عن ضرورة تجاوز النظام الطائفي في لبنان
سليمان تقي الدين
الطائفية في لبنان ظاهرة تاريخية عميقة الجذور ترقى إلى أكثر من قرن ونصف القرن وقد لازمت الاجتماع السياسي اللبناني المتعدد الطوائف . لقد تشكّل الكيان اللبناني أصلاً من تجاور تكتلات طائفية .
والطائفية ظاهرة ذات مضاعفات اجتماعية وثقافية، بمعنى أنها تؤثر في العلاقات الاجتماعية على نحو واضح وليست هي مجرد ظاهرة أو تعبير إيديولوجي عن نشاط اجتماعي . ويمكن رصد هذه المضاعفات الاجتماعية في مختلف نواحي حياتنا الوطنية ما يؤدي إلى بلورة أنساق معينة مختلفة من القيم والمفاهيم الثقافية لدى فئات اجتماعية أو شرائح وازنة .
والطائفية بتعبير موجز عصبية في الجماعات الدينية والمذهبية تؤدي إلى تكتيل هذه الجماعات وتمركزها حول نفسها، بحيث تتصرف على أنها مستقلة عن سواها من حيث مصالحها وطموحاتها وتطلعاتها في داخل الكيان اللبناني وخارجه، وهي تخفض إلى أبعد الحدود ما هو مشترك وطني وإنساني . تتغذى هذه العصبية من الإرث التاريخي للانقسام اللبناني بحيث يبدو أن النزاع الطائفي هو قانون الصراع السياسي شبه الوحيد أو الأساسي .
لكن الأخطر من ذلك كله، أن الطائفية هي قاعدة نظام الاجتماع السياسي وهي ترسي شروطاً صلبة لمجمل الحياة السياسية . فالحقوق والواجبات بين اللبنانيين ذات مصادر طائفية، والنشاط السياسي محكوم إلى حد بعيد، أقله في أيامنا الراهنة بالمصالح الطائفية .
وهذا النظام الطائفي يعيد فرز الجماعات ويحدد لكل منها مرتبة ودوراً ووظيفة ويملي عليها إلى حد بعيد لوناً ثابتاً من الخيارات والعلاقات .
هذا التوصيف الاختزالي المكثف يبين بما لا يقبل الجدل أن الطائفية ليست عرضاً من أعراض الاجتماع اللبناني أو ظاهرة جزئية أو جانبية فيه كما أنها ليست بعداً وحيداً من هذه البنية الكليّة .
إذن يمكن القول تلخيصاً لما سبق أن الطائفية ظاهرة عصبية تاريخية اجتماعية ثقافية سياسية شاملة .
والسؤال البديهي المطروح هو ما إذا كانت الطائفية على نحو ما أوجزناه ظاهرة ملازمة للاجتماع اللبناني وتشكل ضرورة أو حتمية لوجوده، وأن الشكوى منها يجب أن تنحصر في بعض تجلياتها أو بعض نواحيها، والسعي بالتالي إلى ما يمكن تسميته “الطائفية العادلة” . أم أن المسألة تتعدى ذلك إلى وجوب تجاوز الحال الطائفية كشرط لبناء ديمقراطية المواطنية الخالصة؟
إن الجواب عن هذا السؤال لا يمكن أن يكون افتراضاً نظرياً، لأن معاناة اللبنانيين من الانقسام الطائفي هائلة ومريرة، ولأن محاولات تصحيح الخلل في النظام الطائفي على نحو يُرضي كافة المجموعات ويطمئنها على حقوقها قد آلت إلى تقوية الشعور الطائفي لدى فئات متزايدة من اللبنانيين . وقد أعاق ذلك ولا يزال تطوير فشل محاولات المجتمع اللبناني في اتجاهات ديمقراطية حقيقية .
لكن دعاة الحفاظ على النظام الطائفي وتحسينه أو إصلاحه يملكون بعض الشرعية والمشروعية إزاء تجربة الحركة الوطنية والديمقراطية اللبنانية خصوصاً في فترة الحرب، الأمر الذي انتهى بنا إلى نزاع طائفي مكشوف وإلى انهيار معسكر القوى اللاطائفية وعجزها عن التأثير في مجريات الأوضاع .
فهل كانت تجربة الحرب دليلاً جديداً على المأزق الطائفي المحتوم للنزاع اللبناني، أم أن هناك شروطاً افتقدها المشروع اللاطائفي وأن بإلامكان محاولة توفيرها لإعادة طرح مسألة تجاوز النظام الطائفي على جدول الأعمال؟
والحقيقة كما أراها الآن، هي أن ملابسات المسألة القومية كما طرحت نفسها في لبنان خلال الحرب، أي تلك الخشية من اختلال التوازنات الطائفية والطغيان الطائفي بفعل التأثير الإقليمي المحيط في لبنان، قد لعبت دوراً حاسماً في إحباط المشروط الديمقراطي الذي كان يتقدم بقوة داخل فئات وشرائح المجتمع اللبناني على اختلاف ألوانها الطائفية . ولعل هذا النوع من المعوقات والعقبات لا يزال موجوداً، بل لقد تفاقم بعد الحرب وانضمت إليه جملة أسباب تدعونا للتحفظ على إمكان تصور قريب لتجاوز النظام الطائفي .
إن نظام المحاصصة المعمول به الآن، رغم مشكلاته اليومية المنظورة من اللبنانيين، هو نظام يملك قاعدة شعبية تكونت بفعل التسوية السياسية التي أوقفت الحرب، تلك التسوية التي انعقدت بين قوى الحرب نفسها، وملاحق من المصالح المالية والاقتصادية المحلية والإقليمية . فالقوى الطائفية التي تسيطر داخل النظام القائم توظف إرثها السياسي الحربي في تأكيد شرعية النظام وتمثيله لمصالح الدوائر الاجتماعية التي تمثلها .
وفي نظرة واقعية اليوم إلى حال البلاد يبدو متعذراً إعادة إنتاج خطاب لا طائفي فاعل ومؤثر وقادر على التأطير والتكتيل لقوى وازنة تفيض مصالحها حقيقة عن قيود النظام الطائفي . ولعل تمزّق النسيج الاجتماعي الوطني في الحرب قد ترك شوكته المسمومة حتى الآن في تطور البلاد فتعذر رغم وقف الحرب استعادة منطق توحيدي وطني في ميادين ومجالات واسعة .
واضح اليوم أن أصحاب الصوت المسموع الذين يطرحون شعار إلغاء الطائفية، هم أصحاب مواقع طائفية راسخة ويهدفون إلى المناورة والتهديد بخطر اندلاع الطائفية وانفلاتها من عقالها وإباحة منطق هيمنة العديد الطائفي على الحياة السياسية . ومن المنطقي أن يقابل هؤلاء برد فعل يتمسك بالمعادلات القائمة باعتبارها تؤمّن حداً أدنى من ضمانات المشاركة بين المجموعات اللبنانية .
وأخشى ما نخشاه هو أن نُسقط بعض الرغبة الذاتية القوية في صفوف بعض النخب الهامشية على الواقع الوطني ونزعم بإمكان حل مبسّط لهذه المعضلة الوطنية التاريخية .
إن مراجعة سريعة لواقع لبنان بعد الطائف تظهر على نحو صريح أن المذاهب طورت خلال الحرب مقومات صلبة لدويلات داخل الدولة فاستكملت ما كان ينقصها قبل الحرب، وزادت في تعميق التواصل السياسي الاجتماعي الطائفي بحيث من السهل اليوم على الجماعات السياسية الطائفية استكمال جهازها السلطوي بالمرافق الاجتماعية والخدماتية (مدارس جامعات مرافق صحية مرافق إعلامية هيئات وشبكات أمن اجتماعي بالإضافة إلى حزب الطائفة وجهازها العدلي والأمني) . وتراجعت إلى حد بعيد مجالات الاختلاط والعيش المشترك رغم كثرة الخطابات حوله . بل إن الفرز السكاني يزداد استقراراً وثباتاً بفعل السياسات التنموية التي اعتمدت بعد الحرب وهي سياسات اقتصادية واجتماعية تستعيد كل موروثات النظام القديم ومشكلاته، لا سيما مركزيته الشديدة .
