الكاتبة السورية مها حسن: التغير قادم ولن يبقي سدنة الهيكل الثقافي!
عناية جابر
مها حسن روائية سورية تقيم في فرنسا وتنشر أعمالها في بعض الصحف والمواقع العربية. صدر لحسن رواية جديدة عن دار ‘رياض نجيب الرّيس’ تحت عنوان:’حبل سرّي’ أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة الـ’بوكر’ العربية، كما لحسن أعمال من قبل منعت في سورية منذ سنة 2000. ‘ حبل سريّ تحكي تناقضات الحياة في سورية وفرنسا من خلال قصة أم وابنتها ، وعنها كان هذا الحديث:
* متى بدايات تعرّفك بالقراءة ثم الكتابة، كيف دخلت عالم الأدب وما هي الظروف التي قادتك اليه؟
* نشأت في بيئة شفهية، ليس للكتاب فيها أي حضور. باعتباري الولد البكر، كنت أول من يذهب إلى المدرسة، ويُدخل الكتاب ‘المدرسي’ إلى المنزل. بعد كتب المدرسة، أصبحت المناشير السياسية هي أول وجود مدون.
دخلت الكتابة من باب السياسة. نشأتي في بيئة سياسية، قادتني باكرا إلى قراءات عالمية، ولو أنها انحصرت في كتيبات سياسية صغيرة، قادتني إلى التعرف على جذور الفكر اليساري، فرحت أقرأ ماركس وإنغلز، وبعض الكتب والروايات المنبثقة من الخط ذاته. بدايات قراءتي كانت مع الأدب الروسي. قرأت مكسيم غوركي باكرا، وإيتماتوف، وليرمنتوف وغيرهم. كان حلم والدي الذي رسمه لي، دراسة الاقتصاد السياسي في روسيا، ولم أفهم آنذاك، الرابط بين الاقتصاد والسياسة. إلا أنني أشعر دوما بالامتنان للسياسة التي فتحت لي أبواب الثقافة، لأن نشأتي وسيرتي، لولا الصُدف السياسية، تؤهلني، مثل بقية بنات العائلة، للذهاب إلى منزل الزوجية التقليدي أو الانخراط في نضال سياسي طوباوي. السياسة فتحت أبواب القراءة أمامي، حيث اكتشفت متعتي أمام الفكر، الذي راح يشدني بالتدريج نحو عالمه، فرحت أقرأ خارج الإطار المفترض، أي خارج الدائرة الماركسية أو الروسية. اكتشفت نيتشه باكرا، ثم رحت إلى هيغل، مرجعية ماركس، وجاء سارتر كفيلسوف أولا، وككاتب تاليا، ليُحدث انقلابا في مساري الذهني.
اكتشافي للوجودية كان أهم ما وقع لي، اكتشاف لم يقترحه عليّ أحد، لم يتدخل به أحد، اكتشاف خاص بي، حقيقي وجوهري. ومن هنا كان انفصالي السياسي، رغم الهجوم الحاد، الذي كنت أضعف من تحمله، في سن الطفولة تقريبا ‘خمس عشرة أو ست عشرة سنة’ حيث اتهمت بالعمالة لليمين البورجوازي، كان اليسار يعتبر سارتر مفكرا بورجوازيا معاديا للشعب!… وهكذا رحت نحو الفكر والأدب وابتعدت عن السياسة كإطار حزبي تقليدي، دون أن أهجر الهمّ السياسي الذي لا يمكن لأي مواطن في العالم العربي، وفي الغرب أيضا، العيش بمعزل عنه.
* ثمة خط من الإلتزام السياسي واضح في روايتك، ألا يُعيق هذا حرية الرواية؟
* هذا الجواب مرتبط بالسابق، لأنني ولدت في بيئة سياسية. مع أنني لست مع أدلجة الأدب، ولا أؤمن بالوظيفة الاجتماعية له، ولكن كل قراءاتي المبكرة ركّزت على الإنسان، لا بل على المكانة المثالية التي يستحقها الإنسان في الطبيعة، وفي العلاقة مع الإله …من الطبيعي أن أنحاز إلى هذا الإنسان، وإلى المرأة خصوصا، لأنني فوجئت باكرا، أو صُدمت بالازدواجية الاجتماعية، حيث المرأة رفيقة وشريكة في السياسة، إلا أنها تتحول إلى ‘دمية’ أو ‘جارية’ أو’محظية’ في المنزل. أعتقد أن جذوة غضبي المستمرة من الأوضاع المهينة التي تحياها المرأة في الشرق، عبر جرائم الشرف أولا، وانتهاءً بكل ممارسات العنف اليومية التي تمارس على المرأة، أجبرتني، بشكل غير مقصود ربما، على الانحياز الحقوقي، أكثر منه سياسيا، نحو الطرف الأضعف، الإنسان المهمش والغائب، والمرأة خاصة.
* هل من تأثرات في قراءاتك وكتابتك بكتّاب أجانب، انت التي تعيشين في باريس كما هو معروف، ومفتوحة قراءاتك على عوالم شاسعة ورحبة؟
* لم يمضِ على إقامتي الفرنسية زمن كاف لنتحدث عن التأثر، أنا أقرأ بالعربية، وأتذوق القراءة بهذه اللغة، ولم أصل بعد إلى متعة القراءة بالفرنسية. لهذا فأنا لم أتأثر بأي كاتب فرنسي بسبب عيشي في فرنسا، ولكن يمكن القول بأنني تأثرت بطريقة التفكير الغربية باكرا. تعرفين أن الغرب يمجّد الحريات عبر الكتابة والأدب، من يقرأ الأدب الغربي باكرا، أو حتى الدراسات الفكرية، دون قصد منه ـ لا أحب كلمة لاوعي ـ يتشبّع بمواقف وأفكار الحريات. لقد قرأت كولن ولسون مثلا في سن العشرينيات، كتابه الذي التف حوله المثقفين العرب في فترة الستينيات والسبعينيات، وتأثروا بنموذج المثقف اللامنتمي، وكذلك الأفكار البوهيمية التي جاءتنا من الغرب… كل هذا أثر فيّ باكرا، وخلق بداخلي مساحات من الرفض والبحث المحموم عن الحرية، لهذا فأنا لست متأثرة على صعيد الشكل، ولكنني على صعيد البناء الفكري، أنتمي لهذه الأفكار، التي تعرفت عليها من الغرب، أفكار الحريات وحقوق الإنسان، الرفض والانتماء أو اللاانتماء.
* هل من طقوس معينة لكتابتك، وما هو المعمار الفني الذي اعتمدته لتظهير عملك على سويته من وجهة نظرك؟
* أشبه الروائي بأنثى الكنغر ـ كنت ولا زلت معجبة جدا بهذا الكائن ـ حيث تضع أطفالها في جرابها. تذهلني هذه العلاقة المحتشدة بالحب والحنان والاحتواء، إلى درجة الالتصاق وفقدان الاستقلالية، كذلك يفعل الروائي بشخوصه وأحداث رواياته. ربما تنولد فكرة الرواية الرئيسية مثل الشعر، كحالة ومضة، أما بناؤها فيتم وفق حالة ‘كنغرية’ بحيث لا يكف الروائي عن الكتابة، في جميع مراحل يومه، الفرح، الحزن، المشاهدات … مثلا، كلما نظرت إلى وجوه الناس حولي، أولئك الذين أعرفهم، وعلى الأخص الذين لا أعرفهم، أتخيلهم شخوصا قادمة، أو مشاريع مؤجلة في رواياتي. هكذا أعيش الكتابة، أضع العالم الذي أحياه، بكل تفاصيله، نشرات الأخبار، علاقاتي الاجتماعية، صداقاتي المتميزة، إحباطاتي، قراءاتي، أحلام اليقظة التي تغذي كثيرا كتابتي، كوابيسي الليلية التي ترافقني كثيرا إلى درجة الاحتلال لوعيي، رغباتي، أمزجتي، مخاوفي .. أختزن كل شيء في جرابي الروائي، وحين تأتي الومضة الأولى، أكتشف وكأن الرواية موجودة سابقا بداخلي، كانت تحتاج فقط إلى الخيط الأول، الومضة، ثم تنسل لوحدها المخزون المخبأ في الجراب… لوحدها تأتي الشخوص والأحداث … تكاد تكون مكتوبة، وما عليّ سوى إعارتها أصابعي، لأحولها من وجود مختبئ بداخلي، إلى وجود مادي، مرئي على الشاشة، للأسف أكتب عبر الكمبيوتر…
‘حبل سري’، ولدت هكذا، هي أول عمل أكتبه من فرنسا، ويتعلق بالجانب الفرنسي من حياتي. صوفي بيران، تشبهني إلى حد ما، تشبهني ربما كما أحلم لنفسي، حريتها تشبه لهاثي خلف الحرية، لا انتماءها يمثل كثيرا حيرتي في الانتماء، كما لو أنني احتجت لخلق صوفي بيران، لأتحدث عن قلقي من الهوية، ولا انتمائي الذي يربكني، ما بين الأرض الأولى، لا مسقط الرأس، كما يقال، بل موقع السُرة، وبين الأرض الجديدة، أرض الاختيار الناضج. صوفي بارتباكاتها وتقلباتها العاطفية والفكرية وتأرجحها هي أنا. أما باولا، فهي الحلم ربما. الطفل الذي لم أنجبه، وتخيلت وجوده، الطفل الأعقل مني. باولا أنضج من صوفي، هكذا أعتقد ، أنا أؤمن بجيل الأبناء أكثر، لهذا احتجت لباولا، لتحسم قلقي، قلق صوفي، قلق جيلي، نحن الذين اخترنا الضفة الأخرى، ولا تزال مشاعرنا عالقة هناك.
كتبت هذه الرواية بشغف حقيقي. أحببت كل من فيها، سيريل البوهيمي، الذي تعرفت على سيريل يشبهه كثيرا في باريس، آلان الذي أحببته وقسوت عليه، حنيفة الرائعة، التي مزجت فيها عدة نساء أحبهن، هؤلاء أشخاص ينامون في جيبي الروائي، وينهضون ليساعدونني في الكتابة، إنهم مثلي، لديهم رغبة في الاحتجاج والبكاء، معزولون وهامشيون ويخافون، لهذا نحن نكتب، أنا وشخوصي التي ترافقني.
الطقس المهم والرئيسي بالنسبة لنا، أنا شخوصي، هو الوحدة. إنهم يحتاجون إليّ وحدي، ليخرجوا إلى الورق، أو إلى الكيبوورد، لديهم هلع من العالم الخارجي، لا يمكنهم الظهور أمام الآخرين، عليّ أن أستقبلهم بمفردي، حتى نكتب معا، إنها علاقة ممتعة، تماما، كما أنثى الكنغر، أحيا، بحب، باحتواء، بحنان، لا تنحسر أناي ولا تختفي، إلا أمامهم، يلتصقون بي، ويحق لهم إلغائي.
أحب باريس، وأحب بروتانيا، لهذا فالمكان حاضر بقوة في روايتي، من شدة شغفي بالمكان، أكاد أمسك بيد القارئ لأدله على أسماء الشوارع والمقاهي وأسماء الأطباق، هذا ربما أثقل الرواية من وجهة نظر نقدية، لكنني كنت أحاول تعريف القارئ العربي، الذي أبحث عنه، والذي يشبهني، ولا يعرف باريس، أحاول العبور به إلى باريس، عبر روايتي، وبالعكس، كنت راغبة في تعريف الفرنسي، الذي أعيش معه، بالمكان الذي وقعت فيه سُرتي. لكنني لم أتمكن من خيانته، عبر تقديم أرض نشأتي على أنها بلاد الحب والشمس، كنت بحاجة لأصدق معه، فلا أزوّر، وجدتني أحدثه عن الفساد السياسي، عن قمع النساء، عن مداهنة المثقفين… ليس الأمر بيدي، وليس خيارا قصديا، إنها معاناة الناس الذين يعيشون بداخلي، الذين أرتطم بهم كيفما تحركت، هم الذين يكتبون، إنهم يستعملونني للظهور، هذا جنون ربما، ولكن من قال إن الكتابة الإبداعية ممارسة عاقلة!
* ما رأيك بالمشهد الثقافي العام في العالم العربي، وهل تتابعين إصدارات الشباب ومن يعجبك؟
* أكره النق كثيرا، مع أن المشهد الحالي لا يدعو إلى الكثير من التفاؤل، إلا أنني مؤمنة بالتغيير، ثمة ديالكتيك منطقي يقود حركة الكون، لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، ثمة جهود تُبذل، وثمة أشخاص يعترضون على سيرورة المشهد الحالي، وثمة انقلابات لا بد منها. نحن في زمن العولمة، أصبح من السهل الإطلاع على تجارب الآخرين أينما كانت، هذا الانفتاح الهائل على العالم، والثورات التكنولوجية، تخلق فضاءات أمام المثقفين المبعدين. الزمن القادم سينصف هؤلاء، لن يبقى الكبار وأرباب الكتابة سدنة الهيكل الثقافي، نحن مجبرون على التغيير وقبول الآخر، ولكنها قضية وقت، وقت ليس طويل. المشهد العام تحبكه العلاقات والمصالح، ثمة استثناءات طبعا، إن خليت خربت. مشكلة الثقافة هي تبعيتها السياسية، لولا أدلجة الثقافة، وربطها بمنابر ومصالح شخصيات وأحزاب، لكنا بخير، أظن أن عملية التغيير متساوية، بين السياسي والثقافي، فالاستبداد السياسي يخلق استبدادا ثقافيا، وبالعكس، التغيير السياسي والتوجهات الديمقراطية، تخلق أنماطا إبداعية متطورة ومتحررة ومغايرة.
أتابع كل ما يصدر، وفق إمكانياتي المكانية. للأسف، إن مصدري الوحيد لمتابعة الإصدارات هو الصحافة العربية. لأنني لا أعيش في مدينة عربية، أستطيع فيها اللقاء بالمثقفين والكتاب والإطلاع على الحركة الثقافية اليومية. أحتاج لوسيط، هو الصحافة. أنا معجبة جدا بالحراك الثقافي، الذي اكتشفته في وقت متأخر، في المغرب العربي. أكاد أكون مبهورة بجدية المثقف المغربي. لا أعرف أن كان النظام الملكي، يهيئ لخلق ثقافة غير مأسورة أو خائفة أو مبددة بسبب الاهتزاز السياسي. معجبة جدا بالصحافة اللبنانية، رغم عدم الاستقرار السياسي، لكن ثمة ‘حريات’ وإن كانت نسبية، لكنها تكاد تكون مطلقة لو قارناها بباقي أرجاء العالم العربي.
معجبة أيضا بالتجريب الروائي المصري، التجارب الجديدة للكتاب الجُدد. ثمة في مصر شباب متمردون، مع أني لا أحب اللفظة، ولكنهم قادرون على قلب الطاولة. لا أستطيع تسمية تجربة بعينها، لأنها لا تزال تجارب في بدايات الطريق، نحتاج، كما أعتقد، إلى بعض الزمن، لتأكيد جدية هذه التجارب، أو ربما آنيتها، وابتعادها، وهذا طبعا ما لا أرجوه. إضافة إلى عدم إلمامي بجميع تفاصيل المشهد الإبداعي، خاصة بتجارب المغرب العربي والخليج العربي، وهذا ما يجعل أحكامي ناقصة.
السفير