ليس رحيل بن علي فقط بل والطبقة الحاكمة أيضاً
سلامة كيلة
ما قدمه بن علي وعود كان قد أطلقها حينما انقلب على الحبيب بورقيبة سنة 1987، وبالتالي كيف يمكن للشعب أن يصدّق هذه المرة؟ كما أن من صاغ اقتصاد تونس بشكل تبعي هامشي ونهبه هم الطبقة المافياوية التي تحيط به، وبالتالي ليست المسألة هي مسألة “حريات” يمكن أن تسحب في أي وقت كما فعل بعد ثلاث سنوات من حكمه الأول، ولا مشاركة المعارضة في الحكم في إطار “حكومة وحدة” حيث تشطب في وقت قريب بعيد تحقيق الاستقرار من جديد. وأيضاً ليس من الممكن أن يتحقق تغيير حقيقي دون حل مصلحة الأمن والبوليس الذي قتل في الشوارع متظاهرين يطالبون بحقهم الطبيعي في العمل والعيش.
تونس بحاجة إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تنهي الرأسمالية المافياوية الحاكمة (وكل رأسمالية هي الآن مافياوية)، وتنهي أدوات قمعها لكي لا تحصل الردة بعد وقت ليس ببعيد. فالمسألة هي ليست مسألة أخطاء من أفراد في الممارسة الاقتصادية، ولا كان القمع الشديد طيلة السنوات الماضية هواية فرد، يسمى زين العابدين بن علي. والفساد لم يكن نزوة وانحراف فردي. كذلك إن تهميش قوى الإنتاج لمصلحة اقتصاد “عقاري” سياحي ومالي، هو في جوهره اقتصاد مافياوي، لم يكن خطأ اقتصادي من “وزير”، بل أن كل ذلك هو الشكل العياني لمصلحة الرأسمالية التابعة التي تحكم، والذي جعلها ارتباطها في الطغم الإمبريالية (الفرنسية خصوصاً، لكن الأميركية كذلك) تتوضّع كمافيات تنهب وتهيئ لنهب تلك الطغم الإمبريالية.
إنها مسألة طبقة مافياوية لا تستطيع أن تحكم إلا عبر سلطة دكتاتورية بوليسية، لأنها وهي تمارس النهب تفقر كل الشعب، كما أوضحته الانتفاضة المجيدة. ولهذا ليس تغيير الرئيس هو الذي يغير الوضع، ويحل مشكلات الطبقات الشعبية، بل أن رحيل الطبقة المافياوية هو الذي يجب أن يفتح على سياسة اقتصادية تخدم مصلحة هذه الطبقات. وهذا لا يتحقق بتغيير شكلي في السلطة، ولا الانتقال إلى انتخابات تعيد إنتاج الطبقة ذاتها، وإن تخلصت من بعض أفرادها من محيط الرئيس الهارب، لكنها تنتج مافيات جديدة تحيط برئيس جديد. إن استمرار الرأسمالية كنمط اقتصادي لن يفضي إلا إلى توهم تغيير سوف يتوضح بأنه وهم.
بالتالي لا تتعلق المسألة بتغيير في شكل السلطة لكي تكون “ديمقراطية”، ولا في مشاركة المعارضة في حكومة لا دور لها سوى تنفيذ ما تقرره تلك المافيات التي تمسك بقوة في الأجهزة الأمنية والبوليس، والتي تفرض سياساتها عبر بيروقراطيتها في أجهزة الدولة المختلفة. بل تتعلق المسألة بتغيير الطبقة الرأسمالية من أجل تغيير كلية التكوين الاقتصادي الذي يقوم على الطابع الريعي المافياوي والذي يهمش القوى المنتجة، ويجعل البلد مشاعاً للطغم الإمبريالية، لمصلحة حكومة تمثل الطبقات الشعبية، حكومة تتمثل فيها النقابات العمالية والمهنية والأحزاب الممثلة لهذه الطبقات حصراً.
ولن يفيد أي تغيير في شكل السلطة مهما كانت “سعة” الديمقراطية التي تُعطى ما دامت الطبقة ذاتها هي التي تمسك بمفاصل الدولة. فالمشكلة هي في سلطة هذه الطبقة بالذات، وليس في شكل السلطة الدكتاتوري فقط. ليست المسألة هي مسألة الحرية فقط، ولا الديمقراطية فحسب، غنها مسألة الخيار الطبقي بالأساس، قبل هذا وذاك.
وهو الأمر الذي يفرض تشكيل حكومة تمثل هذا الخيار الجديد، وأن يكون هدفها الأول هو إعادة بناء الاقتصاد وتوفير فرص العمل، وبناء الصناعة وتطوير الزراعة، من أجل أجر أفضل وأسعار تناسب وضع الطبقات الشعبية، ودولة هي التي تؤسس لاقتصاد منتج. هذا أولوية تدفع لأن يلعب اليسار الدور المركزي الآن في تحديد شكل السلطة الجديد، وهو الأمر الذي يعني الدفع بالانتفاضة إلى حد تشكيل حكومة “ثورية”، خصوصاً وأن السلطة تتداعى، وكل الحلول التي تطرحها لا تحقق الأهداف التي فرضت كل هذا الاندفاع الثوري للطبقات الشعبية. الحل يتمثل في أن يتقدم اليسار بتأسيس حومة بديلة تمثل قوى المعارضة التي تمثل هذه الطبقات، لكي تعمل على تحقيق أهدافها. يجب قطع الطريق على الرأسمالية التي تحكم الآن، وكل رأسمالية. بالتالي يجب أن يكون واضحاً الطابع الشعبي للبديل المطروح من قبل قوى اليسار.
التردد الآن، والمساومة، لن يقودا سوى إلى انفراج مؤقت، مع استمرار تمكين الرأسمالية المافياوية. يجب قيادة الشعب نحو فرض حكومة مؤقتة، تعمل على التحضير لانتخابات لجمعية تأسيسية، تصيغ دستوراً جديداً يمثل الطبقات الشعبية. ويقرر نمطاً اقتصادياً منتجاً، ويخدم هذه الطبقات. ليست المشكلة في غياب الحريات فقط، ولا المسألة تتعلق في كيفية إقامة نظام ديمقراطي فحسب، المشكلة تتمثل في كيف تقود الطبقات الشعبية عملية التحوّل، وأن تصبح هي القوة الأساس في الحكومة المؤقتة، وبالتالي في الجمعية التأسيسية؟ هذا ما يجب أن يحكم التكتيك الآن، الآن، في هذه اللحظة التي تشهد عملية تغيير ثوري.
الدكتاتور سقط، يجب أن تسقط الطبقة التي كان يمثلها.
الديمقراطية ضرورة، لكن يجب أن تنتصر القوى التي تؤسس لنمط اقتصادي بديل.
يجب أن يتلاحم تحالف العمال والفلاحين الفقراء. أن يتعزز دور نقابات العمال. أن تتشكل اللجان الفلاحية، ولجان المعطلين عن العمل، والطلاب. أن يجري كسب قطاعات الجيش. وأن يعزل البوليس والأمن.
الانتفاضة يجب أن تتأطر الآن. ويجب أن يكون واضحاً أنها هي التي يجب أن تفرض الحكومة التي تدير الأمور في المرحلة الانتقالية. لا يجب التردد في هذا الأمر لكي لا تقفز الرأسمالية عبر لفت النظر عن القضايا الأساسية تحت حجة الديمقراطية.
لهذا على القوى الماركسية أن تتقدم لتشكيل هذه الأطر. أن تتوافق على ذلك، أن تتحد من أجل انتصار أعمق، يمكن أن يكون خطوة على طريق تشكيل حكومة العمال والفلاحين الفقراء. يجب أن يتشكل حزبها في خضم هذا الصراع الحقيقي، يجب أن يصبح واضحاً أنها تهدف إلى التغيير الثوري، وأن كل خلافاتها سوف تكون مجال نقاش فيما بعد. فالقضية النظرية الأهم الآن هي كيف يجري تغيير السلطة لمصلحة الطبقات الشعبية؟ وهو حل عملي.