وإذا كان ذلك كله قد ترافق مع سياسة منظمة قام بها فريق السلطة للتضييق على الممارسة الديمقراطية، وفي ظل انهيار مريع للقوى والمنظمات الديمقراطية التشكيل والطابع والمصالح تكونت لدينا سلسلة ثقيلة من الحلقات التي تسد آفاق العمل الديمقراطي .
إزاء هذه الصورة القاتمة لا نستنتج أبداً أن الأمور قد استقرت على هذا النحو وأن لا مخرج من هذا المأزق . لأن جزءاً متعاظماً من اللبنانيين سوف يدرك تدريجاً أن الطائفية نظام يستحيل أن يؤمن الاستقرار السياسي والاجتماعي على المدى البعيد، وأن المعادلات أو التوازنات التي تبدو قوية اليوم تهتزّ مع كل ظهور لمتغيّر سياسي أو اجتماعي وفي الحال اللبنانية، مع كل متغيّر إقليمي . ولا نملك في ضوء التجربة، إلا أن نقترح على اللبنانيين حلاً لا طائفياً . من هنا مشروعية البحث في شروط تجاوز النظام الطائفي . وقد كانت تسوية الطائف واقعية بإقرارها مبدأ دستورياً يقول بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية والتي يفترض بها وضع الخطط والتوجهات لهذا الإلغاء . ولعل أبرز مطلب ديمقراطي يجب أن نرفعه هو التمسك بتشكيل هذه الهيئة للحفاظ على الروح الوطنية التوحيدية وعلى التوجه الوطني لإلغاء الطائفية مثلما هو الحال أيضاً مع كل الإصلاحات التي أقرها الطائف . وإذا كان ثمة عناوين برنامجية نقترحها لبلورة هذا المشروع الوطني فهي:
تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية بحيث تتمثل فيها الشخصيات الوطنية المشهود لها بالنزاهة والاستقلالية والحياد واللاطائفية .
تجسيد النظام الديمقراطي وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات من خلال بلورة نظام خاص بمجلس الوزراء واستكمال المؤسسات الدستورية بتحقيق السلطة القضائية المستقلة لما لدورها من أثر حاسم في عمل السلطات الأخرى ومن وظيفة خطيرة في بناء دولة القانون .
إقرار نظام انتخابي تكون وظيفته الأساسية تأمين صحة التمثيل لمختلف فئات الشعب وبالتالي وجوب انفتاحه على طريقة التمثيل النسبي تأميناً للمشاركة الديمقراطية الواسعة .
إطلاق الحريات الديمقراطية ولا سيما حرية تأليف الجمعيات والأحزاب الأمر الذي يساعد على تنمية التمثيل السياسي الديمقراطي وتضييق أطر التمثيل الطائفي .
إعادة النظرة الشاملة بالنظام التربوي والتعليمي لتركيزه مجدداً على أسس وأهداف وطنية توحيدية وتعزيز كل مقومات الثقافة الوطنية والديمقراطية .
مراجعة كل السياسات الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية المتوازنة كما نص على ذلك اتفاق الطائف ومقاومة هذا الجنوح الخطير للسياسات الاحتكارية والتمركزية الراهنة تأميناً لتعزيز الولاء الوطني واندماج المناطق في نظام الدولة .
تحقيق اللامركزية الإدارية كهدف إصلاحي أساسي للإدارة وكهدف ديمقراطي شعبي يؤمن الممارسة الديمقراطية والمشاركة الشعبية .
إزالة كل الحصانات السياسية الحامية لفساد الحياة السياسية كمدخل لرفع الحصانة على الفساد الإداري، وإطلاق يد القضاء في المحاسبة على جميع المستويات .
رسم سياسة وطنية متعددة الوجوه والاتجاهات لمكافحة الدعاية والثقافة والممارسة الطائفية .
الخليج