التفاوض السوري الإسرائيليموفق نيربية

إذا هبّت رياحك…من إسطنبول

null

موفق نيربية

في تواقت ممتاز مع اتّفاق الدوحة، تمّ الإعلان في دمشق والقدس واسطنبول «رسمياً» عن المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل بوساطة ورعاية تركية. وحرص السيد أردوغان رئيس الوزراء التركي على حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية بعد ذلك بثلاثة أيام، ليبدو وكأنه من عرّابي الاتفاق الحقيقيين. إضافة إلى ذلك، بدا كأن الحكومة السورية حريصة أيضاً على أن يُصرّح كلّ من رئيس وزراء قطر وأمين عام الجامعة العربية في دمشق في اليوم التالي للانتخاب، بما مضمونه شكر سورية على الإسهام في تحقيق الاتفاق وتسهيله.

وفوجئ الكثيرون في المنطقة، ومن السوريين أيضاً، بهذين الخبرين اللذين هلاّ معاً. كان أحدهماً مفرحاً بالتأكيد، وثانيهما مدهشاً على الأقل، وباعثاً على البحث والتحليل والأسئلة الخجولة التي تبحث عن أجوبة، أو احتمالات في إهاب أجوبة.

للمراقب القريب، أصبح من المؤكّد أن هنالك تغييراً في الموقف «القومي» للشارع السوري نسبياً. هذا الشارع الذي كان يحوقل ويتعوّذ عند أيّ حديث عن التفاوض بل التسوية بل السلام. ولا يتحمّس إلاّ لحديث المقاومة والسلاح والتحرير الشامل واستعادة الحقوق العربية التاريخية من دون شائبة، ولو اقتضى ذلك الخوض في بحر من الدم لا ضفاف له، حتى يعود كليب إلى الحياة.

في الظروف الاقتصادية الاجتماعية السياسية المستدامة، بقي كثيرون على هذا العهد الصافي، وهم مثار إعجاب في جميع الأوساط المحرومة إلاّ من أحلامها المشروعة. لكن هنالك كثيرين آخرين امتصّت الأيام الصعبة المتكررة حرارة فكرهم وطموحاتهم، وأصبحوا أكثر تفهّماً لضرورة السلام الذي يرون الآفاق التي يفتحها في كلّ العالم.

بل إن هؤلاء لمسوا ما أصبح بديهياً مع انفتاح الفضاء الإعلامي والمعرفي، وأدركوا أن استعادة الحقوق الوطنية ممكنة من دون تجميد الحالة السياسية الاجتماعية الاقتصادية المذكورة لعشرات السنين، يخسرون فيها أكثر مما خسروا أساساً بمرات، في حقول التنمية والحرية والتقدّم عموماً.

ما يحدث لهم أخيراً، هو انكشاف مفاهيم المقاومة والممانعة والوطنية والقومية مرة ومرتين وثلاثاً، من خارج بلادهم وداخلها. ما يحدث لهم هو استمرار حالتهم بين حجري الرحى، واستمرار تحكّم اليد الوحيدة المستبدّة بذراع الحجر وحركته. وأسوأ استغلال في التاريخ وأقساه هو تأبيد حالتهم باسم المسألة الوطنية أو القومية.

«توهين الأمة» و«الاستقواء بالخارج» هما الاتهامان اللذان يعتقل باسمهما قادة المعارضة الديمقراطية ونشطاء حقوق الإنسان في سورية. وحرب التخوين المعادل للتكفير هي «إيديولوجيا» تبرير الحملات الأمنية المستمرة.

لن يثمر التفاوض تسوية غالباً، وقد يكون مجرد منجاة وتقطيع وقت للطرفين، وها هي معركة الشروط ابتدأت، فأولمرت يحاول بلطف «كاذباً بلطف أيضاً» أن ينفي أيّ تعهد بالانسحاب، وافتتاحية «تشرين» تقول باللطف نفسه إن «الشروط هي النتائج وليست المقدمات»، التي قد تعني «اصبروا علينا قليلاً».

وعلى أي حال، هذا ليس منوط الحديث هنا، لا ينبغي أن نلجأ إلى خندق التخوين، فذلك هو الطريق السهل المبتذل، والاتّجاه إلى استعادة الحقوق السورية من خلال التفاوض ليس عاراً، بل واجباً على السلطة أداؤه، حين ينفتح طريق الحقوق المشروعة.

لكن هنالك ملاحظات ضرورية:

أولاها أن المسائل الوطنية الكبيرة لا يمكن مواجهتها من قبل سلطة في مثل هذا الوضع من دون مشاركة الشعب بقواه المختلفة وأصواته «في الرأي والتعبير أو في صناديق الاقتراع». والحدّ الأدنى المطلوب هو رفع حالة الطوارئ الأبدية والإفراج عن معتقلي الرأي والضمير والسجناء السياسيين وإطلاق الحريات العامة. ثمّ التأمّل في إطلاق الحوار الشامل والمتكافئ من أجل تحصين البلاد في كل اتجاهاتها الذاهبة إليها.

وثانيتها ألا تكون النافذة المفتوحة باباً ينغلق أمام الفلسطينيين، فالإسرائيليون والأميركيون يلعبون لعبة المسارات المتعارضة، بتناقض نسبي بينهما أو توافق، في حين لا نستطيع أن نلعبها من دون أن نخسر. هنا ينبغي التناغم مع العملية السلمية الوطنية الفلسطينية، وليس التطابق بالضرورة مع النسق الرسمي القائم هناك، ولا ذلك الآخر المأخوذ بالسلاح إلى حدود الصراع الداخلي فالعبث.

وثالثتها متابعة ما ظهرت بشائره في لبنان، من حيث تسهيل التسوية والكفّ عن ممارسة الوصاية وتشجيع العملية السياسية خارج عقلية المغامرة والفرقة ومشاريع الآخرين.

مثل ذلك المردود لا بدّ من تعميمه إلى داخل سورية. ولا يحسبنّ أحد أن هذا «التعميم» غائب عن «الشروط» فلا ضرورة له، لأن هذا الشرط موضوعي مهما كانت نتيجة الانتخابات الأميركية، وسواء جاء ساركوزي إلى دمشق أو ذهبنا إليه… وحتى لو ابتسم الجميع للنظام في الصور التذكارية القادمة. الأهم أنه شرط داخلي عميق، أو ظرف لازم.

* كاتب سوري


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى