“ويكيليكس” ما بعد الصدمة : لا جديد في العمق
بقلم جهاد الزين
بدأت عاصفة “ويكيليكس” الحالية تهدأ… في الصحافة الغربية الكبرى نفسها. لا نعرف ماذا تخبئ ادارة هذا الموقع الالكتروني للمستقبل من كشف وثائق جديدة، لكن مع موجة الـ 225 ألف برقية الأخيرة، نصحو مع بعض افتتاحيات الصحف الكبرى، وخصوصا الاميركية، كـ”النيويورك تايمز” و”الكريستشان سيانس مونيتور” لنلاحظ انها بدأت تتحدث عن كون هذه الوثائق الهائلة العدد، وهي برقيات ديبلوماسيين اميركيين لوزارة خارجيتهم في عهدي الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك اوباما، لا تحمل معلومات زلزالية عن السياسة الخارجية الاميركية.
وبما ان اي متابع لا يمكنه ان يقرأ وحده، ولا حتى اي فريق عمل في وقت محدود، كل هذه البرقيات، فإن الانطباعات تنحصر في المعلومات التي نقلها الذين قرأوا او لخّصوا اهم ما ورد فيها.
على ضوء ذلك… وفي حدود ما قرأنا من ملخصات، وبعض قلة قليلة من برقيات رسائل… نصحو بدورنا مع الصاحين لننتبه الى ان ما قرأناه، وسمعناه، معظمه على الاقل، اذا كانت وسائل الاعلام الغربية قد نقلت كل ما هو حسّاس من اخبار واردة في الوثائق، لا يحمل اي “انقلاب” في معرفتنا او توقعاتنا عن السياسات الاميركية او غيرها من السياسات في المواضيع الحساسة التي كتب عنها الديبلوماسيون الاميركيون.
لتأكيد وجهة النظر هذه – اي انه لا مفاجآت صاعقة تقلب كل المعرفة المتداولة بالقضايا الاساسية – سنقف عند بعض ابرز “الخبريات”:
1 – المعلومة المتعلقة بما ورد عن العاهل السعودي الملك عبدالله حول تشجيعه الولايات المتحدة على ضرب ايران.
دعك من شخصنة الموضوع هنا حتى حين يتعلق بالمستوى الرفيع للشخصية المنقول عنها وهي الملك السعودي. فأي جديد عميق في السياسة تضيفه عملياً هذه “المعلومة” اذا كانت السياسة السعودية بعد العام 2003 عام التغيير في العراق وخصوصاً بعد العام 2005 تعلن بوضوح مواجهتها السياسية مع السياسة الايرانية في المنطقة، العالم العربي والخليج. وهل اخفت السياسة السعودية اولوية هذه المواجهة مع ما تعتبره التوسّع الايراني في العديد من دوائر المنطقة، وهو الذي ترافق معه تصاعد الحساسية السنية – الشيعية وتماهيها للمرة الاولى بشكل خطير مع الجغرافيات السياسية للعديد من دول المنطقة ولا سيما في العراق وبالتالي لبنان والخليج حتى اليمن؟
اذن لا جديد – في العمق – اذا كانت المعلومة بمعزل عن نسبة احراجها – وهي محرجة – لا تتناقض مع التحالف الاميركي – السعودي العلني في وجه تصاعد النفوذ الايراني في المنطقة. لقد حفلت بعض مراكز الابحاث الاميركية بدراسات عامي 2006 و2007، وبعضها ذو مصدر سعودي، عن قدرة المملكة على رفع انتاجها النفطي لسد اي محاولة ايرانية لخلق عجز في الانتاج النفطي في حال حصول توتر، وصراع كبير اميركي – ايراني.
2 – المعلومة المتعلقة بالرئيس اليمني علي عبدالله صالح من انه قال انه سيواصل تبني العمليات العسكرية الاميركية ضد “القاعدة” في اليمن على انها عمليات للجيش اليمني نفسه.
حسناً… بمعزل عن الحرج الشكلي للطرفين من حيث كشف التغطية اليمنية للعمليات العسكرية الاميركية، اين هو الجديد في العمق؟ هل اخفى القادة اليمنيون وعلى رأسهم الرئيس صالح درجة تحالفهم مع الاميركيين على المستوى السياسي في المواجهة مع “القاعدة”، وفي التوجهات العامة الاساسية في المنطقة؟ ابداً. فالسياسة اليمنية الرسمية هي جزء من التحالف الغربي الذي تقوده واشنطن وليس لدى القادة اليمنيين في ما نرى ونقرأ اي تحفظ في اعتبار “القاعدة” عدواً مشتركاً لهم ولواشنطن.
اذن… ايضاً بمعزل عن الحرج الشخصي، الشخصنة هنا لا تضيف الى “عمق” ما نعرف سياسياً.
3 – الرأي المتعلق برئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان حول “كراهيته لاسرائيل”. عدا الحرج الشخصي للطرفين الاميركي والتركي، وخصوصاً ما يتيحه هذا “التقدير” من امكان تعزيز الحملة الاسرائيلية على رجب طيب اردوغان وامكان ملامسة التهمة لتهمة اخطر هي “العداء للسامية” مع ان التاريخ التركي ليست لديه اي عقدة من هذا النوع حيال اليهود بعد استقبال العثمانيين الرحب لهم عندما هربوا من الاندلس بعد سقوطها… عدا هذا الحرج اين هو الجديد سياسياً في اطلاق تقديرات اميركية من هذا النوع في زمن توتر جدي في العلاقات الاسرائيلية – التركية؟ لا جديد مع التكرار عن أن ما نشر هو “رأي” يحرج الديبلوماسي الاميركي وليس “معلومة” يمكن تثبيتها.
لقد اتيح لي ان اقرأ انتقائياً عدداً قليلاً جداً طبعاً من هذه الوثائق، وإحداها برقية طويلة ارسلها السفير الاميركي من انقره حول السياسة التركية واقترح قراءتها عليّ الزميل عبد الستار اللاز.
فالتحليل الذي يقوم به السفير الاميركي حول التوجهات التركية شامل. ويمكنك ان توافقه على بعض الآراء الواردة، خصوصاً حين يتحدث عن حدود للقدرات التركية رغم التقدم المهم والنوعي في وزنها الديبلوماسي والاقتصادي. او حين يتكلم بواقعية على عدم امكان واشنطن المراهنة على تركيا وحدها لاحتواء طموحات ايران الاقليمية. لكنه في المقابل يسجل في تحليله بدقة عناصر التقدم السياسي والاقتصادي التركي في الشرق الاوسط كما يشدد ايضاً بصياغات مسؤولة على الموقع المحسوم للسياسة التركية ضمن التحالف الغربي وفي العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة الاميركية.
(ينقل السفير الاميركي عن وزير الخارجية احمد داوود اوغلو ان الاخير قال في محاضرة له في سراييفو في البلقان ان السياسة التركية تخطت الانظمة العربية في بناء علاقة مع “الشارع العربي”).
4 – حول ما نُشر عن استخدام الاستخبارات الايرانية لطائرات الهلال الاحمر الايراني لنقل صواريخ الى “حزب الله”… اين هو غير المتوقع هنا؟ لا بل استطيع القول عدا عن انني لم افاجأ بذلك أكان صحيحاً ام لا… فإن انطباعي هو انه لو كان صحيحاً لكان الامر مدعاة لاكتشاف فقر أو ضيق في مخيلة الاستخبارات الايرانية عندما تستخدم وسيلة “مكشوفة” عملياً او محتملة كطائرات الهلال الاحمر الايراني في نقل الصواريخ في فترة الحرب!
• • •
في الواقع يكشف بعض البرقيات عن كفاءة الجهاز الديبلوماسي الاميركي في فهم وتحليل البيئات السياسية التي يعمل فيها. فالظاهر حسب التقارير المنقولة ان ما سيبقى من انطباعات بعد “صدمة” نشر البرقيات امران:
الاول هو تحوّل هذه الوثائق الى شهادة على مدى حيوية وكفاءة الديبلوماسيين الاميركيين حول العالم.
الثاني بعض الحرج الشخصي – السياسي للادارة الاميركية، ليس اكيداً انها ستصل الى حدود خطرة على التحالفات الاميركية، بل المرجح الآن، انها لن تصل الى هذه الحدود.
احد ابرز التعليقات على هذه البرقيات ما قاله عنها رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمحلل الاستراتيجي المعروف ريتشارد هاس. انقل جملته هنا حرفياً عن “النيويورك تايمز”: “انها اي الوثائق – تؤكد اكثر مما تُخبر” “Confirms more than it informs”.
من سرّب اذن هذه الوثائق؟ واذا كانت هذه الموجة “الويكيليكسية” لم تخرج – في العمق – عن المتوقّع الجوهري، فماذا ستحمل الموجة الثالثة التي تهدد بها هذه “المنظمة” الالكترونية؟
النهار