لعبة المحادثات الإسرائيلية- الفلسطينية
نعوم تشومسكي
يبدو استسلام واشنطن لإسرائيل مثيراً للشفقة في الوقت الذي تناشد فيه بتجميد توسّع حركة الاستيطان لمدة ثلاثة أشهر من دون جدوى – باستثناء القدس الشرقية العربية- وتعتبر هذه المسألة أكثر اللحظات إهانة في تاريخ الولايات المتحدة الدبلوماسي.
انتهى تجميد الاستيطان الأخير في سبتمبر الماضي، ونتيجة لذلك قاطع الفلسطينيون المحادثات المباشرة مع إسرائيل. أما اليوم، فتسعى إدارة أوباما جاهدة إلى عرض سلسلة حوافز على الحكومة الإسرائيلية “اليمينية” المتطرفة، بعد أن ملّت من إغراء إسرائيل لتجميد الاستيطان مجدداً وإعادة إحياء المحادثات.
وتشمل هذه الحوافز مبلغاً بقيمة 3 مليارات دولار للطائرات المقاتلة.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّه غالباً ما يتم تضمين المواد الصناعية المدنية الأميركية ذات التقنية العالية ضمن هذه الحوافز. ولا شك أنّ أكثر مصادر الدعم حماسة للأعمال الإسرائيلية هو الإعلام التجاري والحزب “الجمهوري” الأميركي، الأكثر تطرفاً من بين الحزبين السياسيين ذي التوجّه التجاري. أما حجة بيع كميات كبيرة من الأسلحة إلى إحدى الدول الخليجية، فهي الدفاع عن الذات في وجه “التهديد الإيراني”.
بيد أنّ التهديد الإيراني ليس عسكرياً كما أعلن “البنتاجون” والاستخبارات الأميركية. ففي حال كانت إيران تخطط لتطوير قدرة عسكرية نووية، فسيكون هدفها التصدي لهجوم أميركي- إسرائيلي.
ومن وجهة نظر واشنطن، فإن التهديد الفعلي هو سعي إيران إلى توسيع نطاق نفوذها في البلدان المجاورة، وعلى صعيد آخر، فقد أظهر العرب خلال اقتراع لمؤسسة “بروكينجز”، أجري مؤخراً أنّ أكثر الدول تهديداً هي إسرائيل (88 في المئة)، تليها الولايات المتحدة (77 في المئة) فإيران (10 في المئة).
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ المسؤولين الرسميين الأميركيين، كما أظهر موقع “ويكيليكس” مؤخراً، تجاهلوا تماماً الرأي العام العربي.
وتشير التقارير الحالية إلى أنّ الهبات التي قدّمتها الولايات المتحدة إلى إسرائيل تشمل كذلك الدعم الدبلوماسي. وتعهدت واشنطن برفض أي إجراء يقوم به مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من شأنه أن يزعج القادة الإسرائيليين، وبإسقاط أي دعوة إلى تأجيل حركة تجميد الاستيطان من جديد.
ومن خلال الموافقة على الإيقاف المؤقت لمدة ثلاثة أشهر، لن تتم مضايقة إسرائيل من قبل “الآمر بالصرف” مع توسّع أعمالها الإجرامية في الأراضي المحتلة.
لم تكن هذه الأعمال الإجرامية مصدر شك حتى عام 1967، عندما أفاد القاضي الدولي “تيودور ميرون”، رئيس السلطة القضائية الرائدة في إسرائيل، أنّ خطط الحكومة الرامية إلى بدء عمليات الاستيطان في الأراضي المحتلة تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة، وهو بند رئيسي في القانون الإنساني الدولي، وقد تمت صياغة الاتفاقية عام 1949 لمحاكمة الأعمال الإجرامية الشنيعة للنظام النازي.
وأفاد المؤرخ “غيرشوم جورنبرج” في كتابه بعنوان “ذي أكسيدنتل إمباير” أنّه تم تعزيز خلاصة “ميرون” من قبل وزير العدل يعقوب شيمسون شابيرا ووزير الدفاع موشي دايان لاحقاً.
وقال “دايان” لزملائه الوزراء، “يجب أن نوحّد موقفنا بحيث ننجح مع مرور الوقت في “هضم” محافظتي يهوديا والسامرة (الضفة الغربية) ودمجهما مع “إسرائيل الصغيرة”، في حين نقوم “بتفكيك تماسك أراضي” الضفة الغربية، وكل هذه الأمور مجتمعة بحجة “ضرورة القيام بهذه الخطوة لأهداف عسكرية.”
بيد أنّ “دايان” كان على ثقة تامة مما طلبه من زملائه، فأفاد، “كما هو معروف، إن استيطان الإسرائيليين في الأراضي المحتلة هو انتهاك للمعاهدات الدولية، ولكن ما من شيء جديد في ذلك”.
تكهّنُ “دايان” الصحيح، هو إمكانية اعتراض المسؤول في واشنطن بشكلٍ رسمي، ولكن بطرفة عين، في حين سيستمر في توفير الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي الحاسم للمساعي الإجرامية.
وسلّط الضوء على الأعمال الإجرامية من خلال قرارات مجلس الأمن المتكررة فضلاً عن محكمة العدل الدولية مؤخراً مع الاتفاقية الأساسية للقاضي الأميركي “توماس بورجنتال” في تصريح منفرد. وانتهكت الأعمال الإسرائيلية كذلك قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ما يتعلق بالقدس. ولكن الأمور تسير على خير ما يرام طالما تستمر واشنطن في غض طرفها.
وبالعودة إلى واشنطن، تبدو نداءات “الجمهوريين” المتعالية أكثر حرارة في ما يتعلق بدعمهم للجرائم الإسرائيلية. فيفيد في هذا السياق “جلن كسلر” في تقريره بـ”الواشنطن بوست” أنّ “إريك كانتور”، الزعيم الجديد للأكثرية في مجلس النواب، “قد روّج لحل بالغ الأهمية لحماية ومساعدة إسرائيل، من ارتجاع المساعدة الأجنبية الحالية، وبالتالي منح الدولة اليهودية حساب تأسيس خاص بها، فتتم إزالتها من الصناديق المخصصة لدول العالم الأخرى.”
وتعدّ مسألة توسّع حركة الاستيطان مجرّد تمويه. فالمسألة الحقيقية تكمن في وجود عمليات تطوير للمستوطنات، والبنى التحتية ذات الصلة، وتم تصميمها بعناية بحيث تستأثر إسرائيل مسبقاً بأكثر من 40 في المئة من الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك ضواحي القدس، والأرض الصالحة للزراعة ومصادر المياه الأساسية في المنطقة، وكلها من الجهة الإسرائيلية لجدار الفصل، وهو في الواقع الجدار الملحق.
ومنذ عام 1967، وسّعت إسرائيل حدود القدس منتهكة بذلك أوامر مجلس الأمن على الرغم من المعارضة الدولية العامة (بما في ذلك الولايات المتحدة، على الأقلّ رسمياً).
ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ التركيز على توسّع حركات الاستيطان وتذلّل واشنطن ليسا بالعناصر الهزلية الوحيدة في المفاوضات الحالية. فالمسألة بحدّ ذاتها هي لعبة تحزيرية. فتوصف الولايات المتحدة كـ “سمسار صادق” يضطلع بدور الوسيط بين عدوّين متمرّدين، بيد أنّ المفاوضات الجادة يجب أن تكون برئاسة فريق حيادي، حيث تكون الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة والعالم من الجهة الأخرى.
ولا يُخفى تضامن الولايات المتحدة وإسرائيل ظاهرياً على مرّ 35 عاماً وذلك في وجه توافق بشأن الاستيطان السياسي شبه العالمي، وهذا التوافق يضم الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي (بما في ذلك إيران)، وكل الفرقاء ذوي الصلة.
مع انطلاقات نادرة ومختصرة، فضلت دولتا الرفض التوسع اللاشرعي على الأمن. وسيبقى موضوع الاستيطان السياسي فعلياً مطروحاً جانباً ما لم تغيّر واشنطن موقفها، كما ستستمر أصداء هذا التوسع وانعكاساته لتطال أرجاء المنطقة والعالم.
أستاذ الفلسفة واللغويات بمعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا
ينشر بترتيب مع خدمة “نيويورك تايمز”
الاتجاد