صفحات سورية

كردستان: تناقضات العروبة

null
حسام عيتاني
لا تثير المأساة الكردية التعاطف في الشارع العربي. مئات الآلاف من القتلى الأكراد الذين سقطوا في الحروب التي شنتها حكومات العراق منذ تشكله دولة مركزية وبلغت ذروتها في حملة الأنفال أواخر الثمانينيات، لا يعنون الشيء الكثير في الوعي العربي.
لا يجد العرب، أنظمة وشعوباً، كبير عناء في تبرير الفظائع التي أنزلتها سلطات بغداد بالكرد. الرأي العربي السائد هو أن القيادات الكردية تورطت في مشاريع أميركية وإيرانية (في عهود الشاه وخلفائه) وفي علاقات مع اسرائيل، ما جلب على القيادات وشعبها نقمة مفهومة بل ضرورية من حكام العراق لدرء الأخطار عن «البوابة الشرقية للعالم العربي» و«درع العرب». لا تقيم وجهة النظر هذه اعتبارا لجملة من الحقائق التاريخية التي تبدأ من أن الأكراد ليسوا، في المقام الأول، عربا «انعجمت ألسنتهم» ولا هم أتراك سكنوا الجبال، بحسب المقولة التركية الموازية في التهافت لنظيرتها «الانتروبولوجية» العربية. ولا تبدي أي اهتمام بمحاولات عديدة قام بها الأكراد لتأكيد حقهم البسيط في الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم وتاريخهم، على الرغم من إنكار الدول التي يشكلون أجزاء مهمة من سكانها.
تتطلب الدقة القول إن الإنكار العربي والعراقي منه على وجه التخصيص، لحقوق الأكراد كافة، من الحق في تقرير المصير الى التعبير الثقافي، مرّ في العديد من الأطوار تراوحت بين مد تمثل في اتفاقية الحكم الذاتي بين بغداد والملا مصطفى البرزاني في عام ,1970 وجزر اتخذ شكلا كارثيا مع الاتفاقية الايرانية ـ العراقية بعد خمسة أعوام من ذلك التاريخ، ووصل الى أقصاه في حملة الأنفال وعمليات قمع انتفاضة آذار من عام .1991
وفيما وقف العرب عموما الى جانب صدام حسين في كل مراحل حروبه وصراعاته مع الأكراد الذين تباينت مواقفهم بدورها من بغداد، وخاضوا في ما بينهم حروبا أهلية مدمرة كان آخرها تلك التي انتهت في عام 1997 برعاية أميركية مباشرة، امتنع التأييد العربي عن القضية الكردية لأسباب منها ما يتعلق بالعلاقات مع صدام ومنها ما يعود الى المخاوف من تحرك الأقلية الكردية في بلاده.
أما أهم هذه الأسباب قاطبة، فيكمن في مركب عنصري ـ نفسي يأبى المصابون به النظر الى حق الآخر في الوجود، ناهيك عن شرعية الاختلاف وضرورته. لقد حظي صدام حسين بدعم عربي هائل أثناء الحرب على ايران بين عامي 1980 و,1988 وهي الفترة التي كان قمعه الداخلي الموجه الى كل مكونات الشعب العراقي، مع تفاوت تمليه الاعتبارات الطائفية ـ العشائرية، يصل الى الذروة، وسط لامبالاة عربية بليغة.
لقد وقف العرب الى جانب حرب صدام على شعبه، علناً وضمناً، بما فاق وقوفهم الى جانبه في الحرب على ايران. وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من الصمت العربي حيال مجازر بعث صدام بحق مواطنيه وفي مقدمتهم الاكراد، فقوامه أن الذات العربية لا تعترف إلا بمعاناتها هي.
لنأخذ مثالا رأس المال الذي استثمره صدام حسين في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. حصر إرث رأس المال المذكور يمكن ألا يتجاوز الأسطر المعدودة، من إنشاء سلفه جبهة فلسطينية وإطلاقه هو عددا من الصواريخ على إسرائيل ودفعه مبالغ قليلة من الأموال لشهداء الانتفاضة الفلسطينية، الى جانب خطابات رنانة واشتراط انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة مقابل انسحابه من الكويت في عام ,1990 ورعاية متواضعة للفلسطينيين المقيمين في العراق، انقلبت وبالا عليهم بعد سقوط نظام صدام. هزال رأس المال المذكور كان كافيا في العين العربية لتطويب صدام بطلا قوميا ما زالت صوره ترفع في لبنان وفلسطين وبعض أنحاء العراق، كلما دعا الداعي القومي أو المذهبي (على غرار ما جرى في لبنان مؤخرا).
يقابل الاستقبال الحار «لبطولة» صدام حسين في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تجاهل شبه كامل لجرائمه الداخلية والخارجية. ولعل ما ارتكبه صدام ضد الأكراد يمثل التناقض الأبرز في الأسلوب الذي يرى فيه وعي عربي أحادي الجانب، الى ذاته وقضيته. وفيما يتواطأ المواطن والحاكم العربيان مع صدام حسين على ذبح الأكراد والمعارضين العرب، فإنهما يطالبان العالم بألا يغض الطرف عما يتعرض له العرب ليس في فلسطين وحدها بل في كل زاوية يتعرض فيها عربي الى معاملة عنصرية.
إن وجاهة المطالبة بالحقوق العربية، لا ينبغي أن تنفي شرعية المطالبة بحقوق الآخرين التي يهضمها العرب. وعلى الرغم من أن المسألة الكردية في العراق حققت تقدما ملموسا، إلا أن الوعي العربي ما زال هو هو في أسلوب تعامله مع أقليات أخرى في دول عربية ما زالت تسوم الأقليات فيها سوء العذاب. ولا تفتأ نظرية المؤامرة أن تطل برأسها للدفاع عن المذبحة التي ينفذها نظام عمر حسن البشير في دارفور، على سبيل المثال لا الحصر. وكأنه ليس في وسع أي دولة عربية أن تنخرط في حوار جدي مع الأقليات المؤلفة لنسيجها الاجتماعي قبل أن ترسل الحكومات جنودها لحرق القرى وقتل المدنيين والمتمردين المسلحين سواء بسواء.
الأخطر، في زعمنا، هو أن الوقوف الى جانب صدام وأشباهه ومقلديه في السير على طريق اضطهاد الأقليات والمعارضين، ورفع راية العروبة والصراع ضد إسرائيل في آن، إنما يفرغ ليس العروبة والقضية الفلسطينية من مضمونهما ويحرمهما من أي أرضية أخلاقية وقانونية يمكن أن تقوما عليها فحسب، بل يقضي على الآمال في نشوء وعي سياسي عربي قادر على التقدم صوب مشروع متعال على الأشكال الطائفية والجهوية والعشائرية للسلطة ولعلاقاتها، ما يساهم في تفاقم دهشة العرب بإزاء ازدراء العالم لمطالبهم التي يرونها عادلة، فيما يمارسون هم الازدراء ذاته مضاعفا مثنى ومثلثا لمطالب الشعوب التي تعيش مقهورة ومظلومة في دولهم.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى