انتفاضة تونس: المقارنات الممكنة … وغير الممكنة
بقلم ج. ز.
بالنسبة لنا في المشرق، من مصر الى العراق مرورا بلبنان وبلدان أخرى، كما بالنسبة لـ”المجتمعات السياسية” العربية – او من أصول عربية ومغاربية – الموجودة بحيوية في عواصم كباريس وبروكسيل وروما وأمستردام ومدريد ولندن، كذلك واشنطن ونيويورك وغيرهما من “العواصم” الاميركية الشمالية، لا يبدأ من الآن فصاعدا طرح الاسئلة الصعبة التي يفرضها منطق المقارنة مع الوضع التونسي أو عدم جواز المقارنة… فحسب، انما ايضا يبدأ طرح الاسئلة على كيفية الاجابات التونسية الداخلية على الحدث المدهش الذي صنعه التونسيون.
لا شك، ورغم الضحايا، ضحايا القمع قبل سقوط الرئيس بن علي وضحايا الشغب والفلتان بعد سقوطه، قام التونسيون بانتفاضة يمكن ان تكون ثورة “نظيفة”… أحداث صاخبة لبضعة أيام تنتهي بتغيير رئيس النظام… وتعود الامور سريعا الى الانضباط الأمني بعد أن يكون البلد – والنظام السياسي – قد انفتح على تغييرات مستقبلية جوهرية لا رجوع عنها حتما.
إذا بقيت الامور ضمن هذا السيناريو السلمي… سيزداد ألق هذه الانتفاضة وستتحول الى نموذج ناجح لممارسة التغيير، وهذا ما تبدو ملامحه جارية حتى الآن مما يؤكد أن هذا المجتمع التونسي موحد كمجتمع، وهذه عقدة نقص في المشرق حيث العديد من المجتمعات غير موحدة في مشاعرها الكيانية، مثلما ظهر الوضع مع الأسف في العراق بعد تغيير عام 2003، فتحول الخلاص من ديكتاتورية غير عادية الى تفتت وتقاتل بين المكونات الطائفية للمجتمع التي انكشفت عن رؤية طائفية للكيان العراقي. بينما الديكتاتورية التونسية، التي هي ديكتاتورية عادية مقارنة بإرث التوحش الصدّامي، سقطت فيما دخل المجتمع موحدا في البحث عن آليات دمقرطة سياسية وتوزيع أكثر عدلا للثروة الوطنية من ضمنه بل على رأسه مواجهة الفساد الكبير. هناك فارق أساسي عن العراق، أن التغيير العراقي صنعه التدخل الخارجي ولم يكن ممكنا ان يصنعه التغيير الداخلي، بينما العكس تماما في تونس، ومن هنا قوة النموذج الاخير. إن النضج الراهن الذي يرشح، ونرجو ان يثبت في تونس، هو في وحدة المجتمع السلمية. بينما هناك أولوية حقيقية وعميقة في المشرق هي أولوية منع الحرب الاهلية وانهيار البلد اذا سقط النظام. وهي أولوية مشروعة. حتى مصر، التي كانت تقليديا ولا تزال دولة ذات عمق داخلي موحد وراسخ، مما يتيح التغيير الداخلي لا الخارجي، هي الآن تحت وطأة تجربة من نوع جديد: تقدم الانقسام الطائفي على الانقسام الاجتماعي – الاقتصادي. هل حصل هذا التحول والى أي حد وهل يمكن لمصر المجتمع والدولة أن “تتلبنن” بهذا المعنى أم ان المشكلة الطائفية في مصر هي مشكلة موازية وليست الرئيسية على أهميتها الخطيرة؟
لهذا وفي مجال الاسئلة الصعبة – ولكن المتفائلة – يبرز هذا السؤال: هل يحتمل على ضوء “سلمية” نموذجها وفعاليته في التغيير السريع ان تتحول تونس الى نوع من “تركيا مصغرة” من حيث قيام وضع يصبح فيه الجيش لفترة طويلة قوة خلفية لضبط التوازنات السياسية وجعلها لا تهدد الأمن العام، قوة تحظى بالاجماع الوطني – كما يحصل – في حين يلتئم نظام سياسي ديموقراطي او منفتح على مدى ديموقراطي؟ تركيا الحالية تحاول تخطي مرحلة الدور السياسي المباشر للجيش، لكن ربما تحتاج تونس الى “نمط تركي” يعتمد غير مباشرة على الجيش (ضد المخابرات كما يرفعون الشعارات حاليا في المدن التونسية او ما يسمونه “الأمن”)… ويستطيع هذا النموذج ان يستكمل المستوى التحديثي القائم في عدد من المجالات الاقتصادية التونسية؟ وهذا يوصلنا الى السؤال الصعب الجديد:
هل الذي سمح للطبقة الوسطى التونسية بقيادة حوالى ثلاثماية الف عاطل عن العمل من خريجي الجامعات ان تقوم بالثورة – ولو شارك في بعض مظاهرها الفقراء المعدمون – هو ان التحديث في المجتمع التونسي وبقيادة النظام السابق كان قد قطع شوطا مهما في توسيع الطبقة الوسطى – وليس في تضييقها – رغم أرقام البطالة الضخمة ومظاهر الفساد العائلية الفاضحة؟
في الكتاب الاستشرافي الذي نشرت “قضايا النهار” مراجعته، لفت نظري خلال اعادة قراءتي له في نهاية الاسبوع المنصرم، وهو كتاب نيقولا بو وكاترين غراسييه: “الوصية على قرطاج” ان النظام السابق كان يفاخر بأن الطبقة الوسطى تبلغ ثمانين بالماية من مجموع الشعب التونسي. فيرد الكاتبان بمرجعية دراسة للبنك الدولي تتحدث عن 47 الى 48 بالماية باعتبارها نسبة الطبقة الوسطى من مجموع الشعب.
وهذا الرقم (47 – 48 بالماية) ليس رقما سلبيا على أي حال. أي أن الطبقة الوسطى تمثل نصف البيئة الاجتماعية تقريبا، بهذا المعنى رقم كهذا الرقم يعني ان المجتمع – عبر طبقته الوسطى الواسعة نسبيا – يستطيع أن يمارس حيوية سياسية عالية تجسدت مؤخرا في الانتفاضة الناجحة، ولكنها ايضا تتجسد تقليديا في استمرار أشكال مختلفة من الممانعات. لهذا السؤال الصعب هنا: هل سقط رأس النظام نتيجة ضعف الطبقة الوسطى أم نتيجة قوتها؟ والمؤشرات بهذا المعنى تشير الى القوة لا إلى الضعف؟ وهذه نقطة اذا صحت تفرض تأملات عميقة في مسلماتنا السياسية.
وفي هذا المجال ربما يجوز لي ان أعود الى ما قرأناه عن التمرّد الذي شهدته منطقة التيبت في الصين ربيع العام 2008. لقد كانت الفكرة السائدة والرائجة في الغرب هي تقديم تمرد التيبت باعتباره تمرد منطقة طرفية مهمشة من المركز الصيني (ناهيك عن التفاوت الثقافي والاتني). غير انه تبين من تقارير الصحافة الجادة الغربية ان السنوات الاخيرة، بل العقد الاخير شهد موجة استثمارات اقتصادية بما فيها في البنية التحتية في منطقة التيبت الشاسعة (والتي يسكنها بالمناسبة ستة ملايين شخص فقط وهذا رقم “هزيل” قياساً بالديموغرافيا الصينية). ويبدو ان الازدهار سمح بصعود طبقة وسطى تيبتية حركّت لديها قدرة ممانعة سياسية للنظام الصيني؟ السؤال الصعب هو: هل يأتي الازدهار الاقتصادي النسبي بمشاكل سياسية من حيث ان بعض الانظمة يدفع ثمن نجاحه في بعض المجالات الاقتصادية حين يكون النجاح هذا مترافقاً مع بنية فساد فضائحية تمسك بمفاصل “الازدهار” وتجعل توزيع الثروة الوطنية المتزايدة توزيعاً ظالماً في ظل نظام استبداد سياسي؟ على اي حال فوّت الرئيس بن علي على مدى السنوات الاخيرة فرصة وضع حد لبعض مظاهر الفساد العائلي فعجز او لم يرد ان “يضحي” بها ولربما كان ذلك سيخفف من حجم الاحتقان. فالفساد الكبير يجعل النظام السياسي عارياً على المستوى الاخلاقي.
ما حرّك ديناميكية الانتفاضة ليس مجرّد العاطلين عن العمل والذين يسمونهم “الهيتيست” في شوارع مدينة الجزائر والمشتقة من كلمة “حائط” اي “الحائطيون” الواقفون بلا عمل كل النهار. الذي حرّكها في تونس نوع معيّن من العاطلين: خريجو الجامعات. ليس لدي معطيات حول نسبة خريجي الجامعات بين “الهيتيست” وانما في تونس لا شك ان هذه الفئة المؤهلة دراسيا هي التي تشعر بمرارة مضاعفة حين لا تتوفر لها فرص عمل. (في كتاب “الوصية على قرطاج” ينقل الكاتبان ان النكتة الرائجة في تونس هي انه بين كل مقهى ومقهى في المدن التونسية هناك مقهى).
بقي سؤالان في هذه العجالة:
اي موقع ودور للاصوليين الاسلاميين في الوضع الجديد. لا شك ان لهم دوراً ولو لم يكونوا في عداد الحكومة الجديدة. ولكنها حكومة انتقالية. النظام نجح في التسعينات، وليس بدون دعم ضمني من اجزاء واسعة من النخبة التونسية، بضرب مصداقية التيارات الاصولية بل بتدمير ناجح ومنظّم لشرعيتها الاخلاقية. انما بعد ذلك، دخل في تشجيع مظاهر معلنة من ثلاثية القمع – الفساد – الليبرالية الاقتصادية.
اليوم لا شك ان قعر المجتمع التونسي، بل حتى اجزاء من طبقته الوسطى، هو محافظ اجتماعياً (الحجاب). انما اي دور سياسي سيبقى للاصوليين فهذا امر متروك على الارجح للانتخابات التشريعية المقبلة كي نبدأ بتلمسه.
السؤال الآخر… وليس الأخير هو على ما يبدو دور التشجيع الاميركي لبعض الاوساط داخل النظام – كما خارجه – على التغيير، وأحد الوزراء الاساسيين في حكومة بن علي كما في الحكومة الجديدة هو كمال مرجان الذي يأتي من تجربة كموظف رفيع المستوى في الامم المتحدة ويحمل الجنسية الاميركية. انما من المبكر الوقوف عند هذا الشخص او ذاك الآن بانتظار معرفة نوعية التغيير الذي ستفرضه الآليات الجديدة. ثم ان النظام، كما النخبة التونسية هي على صلة وثيقة وعميقة بفرنسا…
وبالحكم الفرنسي نفسه؟
جهاد الزين
أين الخجل!
الطريف ان بعض “الناشطين” اللبنانيين في أجهزة سياسية لبنانية أساسية ومن مختلف الاتجاهات، أخذوا يتبادلون التهنئة بعد سقوط بن علي. لا اقصد هنا العدد الواسع من الناشطين والمثقفين اللبنانيين غير المنخرطين في اجهزة الفساد الطائفية الحاكمة… وانما اولئك الذين لم يرف لهم جفن في مقارنة ولاءاتهم “الحرب أهلوية” مع حدث تونسي توحيدي وقضيته اجتماعية ديموقراطية لا مذهبية.
يجب ان يخجل هؤلاء… لا ان يتظاهروا بالاحتفال!
النهار