صفحات أخرى

مقاهٍ ثقافية بحلة جديدة في سوريا

نغم ناصر-اللاذقية
قصيدة نثر، ناي، جدل بيزنطي.. هي أسماء لمقاهٍ ثقافية بات انتشارها يشكل ظاهرة في مدينة اللاذقية السورية، فتلك المقاهي التي تختلف أسماؤها وتتشابه في ملامحها، تصل إليها غالبا عبر الأزقة لترى مكانا صغيرا يضم مكتبة وتزين جدرانه صور لأعلام في الفن والثقافة العالميين، وتسمع فيه صوت فيروز أو موسيقى منتقاة تشكل عنوانا ثقافيا للمكان.
لكن عودة المقاهي الثقافية في سوريا خلال السنوات الماضية أثار جدلا حول طبيعة هذه الأماكن وأسباب انتشارها، بعدما تراجع دورها بسبب “حظر أمني” كما يعزوه البعض، فالمقاهي التي تألقت في ستينيات القرن الماضي بدمشق واحتضنت كبار المثقفين، لا يزال بعضها شاهدا على إبداع روادها كمقهى “البرازيل” -“الهافانا” حاليا- وفيها تعارف نزار قباني ومحمد الماغوط.
لكن اللافت في مقاهي اليوم أنها رغم إقامتها لمختلف النشاطات الثقافية (معارض فنية وحفلات توقيع للكتب وأمسيات موسيقية)، تبقى كتبها في الأيام المعتادة غالبا في مكانها على الرف رغم أنها في متناول من يرتادون المكان.
يدرك رامي غدير صاحب مقهى “قصيدة نثر” أن عدد من يرتادون محله للقراءة “يكاد يكون محدودا” وأن هذه الشريحة هي النموذج المعتاد للمثقفين، لكنه يؤمن بأن إيجابية المكان تكمن في مقدار عطائه لمدينة اللاذقية ويقول إن ذلك يتحقق “عندما أجعل من المقهى منبرا لقاص أو لشاعر مبتدئ”.
يحلو لغدير تعريف مقهاه -الذي افتتح منذ أربع سنوات- بأنه مساحة صغيرة من الحرية وحالة تواصل إنساني لا أقل ولا أكثر، فهو “هامش الحرية لطفلة صغيرة تنتظر خروج والدتها لتلعب بأغراضها وترتدي ملابسها وتستخدم مكياجها”، ويقول عن مقهاه الذي يعتبره مشروعا ثقافيا غير ربحي “بل إنني مدين بمبلغ قدره مليون ليرة سورية لتسييره”.
يضيف غدير الذي يذكر كيف تناول الفكرة أول مرة مازحا مع صديق، لتتحول إلى مغامرة انطلقت حسب قوله بميزانية شبه معدومة.
يهتم “قصيدة نثر” بالكلمة بالدرجة الأولى، ويقيم حفلات توقيع كتب وورش عمل مجانية، إحداها كانت عن كتابة السيناريو قدمها الكاتب خالد خليفة الذي يرى انتشار المقاهي الثقافية في اللاذقية “ظاهرة صحية هامة جدا، لا سيما أن الثقافة السورية في أسوأ حالاتها فلا مسارح ولا سينما”.
ويشكر خليفة أصحاب تلك المقاهي لأنهم يقومون بواجبات تخلت عنها وزارة الثقافة حسب قوله، وهو لا يرى مشكلة في الهدف الذي أطلقت من أجله لأن “لا ثقافة بدون مال، وعلينا أن نتحرر في العالم العربي من حظر ارتباط المشاريع الثقافية بالربح المادي”.
ويؤيد هذا الرأي أنس إسماعيل صاحب مقهى “ناي آرت” الذي يعنى بالثقافة البصرية، ويرى أن التعود على مجانية الثقافة خطأ شائع، لذا فهو يؤيد الربح إذا استُثمر الإقبال في شكل معارض مجانية.
“المقاهي الثقافية مؤسسة ثقافية بلباس مقهى يقوم بعمل تطوعي في كافة المجالات”.. هكذا يحلو له وصف هذه الأمكنة التي يرى أنها كسرت المألوف، “فبدلا من ارتياد المهتمين صالات العرض الفاخرة ذهبنا نحن إلى الشارع لنقدم 42 معرضا خلال مسيرة ناي التي بدأت قبل نحو ثلاث سنوات”، وهو ما عجزت عنه صالات العرض المحلية والعربية المتخصصة حسب تعبيره.
على امتداد جدران حائط الزقاق المؤدي إلى مقهى ناي وهو مكان اختاره لأنه “أكثر تلك الأماكن دفئا ويخلق الحميمية”، يقيم إسماعيل المعارض ويعلق لوحات فنية لمختلف الفنانين السوريين وللموهوبين.
حميمية المكان يهدف غدير أيضا لتأمينها في مقهى “قصيدة نثر” فيقول “نقوم بتصوير الرواد وتعليق صورهم على جدران المقهى وربط ذاكرتهم بالمكان، حيث نمنحهم الحرية في إعداد مشروباتهم الخاصة، إضافة إلى المشاركة في اختيار ملفاتنا كحال ملف الشاعرات العربيات التي زينت الجدران بقصائدهن، ونتواصل أيضا مع عشاق الثقافة عبر الفيس بوك حيث وصلتنا مشاركات من مختلف الدول العربية، لكن البعض يرى نفسه بعيدا عن أجواء تلك المقاهي ويقول إن مرتادي هذه الأمكنة “مستثقفون لا مثقفون”.
يقول الصحفي خالد الاختيار إن هذه المشاريع باتت موضة نوعا ما، “لكنني لست قادرا على إطلاق حكمي، فالتقييم النهائي ما زال باكرا لأنها لا تزال في الفترة التجريبية”.
ومع ذلك يجد الاختيار في هذه الأماكن جمالية تكتسبها من كونها “تؤهل الناس للحوار وتعلم آدابه، لأننا ما زلنا بحاجة إلى الوقت لنتعلم كيفية الاختلاف في الرأي دون أن يكره بعضنا الآخر”.
المدينة التي صدرت الأبجدية الأولى إلى العالم عبر حضارة أوغاريت -يقول إسماعيل- تقدم المقاهي الثقافية اليوم، لكن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي، فيجب أن يقدم صاحب المقهى الثقافية مشروعا مدروسا يحقق فيه نتاجا ثقافيا، وإلا فإن الزمن كفيل بغربلة الفقاعات التي تحسب على هذه المقاهي الثقافية التي يأمل أن تصدر قوانين تنظمها.
مشاريع مستقبلية
أما غدير فيحتاج إلى الوقت والتمويل ليرى مشروعه المستقبلي “1.1” النور، وتلك نسبة طباعة الكتب في الوطن العربي قياسا بالعالم.
وهدف هذا المشروع طباعة وتوزيع الكتب لأصحاب منجزات أدبية يستحقون الفرص على حسابه الخاص، وما ينتج عن ذلك سيستثمر مجددا لطباعة وتوزيع كتب جديدة.
فيما يتعلق بدعم وزارة الثقافة يقول غدير إنها لا تدعم هذه المشاريع، وإن وجد دعم فيجب أن يتوافق مع الحد الأدنى لتطلعاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى