ربيع الياسمين: من صنعَ الآخر
التاريخُ أم الشهداء والثائرون التونسيّون؟
حمّودان عبدالواحد
وحدة الهدف لم تغيّب فقط الفوارق المهنية والكفاءات العلمية والانتماءات الايديولوجية، بل على العكس عمدت إلى تواجد وتذويب الكل في الكل. الضغط يولد الانفجار، وبمقدار نوع ودرجة وإيقاع الضغط تجيء ردة الفعل، فيكون لها نفس المقدارمن القوة والعمق، والاستماتة والمتابعة، والسرعة والعفويّة… هكذا، ولأول مرّة في تاريخ العالم العربي اضطر رئيس دولة عربية أن يغادر السلطة تحت ضغط الشعب. هكذا، وفي مسيرة بطوليّة وجريئة فاجأتْ كلَ المحللين السياسين والمراقبين والمتتبعين لتطورات الأحداث في العالم العربي، انفجرَ الشعبُ في وجه الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي أراد بقبضة من حديد جبارة – طيلة ثلاثة وعشرين سنة – أن يخنق حرّيّة كل الذين حفظوا عن ظهر قلب قصيدة “إرادة الحياة” بالإغلاق عليهم في ” كوكوط مينوط ” لا يرحم…هكذا انطلقت، هنا وهناك، في تونس وفي مناطق أخرى من العالم وخصوصا في فرنسا، مسيراتٌ شارك فيها عربٌ تونسيون ومغاربيون وكذلك من أصول شرقية وكثيرٌ من عاشقي العدالة والحرية، من كل شرائح الطبقات الاجتماعية تردّد في فرح وبهجة، هاتفة مصفقة راقصة:
إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر
من صنع الآخر، التاريخُ أم الثائرون من تونس؟ هل التاريخ، من خلال الظروف الاجتماعية والشروط الاقتصادية والقيود السياسية، هو الذي صنع الساخطين الغاضبين الذين سيتحوّلون إلى ثائرين في تونس أم أنّ هؤلاء بقوّة إرادتهم وصلابة عزيمتهم وطبيعة فكرهم ونوع أحلامهم همْ بالأحْرى الذين صنعوا اللحظة التاريخية التي أطلِقَ عليها اسم ” ثورة الياسمين “؟
يعتقد البعض على غرار جان بول سارترJ.-P. Sartre أنّ “الانسان في حالة الاستغلال هو في آن واحد نتيجة إنتاجه الخاص وفاعلٌ تاريخي لا يمكن اعتباره منتوجا. هذا التناقض ليس ستاتيكيا، بل يجب متابعته وضبطه في فعل التجربة ذاتها، ممّا يوضح كلام أنجلز Engels القائل بأنّ البشر يصنعون تاريخَهم على أساس ظروف وشروط واقعية سابقة لكنهم هم الذين يصنعون هذا التاريخ وليست الظروف السابقة، وإلاّ لكانوا مجرّد أدوات في يد قوى غير إنسانية هي التي تتحكم في تسيير المجتمع الانساني” 1
نحن نومن بأنّ خططا سرّيّة تامّة تفعل مفعولها في صيرورة الأحداث والتاريخ، وهذه الخطط تقوم بها يدٌ غير مرئية هي التي توَجّه الانسانَ عن طريق تعزيزه بنوع من الإرادة المستقلة والعقل الواعي المفكر الناقد المحلل أي الذي يربط بين العلل والنتائج ويأخذ في تحركاته وتحولاته بالأسباب. ألم يقل إيمانويل كانط E. Kant، بهذا الصدد، بأن الطبيعة تعبر من خلال ظواهرها وتمظهراتها وعلاقات المدّ والجزر بين عناصرها، وسلوكات العطاء والأخذ…عن عناية إلهية؟ ألا يُحذّرُ الإسلام المستبدين الظلمة، المتلاعبين بحقوق الانسان، الهاذرين لكرامته من نهاية العاقبة عندما يقول لهم إن عينَ الله لا تنام وأنّ الله يُمْهِل ولا يَهْمِل؟ ألا يوجّه لهم إنذارا ينهاهم عمّا لا تُحمَدُ عقباه حين يؤكّد على العلاقة المباشرة المفتوحة بين السماء والمسْتعبَدين المعذبين في الأرض،الرافعين زفراتهم ودموعهم وآلا مهم وشكواهم إلى المحكمة العليا التي لا تقبل طلبات النقض من الظالمين أبدا: “دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب”. هذه اليد الطويلة التي امتدت إلى الطاغية وهو في غفلة منها فانتزعته من الحكم ودفعت به إلى الفرار خوفا على نفسه من الهلاك، هل هي في العمق يدُ الشعب التونسي أم هي يد من نوع آخر؟ كيفما تكون التسميّات في هذه الحالة فإنّ الحقيقة التي لا مِراء فيها معروفةٌ عند الشعوب العربية وغيرها، ويعرفها الصغير والكبير: “من يدّعي بالقوّة يموت بالضعف” أو “من حفر حفرة للعباد وقع فيها”.
قد يقول قائل، في هذا السياق: “غريب ٌ أمرُ هذه الانتفاضة، فهي على الرغم من عفويّتها وغياب زعماء سياسيّين أو مثقفين أو نقابيّين أو جامعيّين من الخطوط الأماميّة التي تؤطّر وتنظم وتنسّق وتوجّه، على الرغم من غياب شخصيات بارزة معروفة تلعب – كما هي العادة في كل ثورة – دور المحرّض والمحمّس الرئيسي للجماهير المتظاهرة… قد استطاعت أن تحقق نجاحا تُحْسَدُ عليه إلى درجة أن أصواتا وأقلاما هنا وهناك – من الأردن ومصر وغيرهما في البلدان العربية مثلا – تعتبرها من الآن فصاعدا النموذج الذي يمكن السير على منواله، وبداية سقوط أحجار الدومينو”. كيف إذن يمكن تفسير هذا النجاح؟ صحيح أن شيئا من هذا لم يكن متوفرا في التهيء لثورة الياسمين وتحقيق أهدافها، لكنّ هذا التصورَ للثورة قديمٌ، ويرجع إلى السنوات والحقب الماضية. الآن حدثت ثورة جديدة حتى في سبل الثورة ووسائلها. الجديد يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل والظواهر التي طبعت حركة الاحتجاجات والغضب:
1 – اختلافُ وتعدّدُ الوضعيات الاجتماعية والانتماءات الطبقية والفكرية لمن شاركوا في صنع هذا الحدث التاريخي الجليل في حياة العرب والمسلمين أي أنّ كل الشرائح الاجتماعية كانت حاضرة وكلا الجنسيْن، وزد على هذا كل الأعمار. كما أن وحدة الهدف لم تغيّب فقط الفوارق المهنية والكفاءات العلمية والانتماءات الايديولوجية، بل على العكس عمدت إلى تواجد وتذويب الكل في الكل: المثقفين من شعراء وكتاب وفلاسفة…، رؤساء النقابات العمالية وأرباب العمل والعمال، الأساتذة والطلبة، الآباء والأمهات والأولاد، وكل من له فِكر حمّامي الماركسي أو رشيد الغنوشي الإسلامي أو كريشان الإعلامي المعاصر الديمقراطي أو المفكر الباحث المرزوقي… هذا العامل يعني في العمق أن مستوى الوعي لدى المتظاهرين والمحتجين الثائرين كان على درجة عالية… وهو ما لا يوجد للأسف الشديد في العدد الأكبر من المجتمعات العربية. والكل يعرف – حسب تقارير وإحصائيات قامت بها ونشرتها منظمات حقوقية دولية مستقلة مثل مؤسسة “فريدوم هاوس” Freedom House أو هيئة الأمم المتحدة – أن المستوى التربوي للتونسيين يصل إلى نسب عالية بالمقارنة مع دول عربية أخرى. الثورة لا يمكن لها أن تنجح إن لم تتوفر على الشروط الفكرية والنفسية الضرورية لتحقيقها، وهي شروط وثيقة الصلة بالوعي الجماعي لصانعي الثورة.
2 – من هنا أهمية العنصر الثاني الذي ساعد كثيرا على مواصلة مسيرة الثوار، ونقصد به تصوير التونسيين لغضبهم وتجربتهم بأنفسهم… وهذا له علاقة بالانترنت وفايس بوك وويكيليكس والثورة في وسائل التواصل والتنسيق والإخبار بطريقة تجعل الناس يتحركون وهم يعرفون أن العالم يتابع تجربتهم ويشاهدهم خطوة خطوة… هذا التصوير in live جعل من انتفاضة تونس ثورة تسجل نفسها في زمن العولمة… هكذا انتقلت الثورة من سيدي بو زيد في بلد عربي إلى فضاءات أخرى في العالم، وفرضت نفسها على كل واحد يعيش بعيدا عن هذه المدينة الصغيرة وأخذت حيزا من ذهنه وهمومه وتطلعاته وأحلامه في حياته اليومية.
3 – التوحد مع شاب أصبح رمزا حاضرا طول الاحتجاجات… كان هذا الشاب الشهيد – محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 امام مقر الولاية – الشرارة الأولى لانطلاق مواكب المعارضين الساخطين على السلطة التي لم تتردد في قتل أبناءها. فقد كانت روحه حاضرة بقوة كبيرة في صفوف الاحتجاجات، وكان هذا الحضور في ذهن الثائرين بمثابة أمر يعطيه لهم دون انقطاع لمتابعة الطريق حتى النهاية أي النصر أو الشهادة. وهنا يكمن على ما يبدو الشرط الجوهري لتحقيق المستحيلات والمعجزات، ونقصد به أن لابد من التضحيات إن كان الشعب يريد التحرر من العبودية والحفاظ على إنسانيته وكرامته، أن لابدّ من تجاوز حاجز الخوف.. فإذا كانت نفوسُ التونسيّين الذين سقطوا في ساحة الدفاع عن حقوقهم دون خوف من السلطات المستبدة هي نفوس شريفة وعظيمة، فإنّ هذا يرجع إلى اعتبار أصحابها شهداء ماتوا في سبيل الحرية. وهنا لابد من وقفة احترام واعتراف، ملؤها التأمّل والإنصات، أمام ظاهرة صنع الفعل الثوري عند شهيد الحرية. إنّ في كل قطرة دم تراق في حلبة الصراع ضد الظلم والتعدّي، وعدٌ بولادة الحياة وانبثاقُ ألوفٍ من الاشواق التواقة للإرتماء في أحضان الحرية.
نعم، كان للشهيد محمد البوعزيزي موعد مع التاريخ لأنه قام بلعب دور كبير في خضم لحظات حساسة على مسرح الأحداث الكبرى… وهو كالبطل الاغريقي كائن تراجيدي تأخذ أقواله وأفعاله عظمتها من جسامة المأساة التي يعبرها – مع أسرته والمجتمع الذي يعيش فيه – في أوقات هي من التعقيد والصعوبة بمكان، تسيطر عليه فيها الشكوك والظنون، وتحوم به التهديدات والمخاطر من كل جانب… ماذا يفعل في وجه أعداءه وكل قوى الظلام والليل التي تستبد بعقله وهواجسه؟ مرّر رسالة بعيدة المعنى ومشحونة بالمسؤوليات الثقيلة، إلى كل من كانوا في مثل وضعيته وهم كثيرون جدا، وهو يقول لهم في آخر كلمات كتبها على حائطه في الفيسبوك قبل اقدامه على محاولة الإنتحار: “ضايع في طريق ماهو بيديا… رايح من غير رجوع… أنا عييت… مسافر ونسأل زعمة السفر باش ينسّي”. (2) الإحساس بالضياع وعدم القدرة على التحكم في حياته التي يملك الطغاةُ ناصيتها أدّيا به إلى الشعور العميق بالإرهاق والتعب والعياء، والتأكد من أنّه لا يمثّل شيئا في وطنه عند الحاكمين… فكانت من هنا فكرةُ السفر من أجل النسيان والراحة. وفهم الشبابُ مرامي الرسالة فلبّوا نداءَه وشمّروا عن سواعدهم فكسروا حاجز الخوف وارتموا في الشوارع ودخلوا معمعة المعركة، متظاهرين متضامنين مع طلبات أخيهم الذي قبل أن يقدّم نفسه قربانا وفداء على محراب الحرية… وسقط شهداء آخرون.
يختلف الشهداء عن باقي الناس بقوّة وعمق قناعتهم بالقضايا العادلة التي يؤمنون بها إلى درجة أنهم يشهدون بذلك عن طريق التضحية بأغلى ما يملكون وما يحبوّن: الحياة. الشهداء يوَقِعون شهادتهم في سبيل الحق والعدالة بمداد، لا يضاهيه أي مداد ولا ثمن له، اسمه الدم. إنّ الشهداء يكتبون اسم القيم العليا التي تشبّعت أرواحهم بها من مثل الحرّيّة والعدالة بقلمٍ ومدادٍ اسمهما الحياة والدم، وكلهم حبّ للحياة واحترام للدم. وما هذه المفارقة السطحية الملفتة للإنتباه إلا دليلا على الأبعاد التي يأخذها معنى الحياة عند الشهيد.
الشهيد لا يموت لأنه يقوم بفعل يؤدّي من خلاله شهادة تُوَثِق علاقته بالحياة أي أنّ الشهادة لا يقوم بها إلا من كان حيّا ظاهرا وباطنا. شهادة الشهيد فيها من الصدق مع الحق ما تعجز عنه الكلمات والأفعال ولا يوفيها معناها إلا التضحية بالروح كرمز للتلاحم مع الحقيقة وبناء إطار لمستقبلها المليء بالأمل والتفائل.
الشهيد يظل حيّا في ذاكرة الإنسانيّة التي تذكُره وتتذكّره لأنّه ساكنٌ في وَعْيها ويذكّرها على الدوام بالقضية التي ناضل من أجلها. الشهيد مستقِرّ في ضمير الإنسانية باسمه وصورته وصوته أيضا. إنّه أسماءُ وصورُ وأصواتُ كلّ الذين يسيرون على دربه ويحتذون بتضحيته العظيمة. الشهيد هو الطريق وشعابه شتى ولامتناهية. الشهيد يشكّل بالضرورة جزءا لا يتجزأ من واقع الإنسانية النفسي والروحي والأخلاقي. وله من مساحة التاريخ فضاء رحب جدا.
بل له فيما وراء الأرض والإنسان والمكان، والزمن والتاريخ، حق الدخول من باب الفرح والسعادة إلى عالم الخلود ودار البقاء، يحضى بقرب ربّه وخالقه أي برضاه ورحمته…
أستاذ وباحث يقطن بفرنسا