ثورة تونس

الحدث التونسي التاريخي يحثـّنا على إعادة تعريف كلمة “معارضة”

دلال البزري
من البديهي أن نفرح بالساعات التاريخية التي منحنا اياها الشعب التونسي في ثورة الياسمين، وأن نطمئن، ولو للحظة، إلى نزاهة التاريخ، وأن نطرب للمعاني، النبيلة حقاً، التي استقبلنا بها المولود الجديدة لهذا التاريخ. ولن يفسد فرحتنا، ولو إلى حين، ما يشوبها من شكوك حول معارك مقبلة مفتوحة بغية إفشالها أو مصادرتها أو إبطال مفاعيلها. فقدرة هذه الثورة على فتح أفق جديدة لتونس وللعرب وللأفارقة تضاهي قدرتها على توسيع مخيلتنا السياسية والتفكير في شأننا السياسي المباشر؛ وذلك، من الآن فصاعداً، بواسطة حدث-نموذج، إعادة تعريف معاني كلمات نستعملها في يومياتنا السياسة… لم تَعد صالحة من بعده.
على رأس هذه المعاني، كلمة “معارضة”. الذين قاموا بهذه الثورة هم جماهير شعبية معارِضة لنظام الحكم، تفوّقوا على كل المعارضات العربية التي نعرفها بإحداث ثقب هائل في الجدار العربي الاسمنتي. وأشهر هذه المعارضات ديناميكية، أكثرها حضوراً في الإعلام، المرئي خصوصاً، هي “المعارضة الوطنية اللبنانية”، التي تبدو أمام المعارضة التونسية كمن أصابه تشوه صميمي، يصعب التخلص منه من دون بركات التاريخ.
فما يسمّى “المعارضة الوطنية…” في لبنان اليوم، هي قوى يقودها حزب كان له دور عظيم في إفشال ثورة الأرز التي سبقت ثورة الياسمين بخمسة أعوام. ثورة الأرز أثارت الحماسة ذاتها، الحسد ذاته، لدى الشعوب العربية؛ علينا أن نتذكر جملة المواقف التي اتخذتها مجموعات وشخصيات وأقلام من ثورة الأرز. كما أوحت بما توحيه الآن ثورة الياسمين، من آمال عظيمة، بعد ثلاثين سنة من الحكم السوري للبنان، أن تأتي هبة شعبية عارمة، ناقمة، غاضبة، تقول لا بعد الآن؛ فكما هو معلوم، كان لبنان بلداً “تعدّدياً” يرزح تحت أكثر الأنظمة حيلة وتلاعباً، تلك المتذّرعة بمقاومة إسرائيل. كان الردّ على هذه الثورة العارمة من قبل “المعارضة” هو مهرجان “الشكر والامتنان”.
ما يسمّى “معارضة” في لبنان، يقودها حزب أقوى من الدولة، أقوى من الجيش، وأقوى من كل المؤسسات الدستورية. تستطيع هذه “المعارضة”، بصواريخها، لا أن تتسلّم سلطة هذه الدولة، فهذا أمر تستصغره عليها، تدّعي التنزّه حياله، ضاربة عصفورين… بل ان تمسك بهذه الدولة من رقبتها كلما شعرت بأن “أعداءها” اقتربوا من سلاحها.
هذه “معارضة” أقوى من نتائج الانتخابات: تخسر فيها، تعدّلها بالسلاح، فتصبح بذلك أكثرية”، تمثلها هذه المعارضة، وتمارس بواسطتها أكثر الممارسات “دستورية وديموقراطية”. كأن تعديل نتائج الانتخابات بالسلاح لم يمر من هنا.
تسمّى “معارضة وطنية…” في لبنان قوى تقسيمية طائفية مذهبية صميمية، في أساس تركيبتها وطرقها وأطرها وخطابها. وعندما تدّعي “تنوعاً”، يكون ذلك ائتلافاً طوائفياً تراتبياً، تتلاصق مكوناته، يقوده الأكثر “تماسكاً” طائفياً، والأكثر قدرة على التسلح والتدريب والقتال الميليشياوي. كلمة “الوحدة الوطنية” حاضرة بقوة في أدبيات هذا الائتلاف الكونفدرالي، وغائبة بقوة عن كل ممارساته ومداولاته وشعاراته وطروحاته السياسية و”بونتاجاته”. إنها معارضة غير وطنية، تقسِّم أكثر ما تجمع، تفكّك أكثر ما تؤسّس.
