العِبَر الأهم من الدرس التونسي!
لمى خاطر
ربما لا يتعين على المتابعين للشأن التونسي الإسراف في التأكيد على أن ثورة تونس قد أسقطت نظام الاستبداد إلى الأبد، وربما من الأسلم رصد ما يمكن أن تتمخض عنه انتفاضة الشعب التونسي قبل التفاؤل بإمكانية انتقال عدوى الكرامة العربية إلى بقية حواضرنا. لكن مكابح التفاؤل تلك أو مؤشرات التشاؤم لا ينبغي أن تصرف أنظارنا عن تاريخية الحدث وأهميته وعامل المفاجأة الكبير الذي تضمنه، ودلالة سرعته القياسية في الإطاحة برأس النظام بعد شهر من اندلاع الهبة الشعبية وسقوط 90 شهيدا فيها.
ليس لدي شك بأن كل الحالمين بثورة الجماهير العربية على واقعها، وكل المنظّرين للتغيير والمبشرين بإرهاصاته ما كانوا يتوقعون أن تبزغ خيوط فجر التغيير الأولى من بلاد المغرب، وتحديداً من تونس، فالساحات التي كان فيها متنفس معقول من الحرية وقدر أقل من القمع وتقاليد الحكم الحديدي كانت تبدو الأقرب لحمل مشعل التحوّل أو على الأقل للإسهام في التغيير وتحدي النظم البوليسية التي تحكمها، وذلك لم يأت من فراغ، بل لأن الصورة النمطية التي انطبعت في أذهاننا جميعاً وبعد عقود من العتمة التي خيّمت على فضاءاتنا العربية قد أورثتنا قناعات مفادها بأن أي شعب يحكمه نظامه بالحديد والنار وسطوة البساطير لا بد أن يتآلف مع عبوديته ويألف العيش في ظل الهوان، وأن يستكين للأبد أمام بطش النظام، وتتحول اهتماماته بالمطلق إلى لقمة عيشه، بعد أن يطلّق حاجته للكرامة، بل يصبح رقيباً ذاتياً على نفسه والمحيطين به، ويغدو يداً معينة لسياسات النظام دون أن يدري!
غير أن هبوب رياح الثورة على تونس بالذات بات كفيلاً بقلب كل النظريات الفائتة حول جدلية العلاقة بين القامع والمقموع، وحول جدوى الهيمنة المطلقة لأي نظام على وعي الجماهير وتحكمه في اتجاهات تفكيرها وفي أدق تفاصيل حرياتها، الأمر الذي ينبغي أن يؤسس لنظريات جديدة بهذا الخصوص، وأن يحمل عبراً بليغة لبقية رموز الدكتاتورية في أوطاننا. فإن كان يبدو غير معقول أو منطقي أن ينهار في غضون شهر نظام كامل حصين ظل طوال ثلاثة وعشرين عاماً يبني دعائم سطوته، ويتغول بشتى الوسائل وأعجبها على إرادة شعبه، فإن ما يبدو صادماً أكثر أن تفلح شرارة صغيرة لم تكن ذات بال في حسابات النظام وزبانيته في التمدد إلى الحد الذي أوصلها لتطيح برأس النظام وتحرق مراكبه!
ما ينبغي أن يفهمه طغاة العصر في بلادنا أن الشعوب التي ذاقت مرارة الظلم لا يمكن أن تنسى ما أحاق بها، وأن شدة ضيقها وتعمق أزمتها وكبت أنفاسها لا يسهم سوى في جعلها تزهد بحياة يفضلها الموت، وفي التعجيل بإجبارها على حسم خياراتها ونفي التردد من قاموسها، ولذلك وجدنا ثورة تونس تتصاعد حتى وهي تقمع بالرصاص الحي الذي أغرقها بالدماء، وحتى وهي ترى رئيس النظام في حالة إذلال غير مسبوقة حين خرج ليخدّر الشعب بوعود جديدة، قبل أن يفهم أن التاريخ قد قال كلمته وأن ثورة الشعب لن ترضى بأقل من رحيله.
إن هذا النظام الذي بالغ في تعدّيه سابقاً على الحريات، وكان باسم الحرب على الإرهاب والإسلاميين يحارب الدين ويجفف منابعه من عروق الشعب التونسي، ويتفنن في إجراءات القمع وترهيب النفوس، ويحتكر خيرات البلاد وينهب ثرواتها، لم يدر بخلده أن مقتله سيكون من شرارة صغيرة يشعلها شاب بسيط ثم بعض المتضامنين معه الذين لم تحركهم اعتبارات حزبية، وكان عنوان تحركهم مطالب حياتية متواضعة، قبل أن تتسع رقعة المواجهة ويعلو سقفها ليصبح عنوانها إسقاط الدكتاتور، ثم تطورت بعد سقوطه إلى هدف أسمى يتمثل في إزاحة النظام بأكمله وبكل متعلقاته، ومحاولة منع أي التفاف على إرادة الجماهير.
إن الهوس (العربي) بكرسي الحكم، وإنكار سنة التغيير وحتمية تداول السلطة لن يظل مهيمناً على رقاب الشعوب إلى الأبد، ولعل ثورة تونس بكل تجلياتها قد أفهمت الرموز الحاكمة رغماً عنها أن دوام الحال من المحال، وأن ساعة الحساب لا بد آتية، وأن القمع لا يصنع نظاماً حصيناً مهما طال أمده، وأن القلاع المبنية من جماجم الأبرياء هي مجرد هياكل ورقية آيلة للزوال في أية لحظة عابرة من التاريخ، والأهم من ذلك أن ضريبة الرضا بالانتقال من كرسي الحكم إلى صفوف المعارضة إذا ما خسر النظام الحكم بطريقة نزيهة هي أهون ألف مرة من ضريبة الانكسار المفاجئ بفعل قبضة الجماهير بعد عقود من الهيمنة المطلقة وسياسة الحزب الواحد.
أشك أن يكون درس تونس كافياً ليبشر بإصلاحات سياسية وأمنية واقتصادية في طول بلادنا العربية وعرضها، والدليل الأطرف على ذلك أن الإعلام الرسمي لبعض الأنظمة منشغل هذه الأيام برصد الفروق بين تجربتها والتجربة التونسية، وبادعاء أنها قد حققت لشعبها رخاءً اقتصادياً أو في طريقها لذلك، وبأنها لم تحظر الحريات ولم تكمم الصحافة..الخ، وينسى هؤلاء أن لكل نظام علاته ومحطات إخفاقه حتى لو لم تشابه التجربة التونسية، لكنها حتماً تتقاطع معها في كثير من المحاور، وتبشّر بـ (بوعزيزي) آخر يشعل الشرارة في مكان وزمان وسياق مختلف!