صفحات أخرى

السادة الرجال: عن كتاب الهيمنة الذكورية لـ بيار بورديو

محمد غيث الحاج حسين
يبدو للمتأمل من الوهلة الأولى أن الهيمنة الذكورية وتقسيم الأدوار وتوزيعها تبعاً لها، بمختلف أشكاله، بين الجنسين هو من نظام الأشياء وسمة من أشد سماتها طبيعية. هو صورة تطابق المضمون تطابقاً تاماً يجعل منه حقيقة بدهية مستقرة . . . ولكن تحت البدهيات ترقد حقائق غير بدهية يمكن زعزعتها ومساءلتها رغم شيوعها وانتشارها الساحق ليس من حولنا فقط بل وفي وعينا، والأخطر من هذا وذاك كمونها في لاوعينا، فاعلة، نشطة، توجِّه حياتنا من حيث لا ندري. وأي محاولة لتفكيك آليات مثل هذه البدهيات والإخلال بشرعيتها المفترضة يواجَه بمقاومة شرسة من قبل حراس نصبوا أنفسهم قيمين عليها يتوارثون تقاليد حراسة الأسرار، أسرار الاشتغال على توليد البدهيات لتأبيد سيطرة نوع، فئة، طبقة، عرق . . . تمنحهم شرعية لا يستحقوها.
كتاب “الهيمنة الذكورية” لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيار بورديو، هو محاولة جادة في الاشتغال على تفكيك ما يقدمه العنوان المباشر في موضوعه، أقصد الهيمنة الذكورية، بكل ما تستدعيه من تاريخ طويل ومغرق القدم، قائم على الاجحاف والظلم بحق النوع الإنساني، حيث تستخدم كل الوسائل والذرائع لإشادة نظام تتضافر فيه اللغة مع الوقائع لتنتج حالة فريدة من السيطرة والتحكم شكلت علامة فارقة في التاريخ البشري.
ليس من قبيل المسلمات أن يكون الرجال قوّامين على النساء، وليس أمراً نافلاً، مفروغاً منه، أن يكون المنزل هو الفضاء المعنوي والمادي للمرأة في حين أن العالم برمته هو الفضاء المعنوي والمادي للرجل… وهل من طبيعة الأشياء أن القوة والشجاعة سمتان رجاليتان في حين أن الضعف والخجل سمتان أنثويتان بامتياز… تلك ثوابت قارة في المجتمعات البشرية على تعددها، ورغم بعض الاختلافات والتمايزات هنا وهناك، إلا أن ثمة ما هو غير بدهي حقاً يكمن تحت هذه البدهيات، وكأنها آثار تأتي من منبع واحد، هو مصدر لكل هذه التشظيات والممارسات التي تتخلل حياتنا اليومية حتى النخاع. هو النظام الاجتماعي منذ بداياته الأولى، ينتج ويعيد إنتاج هرمية وتراتبية محددة تحكم بنيته، خبرة عمرها آلاف الأعوام، دينية، فلسفية، سياسية، اجتماعية، يتم توارثها وتناقل خبراتها بطريقة تكاد تكون سحرية حقاً. وربما لهذا السبب نجد بوردو يعتمد في كتابه الدراسة الإثنوغرافية المعمقة لمجتمع القبائل في الجزائر، ليقع على مفاصل وملامح اللاوعي الراقد بصمت وسكون تحت بناء شاهق من البنى الرمزية والواقعية التي تبدو وكأن لا راد لها أبداً. بنىً تطورت لاحقاً في المجتمعات الحديثة لتصبح مؤسسات تتآزر وتتعاضد فيما بينها، الدولة، المدرسة، الكنيسة، وتؤكد أن النظام الذكوري هو التعبير الطبيعي للأشياء. “النظام الاجتماعي يشتغل باعتباره آلة رمزية هائلة تصبو إلى المصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها. إنها التقسيم الجنسي للعمل، والتوزيع الصارم للنشاطات الممنوحة لكل واحد من الجنسين لمكانه وزمنه وأدواته” ص 27. والاشتغال لا يقف عند حدود الفضاء الاجتماعي بل يقتحم حدود الجسد البشري الذي يصير موضوع عمل آليات وأدوات التجنيس التي تسعى إلى تجذير وترسيخ ذات الفكرة. وتأتي الاختلافات والفروقات التشريحية بين الجنسين لتدعم آلية عمل النظام الاجتماعي وتمنحها مصداقية وسطوة، ويصير البيولوجي مفسراً للتقسيم الجنسي للعمل، فالفكرة يدعمها الواقع، والواقع العياني أن المرأة أضعف جسدياً من الرجل، والمرأة خوافة أكثر منه، وهي خجولة بطبعها تعمد إلى السكينة والصمت، والحدس ملجأها المعبِّر الذي يمثل في الفهم العام العجز والسلب، بينما الرجل قوي شجاع، صخَّاب، منطقي، عقلاني، فاعل، إيجابي …
ولكن كل هذه التوصيفات والسمات الجوهرية في ظاهرها، هي آثار فعل قهري مورس ويمارس علينا بقوة ونعومة في نفس الوقت، سراً وجهاراً، إلى حد بتنا نستبطن آلياته ونتبناها في لاوعينا ونطبقها على أنفسنا وعلى الآخرين على نحو يجعل منها البدهيات التي ذكرناها. “إن القوة الخاصة لتبرير النظام الاجتماعي الذكوري إنما تأتيه من أنه يراكم ويكثف عمليتين : إنه يُشَرعِن علاقة هيمنة من خلال تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء اجتماعي مطبّع” ص46. وتوحي الهيمنة الذكورية بقوة النوع الذكوري وتماسكه كطرف أساسي في الهيمنة ولكن الواقع أن الرجل هو ضحية أيضاً مع المرأة وإن بشكل أقل. هو ضحية لأنه مستهدف للعب وتقمص أدوار اجتماعية محددة مفروضة عليه من الخارج، لا يجرؤ على مخالفتها كي لا يوصم بالضعف والأنوثة، وبالتالي فالنظام الاجتماعي يستهدف ضبط الرجل والمرأة معاً مع مراعاة التفاوت في مستوى الضبط بينهما، وتصبح الرجولة “مقولة علائقية للغاية، شيدت قبالة الرجال الآخرين، ومن أجلهم، وضد الأنوثة، على شكل خوف من المؤنث، وداخل النفس ذاتها أولاً” ص 86. الأنثى المجنَّسة والخاضعة تتقمص أيضاً أدواراً مغايرة وتصير موضوعاً جمالياً بحتاً برسم الخارج لا يتعدى حدود صورة جسدها المادي، ما يجعلها من ناصلات اللون كما سماها بيير داكو في كتابه “المرأة بحث في سيكولوجية الأعماق”، أي تلك التي لا تعكس شخصية فردية متزنة، فتنغمس في تقاليد الموضة واللباس والإعلان التجاري والأعمال المخصصة للظهور و”البرستيج” دون وعي أو إرادة منها، لتكتمل مكانتها كموضوع أوحد لتحديقة ذكورية افتراسية تسبر جسدها بوصفه ميدان متعة رجالية على نحو حصري، بصرف النظر عن مدى استمتاعها هي، بل ويمكن أن تتظاهر بالنشوة الجنسية حتى ترضي الرجل أكثر لأن الجنس بالنسبة له ضمن الترسيمة الشائعة شكل من أشكال السيطرة والاخضاع. وهي بقدر ما تتماهى مع الدور المحدد لها، بقدر ما تعزز من قوة النظام الاجتماعي الطاغي والمستبد بها.
الهيمنة الذكورية ليست مطلقة ولا نهائية، فما دامت ضمن الحيز التاريخي الفعلي للإرادة البشرية، تبقى إمكانية التغيير قائمة، ومهما بلغ نظام ما من القوة والسيطرة فلا بد من وجود بؤر مقاومة فيه، وهذه المسألة بحق هي من طبيعة الأشياء. والتغيير الممكن متعدد الجبهات، قامت وتقوم بجزء منه الحركات النسوية العالمية، وأيضاً بحسب بورديو، حركة الشاذين التي تضع موضع تساؤل النظام السائد، مع الانتباه إلى أنها أيضاً تتبنى قيم التمييز وتقسيم الأدوار دون تمييز، والبحث التاريخي النقدي مؤهل كذلك للقيام بدور أساسي يفحص من خلاله قيم المؤسسات الرسمية السائدة، سياسية، دينية، تعليمية، ويضعها موضع المساءلة والاختبار ليجردها من أسلحتها ويحدد مكانتها في النظام، وهذه جميعها تتبلور في فعل سياسي “يأخذ فعلياً بعين الاعتبار كل تأثيرات الهيمنة التي تمارس عبر التواطؤ الموضوعي بين البنى المستدمجة (لدى النساء بقدر ما هي لدى الرجال) وبنى المؤسسات الكبرى . . . قادر بالتأكيد وعلى الأمد البعيد، ولمصلحة التناقضات الملازمة لمختلف الآليات والمؤسسات المعنية أن يساهم في الأفول التدريجي للهيمنة الذكورية” ص 172.
ولكن ماذا عن الحب، ألا يحتل مكانة ما في الفعل المقاوم؟ الحب حاضر في كتاب بورديو ضمن ملحق عدد صفحاته قليل عنوانه “حول الهيمنة والحب”. وهو يتمثل علاقة الهيمنة السائدة بصيغة مختلفة تحافظ فيها استراتجيات الإخضاع على حضورها هذه المرة، على شكل انشغالات بال وانتظارات، واحباطات، وجراح يكون فيها العاشق والمعشوق في علاقة تبادل غير متكافئة من جديد ولسان حالهما يقول:
مولاي وروحي في يده قد ضيعها سلمت يده
ولكن حباً آخر يحضر على نحو طيفي هو الحب الصوفي المنزه من الأغراض، يسلم فيه كل طرف حريته تسليماً طوعياً لا غبن فيه ولا إخضاع، للطرف الآخر دون أي قيد أو شرط، ليشكلا معاً “وحدة اجتماعية أولية يستحيل تقسيمها، ووهبت بقوة اكتفاء ذاتي رمزي وسلطة أن تنافس منتصرة مع كل النذور التي نطلبها عادة من المؤسسات ومن طقوس المجتمع ذاك البديل الدنيوي لله” ص 165.
الكتاب : الهيمنة الذكورية
تأليف : بيار بورديو
ترجمة : د سليمان قعفراني
إصدار المنظمة العربية للترجمة – 2009
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى