الصرخة الأخيرة في وجه الظلم
غازي دحمان
هل خطر في بال ابن مدينة (بوزيد) التونسية، وهو يحرق جسده، أنه بفعلته هذه يقدم إجابة كبيرة ومختصرة في نفس الآن، على سؤال عربي ظل معلقًا منذ فجر استقلال الدولة العربية، وهو كيف يمكن الخلاص من الاستبداد والقهر والظلم وعدم العدالة، الصفات التي باتت السمة الأبرز للدولة العربية؟
ربما لم يكن ذلك الشاب المنكوب في عربة بضاعته، يعنيه كثيرًا البحث عن إجابات لأسئلة كبرى طالما أرقت بال المشتغلين في السياسة لعقود طويلة، فهو مثل ملايين الشباب العرب الذين تشغلهم همومهم اليومية كالبحث عن العمل وتحسين مستواهم المعيشي، وهم يفعلون ذلك تحت ضغط العمر الذي يتقدم والخبرات الجامعية التي تتراجع واليأس الزاحف على ما تبقى من الأحلام الجميلة التي تكونت عن المستقبل الواعد والأوطان التي ستبنيها سواعد وعقول أولئك الشباب.
في كل الأحوال فإن ابن مدينة بوزيد، الذي لم يحتج إلى منابر يعبر فيها عن رأيه ويقدم نظريات في كيفية الخلاص من حزمة الأمراض العربية، ولا إلى أحزاب تبلور له فكره وتنظم فعله، استطاع في لحظة عاصفة أن يجترح طريق الخلاص العربي: أحرق جسدك فتضع الآخرين ( حكامًا ومحكومين) أمام حالة رعب، حيث إن الحاكم سيجد نفسه أمام حالة تخريج من تحت سقف عبوديته دون أن يشرف على تنظيمها وتوقيتها وإخراجها، وحيث إن المحكوم الذي ظل يمني النفس بغد أفضل سيأتي، حتى لو لم يكن يعرف كيف سيتسربل إليه، برغم علمه أن الحاكم قد أغلق كافة المنافذ أمام ذلك الغد، ولم يعد يسمح إلا بغد يفصله على هواه ومقاسه، هذا المحكوم سيجد نفسه فجأة أمام واقع لا خلاص منه إلا بإفناء جسده، فهذه الأداة الوحيدة التي يستطيع من خلالها أن يوصل صوته للحاكم.
بالطبع ليست حالة إفناء الجسد، على الطريقة التي أقدم عليها بعض شباب تونس، بظاهرة جديدة على الوعي العربي، فهي تمارس منذ عقود وإن بطرق مختلفة، فالموت غرقًا في عرض البحر بحثًا عن لقمة العيش في أوروبا كان أحد تمظهرات هذه الحالة، والانتشار السريع للإدمان بين الشباب العربي أحد التجليات الراهنة لطريقة إفناء الجسد، إلا أن التطور في حالة بوزيد التونسية، رغم عفويتها، تمثل في كونها أشارت بشكل مباشر وواضح وصريح إلى جوهر القضية، وعينته بدقة: هنا تكمن المشكلة… وهذا هو الحل!
لا شك أن الظاهرة التي نحن بصددها، هي وليدة جملة من الظروف التي تواطأت على مدى عقود من الزمن، هي عمر الدولة العربية، وشكلت الحاضنة الطبيعية لتطورها واستمرارها:
أولا -أزمة الديمقراطية التي تعيشها معظم الأنظمة العربية، من خلال تقييد المشاركة السياسية وحقوق الإنسان، لأن عملية تركيز السلطة واتخاذ القرار وتنفيذه تتمثل في فئة حاكمة وضمن نموذج بطركي، كما أن أمر تداول السلطة محتكر بيد فئة حاكمة دون إعطاء المجال للجيل الجديد، إضافة إلى الانفراد بالرأي دون احترام رأي الآخرين، وهي صيغة مستمرة ودائمة في معظم الدول العربية.
ثانيا –اتباع أغلب الأنظمة العربية نمط القمع السلطوي، الموجه بالدرجة الأولى ضد حرية الآخرين، ونحو تعزيز السلطات القائمة، وذلك عبر إسكات الناس ومنعهم من المشاركة في الرأي والقرار، وتعزز ذلك من خلال ترسخ منظومة معلنة أو مضمرة من الأفكار البسيطة أو المركبة التي تسوغ استخدام الإكراه.
