عالم الـ”فيس بوك”
د. السيد ولد أباه
تدل كل المؤشرات على أن العام الجديد سيكون عام شبكة “الفيس بوك”، التي احتلت الموقع الثالث في الانتشار داخل فضاء الإنترنت، متقدمة لأول مرة على الموقع البحثي والبريدي الشهير”ياهو”. ينتمي حالياً ستمائة مليون شخص في العالم إلى عائلة “الفيس بوك”، التي اعتبرها البعض ثالث أكبر أمة بعد الصين والهند. وعبارة عائلة هنا لها دلالتها، باعتبارها تستخدم عادة لمنح الرابطة الافتراضية القائمة دلالة حميمة، في الوقت الذي تستخدم أيضاً مقولة “الصداقة” بالمعنى ذاته.
من هو صديق “الفيس بوك”؟ أين هو من “أشخاص مفهوميين”(بلغة دلوز) عرفناهم في تراثنا الثقافي من نوع “الصاحب” و”الخليل” و”الصديق”؟
تحدثنا كتب التراث العربي الوسيط عن اهتمام العرب المثير بآداب الصحبة والعشرة، وما يرتبط بها من قيم النصح والمودة والوفاء والبذل التي هي جماع القيم العربية النبيلة. وقد لخصها أبو حيان التوحيدي في رسالة الصديق والصداقة”، التي أورد فيها على لسان أحدهم هذا التعريف الدقيق للصداقة: “ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإذا لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت”.
أين هذا الخليل من صديق “الفيس بوك” الذي تلازمه طوال اليوم في الشبكة الافتراضية وتبادله أسرارك وتشركه في عالمك وتقاسمه الرأي والمعلومة دون أن تلتقي به في الغالب أو تحدثه بلسانك؟
للرد على هذا السؤال، يتعين أن نقف عند جوانب محورية من ظاهرة “الفيس بوك”:
أولًا:إن شبكة “الفيس بوك”، هي مظهر جديد لصياغة الهوية الذاتية والتعبير عنها، فهي من هذا المنظور من التجليات الراهنة للظاهرة الفردية في حدها الأقصى الذي هو تحكم الفرد المطلق في صورته وقيمه ورغباته خارج سيطرة المؤسسة الأسرية والاجتماعية. فمن خلال النافذة الافتراضية الشخصية ينفذ الجيل الجديد إلى العوالم المحرمة والممنوعة ويربط الصلات بحرية وجرأة مع الآخر، دون أي قيود، حتى في المجتمعات الأكثر محافظة وانغلاقاً.
بيد أن هذه الهوية الفردية تحتاج في تشكلها والتعبير عنها إلى وجه الآخر وصورته حيث تجد انعكاسها الضروري وتحظى بالقبول والاستقبال. تتغير جذرياً من خلال هذه الظاهرة معادلة الفصل الحاسم بين العام والخاص التي قامت عليها العصور الحديثة. تنزاح الحدود بين الحميمي والعمومي، من خلال اختراق الحميمي للمجال العام عبر الشبكة الافتراضية. يصبح الفضاء العمومي امتداداً للذاتية الفردية ومسرحاً لتمظهرها، فينشأ بعد إنساني جديد أطلق عليه عالم النفس “سرج تيسرون” عبارة “الحميمية الخارجية” (الرغبة في الكشف عن الحياة الحميمة).
أو Extimité.
ثانياً: تبرز ظاهرة “الفيس بوك” مفارقة سيولة وكثافة التواصل في عصر انحسار الهويات الجماعية، بما فيها الهويات الحديثة كالدولة والأمة والطبقة والحزب… تقلصت وضعفت نماذج المناضل والنقابي وحتى المواطن، وارتد الإنسان إلى جوهره الانعزالي، أي إلى ما دعاه الفيلسوف الوجودي “جان بول سارتر” بعدم قابلية البشر للتواصل الشفاف، أي استحالة انكشاف وعي بعضهم لوعي الآخر من حيث هو المختلف الأقصى (الجحيم هو الآخر). وما كشفت عنه ظاهرة “الفيس بوك” هو تعايش وتجاور الهويات الفردية المتمايزة والمتنافرة في بحثها المحموم اليائس عن وجهها المزدوج في الشبكة الواسعة الكثيفة.
الصديق هنا بلا قسمات ولا وجه، حتى ولو كانت أدق مشاهد حياته الحميمة معروضة. فلا توجد وسيلة تلقائية للتثبت من المعلومات المقدمة، ولا من المشاعر المبثوثة. لا هو بالخل الصاحب الذي حدثنا عنه التوحيدي والجاحظ، ولا هو بالمعشوق الذي لا سبيل لوصاله ولا أمل في نيله كما حدثنا ابن حزم، وأوضحت لنا كتب الحب الصوفي.انه جليس افتراضي قريب وإن بعد في المكان، ملازم في كل آن حتى ان كانت صحبته في غالب الأحيان عديمة الجدوائية، وإن خلقت وهماً تعويضياً بالتواصل الكثيف مع الناس. ولذا فإن مدمني “الفيس بوك” هم أكثر الناس انعزالاً وفردية.
ثالثتها:مع “الفيس بوك” نمر من نظام الرقابة الشاملة القمعية إلى نظام الرقابة الذاتية الرخوة. في الشبكة يعرض الناس إرادياً وبحماس ومتعة، حياتهم الحميمة في أدق تفصيلاتها، وبقدر ما تزداد التفاصيل الشخصية، تتضاعف فرص كسب “الأصدقاء”.
ليس بمقدور أي نظام بوليسي أو دولة متطورة تكنولوجيا منافسة شبكة “الفيس بوك” في قاعدة بياناتها الفسيحة والمفتوحة.
صحيح أن هذه البيانات قابلة للتوظيف أمنياً وتجارياً (فالشخص المعروض هو أيضاً بضاعة مروجة)، بيد أن منطق “الفيس بوك” ليس سياسياً ولا اقتصادياً، بل ينحصر في خلق فضاء اجتماعي مفتوح يعزز وهم القرية الافتراضية المندمجة.
رابعاً: أضعفت شبكة “الفيس بوك” الفاعلية الاجتماعية الحية، بما ولدته من وهم التأثير عبر المشاركة في المجال الافتراضي. لم تتغير القيم الأيديولوجية على عكس ما يُقال، ولم تتراجع أخلاقيات الالتزام، وإنما تبدلت أرضيتها التي انتقلت من المجال العمومي المرئي (الشارع والساحات والمنشآت العامة ) إلى ميدان الإنترنت وساحاته ومنتدياته ومجموعاته المنظمة.
في بعض الأحيان، يكون لهذا النمط من الالتزام مردود عملي، كما هو شأن التضامن مع ضحايا النكبات والكوارث بواسطة التبرع المالي السريع عن طريق الحسابات الإلكترونية، كما أن التأثير الإعلامي لـ”الفيس بوك” يغدو في بعض الحالات ملموس الأثر سياسياً. إلا إن ما نشهده في الواقع هو بروز نمط من “المؤسسات ما بعد تاريخية” حسب عبارة “بول فيرليو” على أنقاض المدينة وهياكلها الديمقراطية (المؤسسات التمثيلية).
تحولت الشبكة الشبابية الصغيرة التي أسسها عام 2004 طلبة جامعة “هارفارد” إلى إمبراطورية افتراضية مخوفة وغنية (برأسمال يقدر بثلاثين مليار دولار). منعت الشبكة في الصين وإيران وفيتنام، وتعرضت للقرصنة والمتابعة في مناح عديدة، بيد أنها استطاعت أن تستقطب جمهوراً عريضاً متزايداً وجد فيها الملجأ من انعزالية قاتلة. وكل عام وأنتم بخير.
الاتحاد