تونس.. خارطة طريق إلى الديمقراطية
العربي صديقي
الآن وقد انتهت حقبة بن علي، الطريق أمام تونس أضحى غير معروف، ولكن مع اتباع نهج حذر يمكن تأسيس نظام ديمقراطي دائم. يجب على القيادة السياسية الجديدة في تونس أن تنأى بنفسها عن الاحتفاء والتهنئة، وعليها أن تلتفت إلى ما هو أهم، من أجل إنقاذ تونس من محنتها.
سيتوجب على التونسيين أن يستجمعوا الشجاعة ويوظفوا مخيلتهم السياسية لابتكار نموذج سياسي، يكون مزيجا من الصبر والتسامح والقدرة على ممارسة الاختلاف وقبول الآخر، لنسج نظام ديمقراطي دائم في تونس ما بعد بن علي.
والسؤال هو دائما، بطبيعة الحال، كيف؟ تاريخيا في النظام الجمهوري الجديد بعد الحكم الملكي المطلق في فرنسا قبل أكثر من 200 سنة، في مرحلة ما بعد فرانكو إسبانيا أو الفلبين بعد ماركوس، الخوف أمر لا مفر منه. وهنا تبرز الحاجة لمهارات الحلول الوسطية والتسويات الذكية، وهو ما يحتاج أيضا إلى رؤية تمكن من تشخيص وسبر أعماق المياه العشوائية لبناء مرحلة ما بعد السلطوية.
الدروس المستفادة
إن الشيء الذي يمكن الحديث عنه في “انتفاضات الخبز” التي حدثت في العالم العربي، هو أن سلطة الشعب نجحت في إرسال رسائل مهمة إلى الطبقة السياسية في البلاد، في الماضي والحاضر، بطرق عدة:
أولا: الشعب التونسي وحده هو الذي يملك هذه اللحظة التاريخية في الانتصار ضد الدكتاتورية. الشعب التونسي قد كسب الحق في أن تكون له السيادة وأن يعامل وفقا لذلك. وأي نظام سياسي ناجم عن ذلك ملزم بتكريس كون هذه اللحظة لهم وحدهم. ومؤسسيا، يتعين إعادة البناء السياسي بحيث تكون جميع الآليات منسجمة مع هذه السلطة وتمكن من عمل توازنات بين الحكومة والشعب.
ثانيا: لم تكن المساندة الغربية، ولم تكن المعارضة في المنفى هم من سجل الفوز ضد بن علي، بل الشعب، والشعب وحده هو الذي أطاح بن علي. هذه الهبة هي حركة عفوية بامتياز نابعة من الداخل.
ثالثا: لا توجد حركة سياسية واحدة، زعيم أو أيديولوجية يمكن أن تزور التاريخ السياسي وتنسب هذا النصر لنفسها.. الشعب التونسي هو الذي انتصر ليقدم لنخبته، على طبق من فضة، فرصة نادرة لتصحيح أخطاء كثيرة ارتكبها الرئيس المخلوع.
رابعا: محاولات تجميل الأداء السياسي غير مجدية. حتى زين العابدين بن علي، وبالرغم من توظيف خبراء من الولايات المتحدة لم تنجح في إخفاء العفن. وبدا فشل عملية التمويه هذه بصورة واضحة في الأيام الأخيرة من حكم بن علي حيث كانت عملية الطلاء تلك سببا في مزيد من الانحلال السياسي والخسارة.
وفشلت مصطلحات مثل “نشر الإرهاب” و”عصابات الملثمين” وبدت وكأنها شاشة دخانية تحاول إصابة البصيرة التونسية بالعمى ولكن دون جدوى، وفشلت المحسوبية السياسية الغربية ولغة الخطاب في وقف أو إضعاف موجة الرفض. لذلك فإن السير على نفس المنهج، انتهى ببن علي إلى مزبلة التاريخ.
خامسا: في لحظة ويكيليكس لم تعد الدولة قادرة على السيطرة على وسائل الإعلام، خصوصا في عصر الفيسبوك، والتويتر، واليوتيوب. هذا الإعلام كان له دور كبير في إسقاط بن علي. وفي هذا السياق فإنه لا يمكن نسيان دور قناة الجزيرة. وهنا تحضر الفكرة التي تحدث عنها ماكس ويبر فيما يتعلق بسيطرة الدولة. ولعل المعلومات، وامتلاك التكنولوجيا تلعب دورا حاسما في مصير الدول في العصر الحديث.
ذَهَبَ بن علي وبقِيت منظومته
لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه المستقبل التونسي، ويمكن لهذه التحديات أن تضيع انتصارات سلطة الشعب. ذهب زين العابدين بن علي ولكن منظومته لا تزال باقية. صحيح أن التغيير من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي قد يستغرق وقتا. لكن يبدو من تشكيلة الحكومة أن رموزا من منظومة بن علي لا تزال تمسك بمفاصل الدولة، بتوليها الوزارات السيادية، وإسناد وزارات هامشية إلى المعارضة، وهذا أمر مثير للشك.
إن ما يتمناه الشعب التونسي هو أن التغيير يجب أن يكون حقيقيا لا شكليا. وهنا لا بد من الالتفات إلى دور الجيش، الذي تدخل في اللحظة الحرجة لحسم الأمور. ومن هنا من المهم أن يكون هناك نوع من التكامل بين قيادة الجيش والقيادة السياسية من أجل التغيير الكامل. هذه قضية لا تتعلق بكثير من الشخصيات، واللغة السياسية والنماذج فقط، ولكن الأهم يكمن في “اللاأخلاقية” السياسية أو ما يمكن تسميته بالفجور السياسي. ولذلك لابد بداية من استعادة السياسة باعتبارها مشروعا أخلاقيا يتجاوز الأحزاب والزعامات والأيديولوجيات.
لكن في نفس الوقت، وفي هذه اللحظات الحرجة، فإن السعي إلى التغيير السريع تترتب عليه مخاطر الفراغ السياسي وهذا أمر لا نريده لتونس. كما أن الحزب الحاكم، لكونه حزبا تاريخيا، يجب الحفاظ عليه، وأن يكون له دور في الحياة السياسية.
إن الحركة الدستورية لها جذور نضالية ضد الاستعمار الفرنسي، وإقصاؤها من الحياة السياسية حماقة. وفي المقابل يجب أن يخضع هذا الحزب للتنظيف. إن كل شركاء بن علي يجب أن يخضعوا للتحقيق حول الثراء الفاحش الذي حققوه مستغلين مناصبهم الحزبية والسياسية.
الصراع في الأشهر المقبلة للحفاظ على المصداقية لدى الشعب التونسي. العالم يجب أن يكون متوازنا مع هذا الواقع. المجتمع المدني والمعارضة الحالية لا يزالان وليدين. إنهما بحاجة إلى وقت للتعافي ومحو رواسب 54 سنة ماضية وكذلك الشراكة مع تلك القوى التي عملت لزين العابدين بن علي ولكنها ليست بالضرورة من منظومة بن علي، كالتكنوقراط مثلا.
لذلك يجب إجراء ترتيبات مؤقتة، تسمح ببقاء بعض العناصر من النظام القديم لتسيير الأمور ويكون هذا بمثابة فترة انتقالية حتى تنظيم الانتخابات.
“الباستيل” التفرد والتسلط
يعيد سقوط بن علي إلى الأذهان واقعة اقتحام الباستيل وكلاهما يحضران إلى الذهن كمثال على التفرد السياسي. وهذا هو الداء الذي يعتبر من الضروري تحصين النظام الجديد ضده. ومن القيم السياسية المشتركة الجديدة المطلوبة دينامية الاختلاف والتناقض باعتبارها قوة إيجابية موضوعية في العملية السياسية والديمقراطية.
أما عملية التطهير فيجب أن تكون مرفوضة بالكامل، والقيام بحذف المعارضين أو قتلهم أمر يجب أن لا يعود موجودا، وإلا فإن بن علي سيكون قد انتصر على إرادة الشعب التونسي.
الإسلاميون والجمهورية الثالثة
هل تحتمل تونس غنوشيين؟.. الإسلاميون في تونس قوة حقيقية يحسب لها حساب ويجب إعطاؤها الحقوق الكاملة للتمثيل في النظام السياسي الجديد. إن تجربة حزب البعث العراقي في إقصاء الخصوم خلفت مشكلات دفع ثمنها الشعب العراقي غاليا. فإنه من الغباء أن تبدأ الأحزاب التونسية حياتها السياسية بإقصاء طرف مهم في المعادلة السياسية، وإلا فإن الشعب التونسي سيدفع ضريبة هذه الخطيئة عاجلا أم آجلا.
وجود تحفظات خارجية لا تبرر إبعاد حزب النهضة في الفترة الانتقالية. فحزب النهضة عام 2011 ليس هو عام 1989. وكذلك هي تونس. صحيح أن القوى التي ناضلت من داخل تونس هي السباقة، لكن أيضا يجب أن لا ننكر أن أعضاء النهضة قدموا الكثير من التضحيات، وتعرضوا للتعذيب والاضطهاد ضد نظام بن علي.
حزب النهضة مطالب اليوم بالتقاط هذه الفرصة التاريخية، وهو أمام بعض الدروس التي يجب أن يستوعبها من تلقاء نفسه:
أولا: يجب أن يتجاوز الهوس بالوحدة، فالنهضة اليوم تحوي تيارين أو حتى عددا من الفصائل داخلها. ويجب أن يعتبر هذا شيئا إيجابيا يثري الحزب ويقويه.
ثانيا: يجب التعامل سياسيا بانفتاح وبعيدا عن السرية أو الجمود الأيديولوجي.
ثالثا : يجب عدم العودة إلى مناقشات 1980 حول مسألة “الهوية” وتبسيطها الأخلاقي.
رابعا: يجب التصرف بتواضع وضبط للنفس، وتقاسم الساحة السياسية مع الآخرين بدلا من السعي إلى الهيمنة.
وأخيرا، يجب الانحياز لصالح الحضور السياسي أكثر من الغياب.
والنهضة لا تزال حزبا، له جاذبية وحضور واسع ، وهو اليوم ينتقل إلى مرحلة تمتاز بحالة مع النضج السياسي أكثر من السابق، والمؤشرات على ذلك كثيرة ويمكن قراءتها في ميل العديد من قادتها اليوم إلى فصل الدين عن السياسة، وتأكيد أن النهضة ليست حركة طالبان.
والحقيقة أنه لا يمكن لأي كيان سياسي أن يزعم أنه يتحدث نيابة عن جميع التونسيين. والأفضل للجميع أن ندع الآلاف من براعم أزهار الياسمين تتفتح على أساس القيم المشتركة للتبادل والمساواة والاحترام والتواضع.
عهد الأمان (2)
إن النظام الديمقراطي الجديد لن تتم بلورته بصورته النهائية بسهولة وبسرعة، وهذا يقتضي الخضوع والتسليم لقيم جديدة من المواطنة المتساوية، وضمان الحقوق غير القابلة للتصرف لجميع التونسيين من جميع المذاهب والأيديولوجيات، واستمرار تقليد التجديد وسياسة النقد الذاتي.
تاريخيا، لم تبدأ تونس بسجل خال، وتعليم الديمقراطية يجب أن يستلهم روح الميثاق الأساسي عام 1857 والمسمى بـ”عهد الأمان”، الذي سعى من بين أمور أخرى عديدة، للحد من سلطة الباي وجاء في مجمله إجراءً سياسيا يوفر الأمن لسائر السكان ويضع حدا للاستبداد والظلم والتفرقة. والذي يبدأ الآن هو أقرب إلى نسخة ثانية من “الميثاق الأساسي”.
ولكن بعض اللاعبين السياسيين الجدد في تونس ليسوا سوى متدربين في سياسة الدولة. وبعضهم ليس له أي تجربة برلمانية، ومنهم من ليس له خبرة المشاركة ولو على مستوى البلديات. ولذلك فإن تعلم الديمقراطية في تونس بدأ الآن.
وعلى مسار تعلم الديمقراطية يجب أن نبقي في الأذهان واقعا تم اختباره مرارا، وبعد الرابع عشر من يناير 2011، لم يعد ممكنا العودة إلى نطاق الدولة والدعاء بطول العمر للسلطة، وجرى تعريف الدولة التونسية على أنها الدولة التي تمارس سياسة إجمالية في إطار تعلم الحكم الذاتي وهي التجربة التي قد تنطوي على التجريب والخطأ، وصحيح أن التونسيين قد ثاروا للحصول على الحرية السياسية ولكن أيضا فإن المطالبة بتكافؤ الفرص الاجتماعية والاقتصادية والعدالة في توزيع الثروة، يجب ألا تغيب هي الأخرى عن الأذهان.
نحو المرحلة الانتقالية
وفي هذه الفترة الانتقالية فإن الحاجة ملحة لتوضيح الطريق نحو التعلم وبناء الديمقراطية، كما يجب رسم جداول الأعمال على المدى القصير والمدى الطويل.
ففي المدى القصير، يجب إجراء الانتخابات وأن تهدف فقط إلى إنتاج نظام انتقالي. وقد يكون الاندفاع نحو إجراء الانتخابات سابقا لأوانه في مجتمع يعاني من ضعف الأحزاب السياسية، وحتى وقت قريب كان المجتمع المدني فيه مكبلا ومثقلا بالكثير. ومع هذا يجب أن تشرع تونس في تنظيم قواعد الاشتباك الديمقراطي والمشاركة السياسية.
وعلى المدى الطويل، فإن النظام الانتقالي يجب أن يعمل لتفكيك النظام الرئاسي، بحيث ينهي حالة الإفراط في صلاحيات السلطة التنفيذية من خلال إعداد شبكة قانونية ومؤسسية تمكن من التحول إلى النظام البرلماني.
وتبعا لذلك ستكون هناك حاجة إلى دستور جديد لعصر جديد ويمكن أن تسند هذه المهمة للبرلمان الانتقالي وبمساعدة لجان خاصة تشكل لهذه الغاية. ويمكن التحول إلى نظام انتخابي نسبي جنبا إلى جنب مع التخطيط للتحول إلى النظام البرلماني.
ومن المؤكد أن النظام الجديد سيكون بحاجة ماسة إلى المعارضة الديمقراطية ووجود صحافة حرة، تقوم بصورة غير رسمية بممارسة دور المعارضة، كما يجب تفكيك الكثير من أجهزة الأمن.
وتونس ليست جزيرة، ويمكن للجنة لتقصي الحقائق والمصالحة، مثل تلك التي وجدت في جنوب أفريقيا أو في المغرب، أن تنشئ نظاما للعدالة في المرحلة الانتقالية بحيث لا تراق الدماء أو يمارس الظلم في مطاردة لأشباح من الماضي.
ومن الواضح أن دولة مثل إسبانيا مارست انتقالها دون تجربة ديمقراطية سابقة، ويمكن لتونس أن تبلغ انتقالها من خلال ميثاق لهذا الغرض. وسيكون من الصعب صياغة أجندة اجتماعية اقتصادية، ولكن يجب تخصيص آليات حكومية للتنمية المستدامة.
تونس.. التأثير
ترك النموذج التونسي في اقتلاع نظام “بن علي بابا” الديكتاتوري، تأثيره بطريقة استشعرها كل العرب. وتونس اليوم تقود المسيرة بينما هناك من يراقب عن كثب، ويجب أن يستثمر ذلك في تحقيق مكاسب ديمقراطية، لأن 14 يناير/كانون الثاني أصبح علامة فارقة في تاريخ تونس كما في عام 1857 وعام 1861 على التوالي عندما قدمت تونس باحترام إلى العالم، أول شرعة عربية وإسلامية “للحقوق والدستور” ويعادل ذلك أهمية 20 مارس/آذار 1956، حين تحررت تونس من الاستعمار.
إن وصمة العار تكمن في أن تبقى المجتمعات العربية إلى أجل غير مسمى تعاني من خلط للأمور مع غياب للثقافة المدنية وإمكانيات الحكم الذاتي. لقد كسب التونسيون معركتهم الأولى من خلال تقويض بعض النماذج السائدة في المجتمعات العربية وستكون المعركة المقبلة، والتي يتطلب الفوز بها وقتا وقدرة على التحمل السياسي والإرادة الحرة في التفكير والفعل هي إدامة “ربيع الديمقراطية” الذي بدأ للتو.
الجزيرة نت