يسمّى قيادة “معارضة” في لبنان حزب مبرْمج بغضبه وإيماءته ولسانه وكل ديناميكياته. حزب ذو ولاء خارجي معلن، ولاء لدولة بعينها، يؤمن رئيسها بولاية الفقيه، يأتي إلى لبنان، فتستقبله الجماهير “المعارضة” استقبال الأبطال (هل يمكن أن تتصور جماهير تونس تستقبل أحمدي نجاد في تونس كما يُستقبل الأبطال؟ وتكون بعد ذلك قادرة على الإطاحة بديكتاتور جلس 23 سنة على العرش؟).
تسمّى “معارضة” في لبنان قوى محورها تحرير القدس وفلسطين؛ فيما قدس أقداسها، القضية التي يمكن من أجلها أن تدمّر بلدها، هو سلاحها؛ معارضة أغلى ما تملك هو السلاح، السلاح هو وجودها، منبع سلطتها، بدايتها ولا نقول نهايتها، إذ من شدة تمرّسها في الحكم المعارض، من شدة ما تدرّبت على الترهيب بقوة هذا السلاح، ومن غير أن تستعمله إلا في الحالات التي تسمّيها “جراحية”، وحيث لا حساب لقتلاها… (عملية “نظيفة”، مثل الأميركان تتكلم هذه المعارضة)… من شدة الخوف الذي يوحيه سلاحها، والمال الذي تغدقه على أتباعها، و”حلفائها”، صار لسلطتها معنى أرسخ وأعمق من معاني سلطة الديكتاتور المكروه، والذي تشفع له فضيلة واحدة، هي صراحة ديكتاتوريته.
تسمّى “معارضة” في لبنان قوى متّهمة باغتيالات، ترد على تسريبات محكمتها، بقلب البلاد رأساً على عقب. وهي من القوة بما يسمح لها بذلك: “معارضة” تسمّي من يعجبها رئيساً للوزراء لا يقف حجر عثرة أمام احتفاظها بهيبتها وسلاحها وسلطتها، بعدما وضعت رئيس الجمهورية في ثلاجة قطارها الجموح.
إذا أردنا الغوص في تاريخ “معارضتنا” اللبنانية الراهنة فالأرشيف أمامنا، يبيّن أن هذه المعارضة أسوأ من الديكتاتوريات المديدة. فهي، بتدميرها أسس الدولة، وبتوطين الطائفية وإثارة المزيد من الطائفيات الأخرى، وصراعها من أجل تسخير الدولة لحماية سلاحها، تستطيع أن تحول أي مطلب شعبي، من الفساد الذي تخصّصت بالحديث عنه من دون أن تنظر إلى نفسها وإلى من حولها، إلى التلوت أو البطالة أو الغلاء، وحتى قمع الحريات.. تستطيع هكذا “معارضة” أن تحوّل مجرّد النظر بهذه المسائل إلى لعبة سياسية ضيقة كمطلب ووفيرة الفرص بالابتزاز، أو التهويل، أو مجرّد التوتر الطائفي.
سوف يقولون لك: “ولكن هذا لبنان! وهذه هي لعبته السياسية! لم يكن يوماً إلا طائفياً….!”، إلى آخر المعزوفة… إذا كانت للبنان كل تلك الخصوصية، أيها السادة، فلا تتكلموا عن “معارضة” سياسية لنظامه، أو لسلطته. هذه القوى ليست معارضة. إنها بالأحرى جزء لا يتجزأ من النظام، وليدته؛ وفوق ذلك، هي فوق النظام، أقدر منه على تقرير حياة أو موت كل لبناني. على اتخاذ قرار الحرب العاتية، على شن هذه حرب، على الانفلات من السؤال عن نتائجها؛ إذ تمعن في إرهابنا بأن تعتبرها “انتصاراً تاريخياً استراتيجياً إلهياً”…
وهذه “معارضة” لم تكتفِ بانتحال صفة المعارضة فحسب؛ بل حرمت الخيال السياسي اللبناني من تصور معارضة يمكنها أن تحسن الأوضاع المعيشية والاقتصادية والبيئية والأمنية للناس. كلمة واحدة في هذا الزقاق أو ذك، وتشتعل التجاذبات الحادة المهددة للعيش المشترك والسلم الأهلي. هذا الوضع السوريالي مسؤول عنه كل من يعتبره قدراً سياسياً، وهبه الله للبنان دون غيره من شعوب الأرض.
المعارضة الطبيعية في لبنان تكون بالضرورة خارجة عن الأطر التي وضعها النظام الطائفي. أي معارضة أخرى طائفية بالضرورة.
أعلم أن هذا الكلام فيه قدر من السذاجة السياسية. ولكن ذلك أقل ضرراً من سذاجة الاعتقاد بأن “معارضتنا الوطنية” جديرة بحمل اسمها المستعار، وبأداء دورها المفترض.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى