مغتسلا بالنار، المغمورُ بطلا
ياسين الحاج صالح
بذاته، وليس بالمحصلات غير المحسوبة لعمله، كان إقدام محمد بو عزيزي على حرق نفسه فعل حرية فذّا. لقد انتهك الرجل محرما دينيا قارا. الشاب الناحل، ذو الست وعشرين سنة، لم يتقصّد ذلك، لكن لا ريب أنه يعرف أن “قتل النفس” محرّم في الإسلام. وحين لم يبال بهذا التحريم، كان يُغلَّب حكمه وانفعاله الشخصي على حكم ديني عتيق وراسخ عبر الأجيال. في هذا بادرته الشجاعة فعل حرية. ولا ينال من هذه الصفة الغياب المرجح، بل المؤكد، لدوافع مضادة للدين أو لأية دواع إيديولوجية محددة. بالعكس، كان من شأن وجود دوافع أو دواع كتلك أن يدرج تضحية بو عزيزي في مخطط عام، فيسلبها شيئا من فرادتها وشخصيتها. “بسبوس” (لقبه العائلي) لم ينو أن يكون “شهيدا” أو قدوة أو مثالا عاما. ولعله لذلك كانت دلالة تضحيات مماثلة لتضحية محمد التونسي في بلدان عربية أخرى مغايرة لدلالة احتراقه هو. موته هو مدشِّن، قيمته مطلقة، موت من مات منهم مُحاكٍ، يندرج في مخطط أوسع؛ ولعلهم أملوا أن تثير تضحياتهم مسلسلا احتجاجيا كهذا الذي أطلقه موت محمد.
وأن يختار الشاب الذي يبدو من صورته خجولا الموت حرقا، أن يختار النار التي هي، تعريفا، ما يمتنع اختياره أو الاستجارة به؛ التي هي أيضا العقاب الإلهي، المطلق، لأمرٌ يرفع مما تتضمنه تضحيته من شجاعة وطاقة تحررية. لكن لعله ما كان لمحمد أن يعاقب نفسه بالعقاب الإلهي إلا لأنه أراد أن يتطهر من تلوث عميق. لقد أهين، صُفِع على وجهه ورُكِل، طُعِن في صميم كيانه. “لبِسه” العار، وأكملُ التطهر من العار هو الاغتسال بالنار. ولعله في ذلك يصلح رمزا عربيا للتطهر من عار يعمّنا منذ جيلين.
ولم يكن فقدانه الخبز هو ما يهينه، ولا حتى الحرمان من العمل (بالمصادرة المتكررة لعربته)، أي منعه من أن يتحمل مسؤولية نفسه، وربما إعالة أمه؛ بل ما يتضمنه ذلك كله من أنه لا شأن له، ليس أحدا. هذا ما يهين الفقراء في الفقر. ليس الجوع، ليس الحرمان من الخبز أو العمل، بل ما يعنيه ذلك من أنه لا اعتبار لهم، لا فرق بين وجودهم وعدمهم، أنهم لا شيء. لذلك فإن تعابير مثل انتفاضة الخبز أو الجوع ليست في مكانها. إنها تصدر عن اعتقاد أن البطون أولى من النفوس، والخبز أهم من الكرامة. وهذه عقيدة نظمنا السياسية جميعا بالمناسبة، وإيديولوجييها المأجورين، وهي تضمر أن عامة الناس في بلداننا إن لم يكونوا حيوانات في حاجة إلى علف، فإنهم حيوانات تحتاج إلى عصا لتسييرها.
لم يكن موت محمد بو عزيزي انتحارا. لم يحفِّزه شعور بعبثية الحياة أو لا معناها، ولا حتى مشقتها وعسر نيلها أو نأي مبناها. إنه تأكيد جوهري للكرامة الإنسانية كأساس لحياة تسمو فوق العيش. ويحتمل أن صفعه من قبل امرأة زاد من حدة شعوره بالمهانة (من شأن هذه أن تكون نقطة طيبة في برنامج “توك شو” مفترض على قناة فوكس نيوز مثلا، يتداول الكلام فيها “خبراء في الشؤون العربية”، من أمثال فؤاد عجمي أو كنعان مكية). لكن ما كان لصفعةٍ على الوجه أن تكون أقل إهانة لو جاءت من رجل إلا قليلا. يتضاءل شأن جنس الصافع حين يأتي من ذلك المسخ العدواني البهيم الذي نسميه “السلطة”. ليس لهذه جنس. لا نساؤها نساء ولا رجالها لا رجال. إنهم كائنات لا جنسية تتكاثر بالخوف والذل.
محروما من العمل، مهانا، كان احتراق بوعزيزي إدانة لترتيب سياسي اقتصادي، يسميه هو “زمان غدار”جريا على مألوف عربي عريق، لا يوفر له فرصة حياة كريمة، ويمنعه من توفيرها لنفسه. وهو في هذا ليس وحيدا. واحدٌ من مئات الألوف الذين أزاحت احتجاجاتهم الشجاعة طاغية لا معنى له. وبينما كان بو عزيزي الشاب المحترق صانع حرية فذا، كان بو عزيزي المهان، الفاقد العمل والأمل، شخصا جمعيا عاما، استطاع أن يغلب نظاما عُرِف عنه تماسكه وسطوته الأمنية وبطر أربابه.
لم تكن تضحية محمد التونسي فعل عنف. لم يقتل أحدا ولم يؤذ أحدا. لم يدمِّر شيئا. أراد أن يزول هو وحده. أن “يسافر” و”من غير رجوع”، هو “الضايع في طريق” لا يد له فيها، كما ورد في كلماته الأخيرة لأمه. ولقد آلمها هي وأشقاءه فقط. لكن إرادة تطهّره كانت أقوى من رابط الأسرة القوي. وفي هذا أيضا كان احتراقه فعل حرية. البطل ينفصل ولا يعود.
ذكرت الأنباء أنه حين سمع زين العابدين بن علي بحرق محمد بو عزيزي نفسه، علق بالقول: فليمت! بعد أسابيع قليلة، كان محمد رمزا لحياة تونس الجديدة، وبن علي رمز تونس القديمة، كل ما يريد له التونسيون أن يموت.