ثالثا –قيام الأنظمة العربية، في سياق سعيها إلى الشرعية وتأمين رضا الناس، وإلى رفع مستوى تطلعات الجماهير، دون أن يتوفر لكثير منها القدرة الاجتماعية والاقتصادية على سد حاجاتهم التي راحت تتزايد مع اتساع تطلعاتهم، والحال أن ثورة التوقعات تحولت من دافع قوي للارتقاء إلى إحساس بعدم الرضا وخيبة الأمل، الأمر الذي ساهم في انتشار التذمر واليأس لدى المواطنين.
رابعا –استمرار إيمان النخب في العالم العربي بأنها على وعي رفيع بشؤون المجتمعات العربية، في حين أن طرق التفكير الشعبية تنشأ في أحضان الثقافة السائدة، حيث لا تلعب النخب إلا دورًا هامشيًّا، وينتهي الأمر بها إلى التحدث مع نفسها، وانقطاع جسور التواصل مع الناس الذين باتوا يفتقدون لمرجعيات فكرية وثقافية.
خامسا –على وقع التطور الهائل في وسائل الاتصال، تكشف أمام المواطن في البلاد العربية أساليب متنوعة من المعيشة وصنوف الاستهلاك، وأنماط مختلفة من أشكال التعبير والنشاط السياسي، لا يمكن توفرها للكثيرين في عالمنا العربي حتى على مدى أجيال قادمة، وهو ما رسخ الإحساس ليس بالدونية تجاه الآخر فحسب، وإنما بحالة اللامبالاة واليأس تجاه الذات والمجتمع.
سادسا –تغلغل ظاهرة الفساد في أغلب الدول العربية، التي كان من نتيجتها إحداث اختلالات واضحة في البنى الاجتماعية العربية، عبر تسيد المقربين من الأنظمة والمحسوبين عليها للمشهد الطبقي (الأغنياء الجدد) المستفيدين من عملية توزيع موارد الدولة، بما فيها المناصب والمراكز والتسهيلات، مقابل التقلص الكبير في الطبقات الوسطى، وتثبيت أوضاع الطبقات الفقيرة بشكل محكم ونهائي.
لقد أدت هذه الأساليب مجتمعة، وممارستها بأسلوب ممنهج ودائم، إلى ما يسمى بظاهرة موت السياسة في البلاد العربية، عبر نزع ديناميتها المتمثلة في الحراك السياسي أولا، وهذه ربما كانت الإرهاصات الأولى لازدهار ظاهرة إفناء الجسد التي يشهدها العالم العربي اليوم.
فقد ولدت حالة الاغتراب السياسي التي يعيشها الشباب العربي خصوصًا، نمطًا موازيا من الاغتراب المجتمعي، فكما أصبحوا يشكون في العملية السياسية برمتها بما فيها أقوال ومواقف القادة السياسيين، كذلك فإن المجتمع لم يعد يعني لهم شيئًا، وخاصة في ظل حالة الاختراق والتشويه التي مارستها الأنظمة العربية تجاه مجتمعاتها.
ومن واقع هذا الإدراك تولد الاقتناع بضرورة البحث عن الخلاص الفردي، الذي مثلما لا يمكن التنبؤ والإحاطة بكافة أساليبه، فإنه لا يمكن ضبطه أو التحكم في تعبيراته، من الارتماء في حضن البحر، إلى الهرب إلى عوالم المخدرات، إلى الاحتراق بالنار والانصعاق بالكهرباء، وكلها طرق تؤدي إلى إفناء الجسد!
ثقافة إفناء الجسد، رغم قساوة تعبيراتها، تبدو الطريقة الوحيدة المتاحة والممكنة، التي يعتقد المواطن في البلاد العربية، أو يتوهم، أنه من خلالها يمكنه إيصال صوته للحاكم، والأهم من ذلك أن يعبر عن رفضه للظلم والقهر والتهميش، إنها صرخة في وجه الظلم… حتى وإن كانت الصرخة الأخيرة.