الروائية السورية لينا هويان الحسن: تعلمت من قومي الصـبـر والـعـــراء ومـتــعــة أن أقــف وحــيــــدة
تمضي الروائية السورية لينا هويان الحسن في بناء رواياتها كأنها في صحراء مدربة، لا هواء يمر إلا ويدفع ضريبة المرور، ولا الطير أو الحيوان من دون المرور بسلطة الراوي ونظام البداة المترامين على طول بصر العابرين سهواً أو تقصدا، عوالم هذه الروائية الاستثنائية ملغزة حتى في بساطتها ومبهرة في غموضها، كل شيء فيها مهندس بشكل خلاق وبصورة لوحات متخيلة لحياة البدو في الستينات من هذا العصر، أجواء تصل أحيانا إلى حد الأسطورة لما فيها من متخيلات تجري واقعيا، وبذخ في الوصف الروائي يصل كثيراً من الأحيان إلى حالات شعرية طازجة لا فكاك منها. تسرد هذه الروائية حيواتها بطريقة متوحشة كأنها في عداوة مستمرة مع شخصياتها أو كأنها في حقل ألغام بالتعامل معها. تجدها أحياناً خائفة وحذرة، وأحياناً أخرى جريئة وثائرة، وتلك هي إستراتجيتها في ضم الجميع واستيعابهم ضمن لعبة روائية، كل العناصر المشاركة فيها هي أبطال، بدءا من الحيوان والطير والرمل والهواء والبداة المتنقلين العطشى وانتهاءً بأنوثة الصحراء وجميلاتها الموزعات على طول “سلطانات الرمل”.
لينا هويان الحسن أصدرت أكثر من ثلاث روايات كانت آخرها “سلطانات الرمل” 2009 التي لا تزال تطبع بطبعتها الثالثة، وهي التي أخذت اغلب الأسئلة في هذا الحوار، لما فيها من مجازفات واكتشافات وأسرار لا تتوقف عند إجابات عابرة، ولا تستكين عن صناعة الدهشة والمتعة المثيرتين:
• أحداث ووقائع ومصائر شخصيات وقساوة الطفولة أثرّت في معظم تناولاتك الروائية، طفولة مفتوحة على عراء كامل من رمال صنعت منها ألعاباً وأراجيح من وبر الصخور المتوحشة، طفولة غريبة بعض الشيء وغنية وشاسعة حيث شساعة البادية والفوضى الكتومة والحرية المكبوتة على الأقل للمرأة المقيدة بسلاسل التقاليد البدوية الصارمة والصارخة وحكمة الشيوخ المتقلبّة الهائجة، ذلك كله مع بزوغ أضواء المدينة التي تلوح من بعيد، حضارة تفترس الأخضر والبياض معا، هذه معظم معالم تجربتكِ الروائية التي تبدو كأنها مكتوبة بنفس واحدة ومكان واحد وزمن يمتد من نهاية العشرينات من القرن الفائت، شخصيات واحدة وبألوان وبأسماء متعددة ومتكررة، هل يمكن أن نقول عنك إنك كاتبة بدوية بامتياز؟
– الجميع أصبح يقول عني ذلك: “كاتبة بدوية أو أديبة البدو أو الصحراء”. هذا أمر طبيعي لأنني كتبت أربعة من أعمالي الأدبية عن البدو، أضف إلى ذلك أن أحداً قبلي في سوريا لم يكتب عن هذا العالم، سواء أكان أديبا أم أديبة، لهذا ارتسمت صورتي – الكاتبة البدوية – في أذهان الناس، وهذا يعجبني، لكن أخشى أن ينحصر تصور القارئ عني في حيز البداوة، وهذه مسؤوليتي في الأيام المقبلة عندما أقدم أعمالا عن بشر ليسوا من البدو..
• ثمة استمرارية في حياتك البدوية تتم عبر الكتابة، وثمة حياة أخرى هي حياة المدينة والأضواء تظهر رويدا رويدا عبر قصص الحب والجامعة والصحافة، وهي على كل حال حياة مسبقة الصنع. هل غيرّت حياة المدينة شيئا من طعم حياة البداوة لديك؟
– المدينة بارعة بتغييرنا من الخارج وبتعديلنا من الداخل. لا بد من بعض الرتوشات الضرورية لتأقلمنا مع العالم المديني الجميل والمتنوع والصعب. استثمرت كل ما تعلمته في البادية وطوّرته مثل ملكاتي التنبوئية أو قدرتي على الصبر. أنا أفهم “الصبر” بطريقة مختلفة عن كل من حولي. في وقت مبكر من عمري تعلمت فضائل “الصبر”، وأن نتعود الانتظار ونعيش متعة أن لا تمنحنا الحياة كل ما نتمناه دفعة واحدة. أيضا تعلمت من أقاربي البدو فضيلة “العراء”، ومتعة أن تقف وحدك مثل بيت الشعر الذي، على رغم بساطة أدواته ومكوناته، قادراً على التأقلم مع غالبية الظروف الجوية. كذلك اعتدت التغيير، تماماً كبيت البدوي الذي يغيّر أماكنه كلما خلت من الخصب ويرتحل باحثاً عن مجهول قادم يمنحه ما يريد. لطالما أعجبني طقس الرحيل الذي يمارسه البدوي. بشجاعة يطوي بيته ويرحل من دون أن يعيش أرق الارتباط بالأمكنة ومن دون أن يضيع وقته في الحنين. أخذت من البداوة طرازا غريبا ونادرا من البراغماتية.
• في روايتك الأخيرة “سلطانات الرمل”، ثمة قساوة على اللغة ومعجميتها، سرد يقترب أحيانا من الشعر، وأحياناً يبتعد عنه في عملية تبادل الأدوار بين اللغة الروائية الجزلة والسرد الروائي الحكائي. كأنك بهذا أهملت القارئ العادي (البدوي) وتوجهت إلى القارئ الناقد المتفحص (المديني). هل رغبة في كسب رضا الإعلام أم رغبة في إظهار حياة البداوة بأي شكل لجميع القراء؟
– إذا لم يشتغل الكاتب على اللغة فإنه سيخسر القارئ، لهذا تميزت لغتي بالشعرية العالية والبحتة في كثير من صفحات الرواية. باختصار أريد قارئاً من كل الجهات. أريد العادي وأريد النخبوي، ولا أظن أن هذا صعب عندما نريده ونبذل جهدنا لكتابة نص يحترم ذائقة القارئ. الآن، بوجود الدراما والسينما أصبح الكثير من الروائيين يكتبون رواياتهم بشكل بسيط تبدو معه كأنها مخطوط سيناريو وحسب. من دون لغة معتنى بها، لا تأخذ الرواية شرعيتها كنص جدير بالقراءة.
• سيطرت في “سلطانات الرمل” الأجواء الشعرية الغارقة في الخيال والجرأة الفائضة في نقر الثالوث المقدس (الجنس والدين والسياسة)، وبهذا كنت تفكرين بقارئ ثالث مؤثر، واعتقد انك بذلك خسرت شيئاً من قدسية المكان وطيبة الإنسان البدوي الذي كنته…
– من قال إن البدوي إنسان طيب؟! لو كان كذلك، لفقد كل جاذبيته وكاريزما عالمه الذي يعشقه كل الناس مهما كانت فئاتهم الاجتماعية، وهذا أمر اكتشفته بنفسي، ومن خلال الطبعات المتكررة لرواياتي التي كتبتها عن البدو. عالم البدو مليء بالتناقض الجميل، حيث الشر مخلوط بالطيبة. البدو يمارسون شرا مدروسا لأجل البقاء، وإلا كيف تفسر بقاء قبائل إلى يومنا هذا تحمل الأسماء نفسها منذ زمن العرب البائدة. ؟ أنا مثلا من قبيلة الجُميلة التغلبية، ولا بد أن هذا من شأنه أن يحيل السامع على كليب وشقيقه الزير سالم وجساس. صدِّقني، عندما كتبت “سلطانات الرمل”، فعلت ذلك بكامل بدويتي الموروثة جينياً ببعض الطيبة وكامل الإصرار على “الإفشاء”. أفشيت أسراراً لا يزال البدو يرون أنها يجب أن تظل طي الكتمان، لكني فقط استثمرت بعض شرّهم ومكرهم وكل شجاعتهم لأكتب. ويمكنك أن ترى بنفسك ما فعلته “سلطانات الرمل” من خلال منتديات القبائل الكثيرة، وكيف استهجنوا من يدوِّن تاريخهم من دون إذن منهم. لقد قابلوني بالشر نفسه.
• في الكتابة الروائية الحديثة لا يمكن الروائي أن يكون كاتبا متفرجا أو مراقبا أو حياديا، فهو جزء من المكان والزمان ومصير الشخصيات وروايتك الأخيرة ضجت بأحداث مصيرية متشابكة وتقلبات مدهشة على حساب الشخصية، ولاحظنا انك في اغلب الأحيان كنت تتفرجين على نهاية تلك الشخصيات ببرودة أعصاب من دون أن تحاولي إنقاذها أو التخلص منها، وأحيانا كنت على مرمى واحدة من معارك تجري بين ثلة من الناس في قبيلة من القبائل بقصد الثأر والانتقام والسرقة من دون أن تحركي ساكناً، أكل ذلك في سبيل إعطاء الفضاء الروائي صدقيته وجاذبيته أم انه لا يمكن خلخلة التقنية الجمالية الروائية الخاصة بالمشروع الروائي فقط لإرضاء القارئ أو الناقد؟
– هنا لا بد من الاعتراف بأني فعلت ذلك تلقائيا وعفويا لأنني أحمل منطقهم القاسي والصعب، وسيمر وقت طويل قبل أن يغفروا لي ما فعلته معهم. البدو يخافون من التدوين. إنها الوراثة، وأنا تشدني الحروب، لأنها تبرر الخدعة والخيانة والوفاء والموت والدم، وأنا مغرمة بذلك كله. وأخيرا نقلوا حروبهم، كرّهم وفرّهم، إلى الشبكة العنكبوتية. فلتطمئن إذا شركة “مايكروسوفت” وبيل غيتس والـ”ياهو” والـ”هوتميل” والـ”جيميل” والـ”فايسبوك” والـ”غوغل”. جميعهم سيتمتعون بمشاهدة عصبية مكرسة وشوفينية لن يشفى البدو منها بسهولة، ومثال ذلك ما أثارته احدى شخصيات روايتي “سلطانات الرمل”، شخصية حمرا الموت، ابنة شيخ قبيلة طي، التي استلهمتها من قصة حقيقية وقعت قبل أكثر من مئة عام وكان أن نصب أحد أفراد قبيلة طي نفسه مؤولا للثارات كما يسمّي نفسه من خلال تهديداته لي عبر الـ”إيميل” والـ”فايسبوك”.
• عشت قسوة الحياة البدوية ورأيت تجارب شخصية مع ذلك العالم المترامي الأحداث والكوارث، وذقت في ما بعد رخاوة الحياة المدنية وسهولة الانتماء إلى المكان والتكيف السريع مع أدوات الحضارة والتكنولوجيا ومعاصرتها بشخصية أخرى مثقفة وواعية (ماجستير فلسفة). ما الذي أعادكِ إلى الحياة البدوية، وأي خيال رماهكِ إلى مشاهدة القتل المجاني من اجل الثأر والجوع والعادات التي يلعب على أوتارها شيوخ القبائل لممارسة كبتهم وطيشهم وغطرستهم؟
– لماذا تستخدم مفردة “عودة”، فأنا لم أخرج من هناك لأعود إلا شكليا وموقتا، وكل كتاباتي ليست إلا تمارين لأشفى منهم ومن ذاكرة أورثوني إياها من دون تردد. خيالي يصبح فسيحا وفظيع الاتساع عندما أرتحل إليهم في مخيلتي، إلى حكاياهم الكثيرة. كل من قرأ “سلطانات الرمل” أكد أنه في الإمكان استثمار حكاياها لأكثر من رواية. لديَّ الكثير والمزيد من قصص لا يصدّق أحد وقوعها، ولهذا اتكأت على الوثيقة كمقدمة لبعض الفصول كأنني أريد أن أشرك القارئ بواقعية تلك القصص السحرية.
• لك تجارب في كتابة الشعر، وربما تخرج من كونها تجارب فهي في نظر الكثيرين نصوص شعرية عالية وقد تحتاج إلى فرصة أخرى كي تظهر وتعلن وجودها. هل هناك مشاريع شعرية تختمر، وهل كانت لهذه التجربة تأثير في مجمل كتاباتك الروائية؟
– لا أتوقع ذلك فأنا مخلصة لفن الرواية. في الشعر أحس أني مقيدة بعض الشيء بينما في الرواية أكون أكثر حرية وارتياحا، وعلى رغم ذلك أكيد سأطل بين وقت وآخر بنص شعري ما، يكتبني قبل أن أكتبه، وأقتنصه بلحظة خاطفة وأسمّره على الورقة.
إبراهيم حسو
النهار