلى حد استبطانها على قاعدة أنّه لا «بديل» غير هذا، وأنّه لا بأس بقليل من اللعب على طريقتهم، حتى لو أكل هذا النسق من اللعب من رصيدنا قليلاً.
نعود إلى فكرة الأخلاق التي يفترض بفريق مضطهد ومقموع أن ينهض بها. وهذه بدورها فكرة شائعة انتقلت إلينا بالتواتر ولم تخضع في يوم من الأيام لتمحيص نقدي رصين. ولو حصل هذا التمحيص سابقاً لكفّت أحزاب كثيرة من المعارضة في المنطقة عن أن تكون كذلك.
فهذه الأحزاب، مثلها مثل أحزاب السلطة، عرضة لشتى أنواع الأعطاب. أعطاب تبدأ بالتسلّط والحكم الفردي، ولا تنتهي بالاعتباطية والتشويش والخلط بين الأولويات. لكن ما يظهر منها إلى العلن لا يوحي كثيراً بأنّ هنالك شرخاً في هذا البيت. والسبب في ذلك أنّ التناقض بين هذه الأحزاب وأجندة النظام يراد له أن يكون رئيسياً، وأن يطمس كلّ التناقضات التي تعتمل داخلها. هنا يطيب لأحزاب المعارضة أن تستحضر نظرية التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي. فمعركة التضامن في مواجهة عسف السلطة تقتضي ذلك.
أما حين تستحضر أحزاب معارضة أخرى (في دول عربية أخرى) هذه النظرية لإسناد معركتها ضد أنظمة لا تقل استبداداً عن النظام في دمشق فلا تعود تلك النظرية صالحة للاستخدام. هذا يعني أنّنا أمام نموذج كلاسيكي للانتهازية السياسية. انتهازية لا تلائم كثيراً التصوّر الذي تعمّمه أجنحة ليبرالية معارضة عن نفسها، كما أنّها تعجز عن أن تكون متلقفاً عقلانياً للبراغماتية السياسية، إذ نادراً ما يلجأ النهج البراغماتي إلى الفصل التعسّفي بينه وبين الأخلاق. وحين يفعل ذلك يحكم على نفسه تلقائياً بالخروج من منطق السياسة. فحتى تكون كائناً سياسياً لا يجب أن تكون القطيعة بينك وبين الأخلاق نهائية وحاسمة، بل مؤقتة وعلى مراحل. هكذا تكون البراغماتية السياسية، وهكذا يفعل السياسي البراغماتي حين يعتني بصورته و«ينأى بها» عن الفعل الانتهازي الفجّ.
ويبدو أنّ «ليبراليينا» في سوريا ولبنان لم يفهموا ذلك تماماً. وهذا ما يفسّر ضيق صدرهم بالنقد حين يصوّب على عجزهم عن استيعاب الفارق بين البراغماتية والانتهازية وحين يظهر أنّ المثال الأخلاقي الذي يتبجّحون به ليس أخلاقياً تماماً.
أحزاب المعارضة مثل أحزاب السلطة، عرضة للتسلّط والحكم الفردي والاعتباطية والتشويش والخلط بين الأولويات
ففي عرفهم لا وجود لنظرية الراحل جوزف سماحة القائلة بتوزيع المسؤوليات بالتساوي بين الأطراف السياسية المتصارعة. فالنقد حين يطال المعارضة الليبرالية لا يعود نقداً، بل يغدو إسناداً لخطاب السلطة وتسويغاً لما ترتكبه من أفعال! إذا لم يكن هذا الحرم على النقد ذا منشأ ستاليني فماذا يكون منشأه إذاً؟ والاستسلام لمنطق كهذا يعني أن يسلّم المرء بكلّ ما يراه خروجاً عن المألوف في مقاربة السياسة.
وكي نكون واضحين أكثر، دعونا نجري تمريناً على هذا النّسق من الاستسلام. نسق يبدأ وينتهي بالصمت. إذاً، فلنصمت. فلنصمت عن التحالف بين يمين لبناني رجعي ويسار سوري متلبرل يرطن بشعارات «تقدمية». فلنصمت عن السكوت عن أوضاع حقوق الإنسان والمرأة والأقليات في أنظمة سلالية قروسطية لم تخرج بعد من الماضي. فلنصمت عن استبطان خطابات خشبية عن «الشرعية الدولية» كانت حتى الأمس القريب بالنسبة إلى هؤلاء من عدّة النظام العالمي الجديد (هل تذكرون هذا الاشتقاق السياسي الذي أطلقه يساريون سابقون على نظام الأحادية القطبية؟). فلنصمت عن وضع إسرائيل وإيران على قدم المساوة في ما خصّ العداء للعرب. فلنصمت عن تبنّي المعارضة الليبرالية السورية (لا تنسوا أنّها يسارية أيضاً!) بدون تحفظ لأجندة النظام النيوليبرالية في ما خصّ مستقبل الاقتصاد في البلد. فلنصمت عن تلطّي الليبراليين السوريين وراء السلطة كلّما طرح شأن اجتماعي سجالي على بساط البحث (موضوع النقاب مثلاً). فلنصمت عن وعن وعن… إلخ.
هذه التناقضات تفصح عن أزمة بنيوية حقيقية في خطاب المعارضة الليبرالية، السورية وغير السورية. ولا يكفي في هذا السياق أن نقول إنّنا ضحايا عسف سلطوي حتى يكفّ الآخرون عن التصويب علينا. فمن حقّ أيّ كان أن ينتقد ظواهر سياسية لا يرى أنّها تتّسق وفهمه لمزاولة السياسة. فهذا الفهم هو في النهاية وجهة نظر، وإذا كفّ عن كونه كذلك لا يعود فهماً حرّاً، بل يغدو صنواً حقيقياً للقسر والاحتكار الفئوي. وهذا ما لا نريده لكثير من المناضلين الذي قضوا أعمارهم في السجون لمجرد أنّهم عبّروا عن وجهة نظر مغايرة. وجهة نظر يراد لها اليوم أن تغدو أداة دعائية في أيدي أحزاب وأطياف وشخصيات قاومت التسلّط طويلاً، لكنّها لم تستثمر هذه المقاومة على النحو الأمثل. وبدل أن تستفيد من موقعها «السابق» كضحية للقمع، مضت في تصنيم هذا الموقع وتجريده من بعده الرمزي الوحيد: البعد الأخلاقي.
* كاتب سوري
الأخبار