صفحات سورية

عروبة – تاون وفرط القومية

null
موفق نيربية
كنّا ندرس في الثانوية فصلاً كبيراً عن «أدب المهجر»، قريباً من القلب والوجدان، نتابع فيه حياة المهاجرين الأوائل إلى الأمريكتين من سورية ولبنان، ونعتبرهم كوكبة واحدة لم تكن تتمايز ما بين سوري ولبناني كما كان الأمر. ذلك الشعر والنثر يقطران عذوبة، ويخلوان من شوائب وغلظة أدبنا الذي تسلسل إلينا عبر الأيام العثمانية. أجمل ما فيهما تلك الروح الشفافة الوطنية المفعمة بالحنين، كانت أسماء جبران ونعيمة وعريضة والحداد والريحاني تجعل «هويّتنا» أكثر شفافية وقدرة على التجدّد والتجديد.
وحتى حين «استشرق» الريحاني في رحلته من أجل الوحدة العربية، التي نتج عنها كتابه «ملوك العرب»، لم يكن غريباً ولا ثقيلاً. ليس مثل العرب الذين «يستشرقون» من غربهم أو غربتهم هذه الأيام.
هؤلاء قد عجزوا عن التكيّف وتظهير انتمائهم الجديد، أو غلبهم هواهم وأعطوه عقلهم وقلبهم في أوقات الفراغ، أو أنهم محترفون يعرفون ماذا يفعلون أو يعملون قي شرطهم الثقافي الذي يتّسع للمختلف ويرحّب به أكثر كلّما ازداد غرابة في اختلافه. ذلك الغرب ينشدّ إلى من يصرخ في وجهه.
وسواء كان الأمر عجزاً أو فرط طاقة لا تجد منقذاً لها، يصبح هؤلاء ثوريين وكارهين لمجتمعاتهم الجديدة، ولا يكتفون بالخلود إلى منعزل يمارسون فيه «هويّتهم» على طريقة بعض الصينيين في شاينا تاون، ولا يطلقون لهذه الهوية عنانها بكفاءاتهم المكتسبة فتدافع عن جذورها، وتتوجّه إلى الساسة الغربيين لتحصيل حقوق العرب والفلسطينيين، بل يتفرّغون لحراسة الهيكل من بعيد، ويجعلون دأبهم تحذيرنا من الحرية والديمقراطية والحضارة الغربية، التي يؤكّدون أنهم أعلم بويلاتها ونفاقها، لأنهم يحيونها، مثلهم في ذلك مثل أيّ غربيٍّ آخر. من يفعل ذلك من إخوانهم المهاجرين عملاء مأخوذون على الأكثر، ولكن أمثالهم المقيمين في الوطن هم كذلك على الأقل.
يستغربون (أو لعلّهم «يستشرقون»؟) اهتماماتنا الكولونيالية بالمسائل المدنية وحقوق الإنسان، وكيف لا نرى المؤامرة الإمبريالية على هويتنا وعروبتنا وأنظمتنا المستبدة التي تحمل أمجاد الأمة السوالف. هنا يعجزون أيضاً عن رؤية عروبة جديدة ديمقراطية ومدنية وعقلانية.
في كثافتهم وتركيزهم في الغرب الأقصى في الولايات المتحدة دليلٌ على ما سبق، بل في أعماق وجار الذئب في واشنطن أيضاً، لكنهم مختلفون في ما بينهم أيضاً، فمنهم من يعتدل في الأمر، وينظر قليلاً في بلده الجديد ليرى شيئاً يجمعه مع بلده الأوّل. وقد قرأت منذ سنوات لأحدهم دراسة ممتازة (أو جميلة على الأقل) عن تاريخ واشنطن والهنود الحمر والولايات المتحدة وفلسطين. ولا ننسى ذلك النيويوركي الفلسطيني الرائع إدوار سعيد.
وباعتبارهم أكثر اعتزازاً وأعمق انتماءً، فهم لا ينسون طريقة جرير والفرزدق في الحوار، أو لغة العقاد في السجال الأدبي، فتراهم يخوضون حرباً في كلّ مقالٍ أو مقام، وينتظرون رؤية الدماء تسيل تحت سيوفهم وحرابهم.
بعضهم متفرّغون لحراسة سيرة القادة العظام، يتسقّطون خطايا من يجرؤ على المسّ بقدسيّتها. بعضهم الآخر يقومون بإحصاء اللغة في كتابات الآخرين، ويقيسون قومية أو وطنية الآخرين في أيّ موضوع مهما كان من خلال كميّة كلمات إسرائيل أو الولايات المتحدة أو الاستعمار أو الشعب أو الأمة. وفي السرّ، لا يطيقون الاهتمام بالقضايا «الداخليّة»، لأنّها لا تتعلّق بـ«داخلهم» الخارجي حيث يستقرّون هانئين.
لسنا نهتمّ بالجدال معهم، لأنّهم حلفاؤنا الطبيعيّون، لو يدرون، يتهموننا بأننا نذهب بعيدا في الرهان على «التغيير من الخارج وفي الاستسلام لمغرياته». ويتفحّصون ما نقوله حول «الداخل» بمقاييس العلاقة مع «الخارج»، كلّما قلنا شيئاً نهتمّ فيه بتغيير أحوالنا، ثم يضعون خطّاً أحمر على نقدنا للأنظمة لأن هنالك معركة إخضاع وإذلال في كلّ ساعة. وإذ يرون أن نظاماً ما يرفض الخضوع «فهو يتقدم على نقاده مسافات طويلة ويحرمهم من هامش المناورة الوطني في الصراع معه، ويجعلهم شاؤوا أم أبوا في موقع أقرب إلى الغزاة منه إلى الوطن».
بذلك يعطون الشرعية للاستبداد، ولو قالوا عكس ذلك أحياناً، وهم غالباً لا يقولون، على عكس إخوانهم في داخل الوطن، الذين يجعلون من مهمة مواجهة الخطر الخارجي وتلك المتعلّقة بالخطر الداخلي مهمتين متوازيتين، تزيد إحداهما عن الأخرى بشعرة، بين موسم وموسم، وهذا طبيعي ومفهوم. «قومية» بعض من في الخارج تصل أحياناً إلى مستوى الإطلاق، وإلى الفرجة أو الشماتة أو التحريض على عقاب من يخالفهم الرأي والآلام في الداخل.
والنسور تحلّق شامخة نحو السماء… ثمّ تنقضّ نحو الأرض حين تتهاوى الضحايا!

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى