ما بعد ثورة الياسمين
مولاي إسماعيل العلوي
أربعة أسابيع فقط كانت كافية للشعب التونسي البطل كي يصنع الحدث ويسرق الأضواء من العالم كله، فقد دخلت انتفاضته المباركة التاريخ من أوسع أبوابه، فاسحة المجال لجلاده الجبان أن يخرج متسللا من الأبواب الخلفية، ليبحث له عن مكان يؤويه من غضب شعبه، ومما زاد من مرارة نهايته المهينة رفض “حاكم الفرنجة” استقبال حليفه الحميم في بلاده، ودفعه للاحتماء بالكعبة الشريفة في البيت الحرام.
شئ من التاريخ:
إن المعلم العظيم (التاريخ) لا يبخل علينا بالدروس والعبر، ويحتوي في صفحاته، المشرقة منها والمظلمة، كل ما نحتاج إليه من دروس لحاضرنا ومستقبلنا، إلا أن شهوة السلطة والتحكم، والجشع والطمع تعمي الأبصار عن الاستبصار والاعتبار. في عهد ملوك الطوائف لم يلبث البطل يوسف ابن تاشفين أن استجاب لنداءات “الشعوب” بالأندلس وممثليهم من العلماء والقضاة فسعى إلى توحيد الدويلات المتنازعة فيما بينها، إلا أن التاريخ سجل محاولة بعضهم الاستعانة بالفرنجة ليستمر في ملكه وغيه، ضدا عن رغبة الشعوب وصدا لحملات المرابطين، ولكن الفرنجة كعادتهم رفضوا تقديم المساعدة لطالبيها في الأوقات الحرجة، وروت كتب التاريخ أنهم “كانوا في حينها أضعف من أن يقدموا على أية حماقة يعرفون سوء عاقبتها”!، وهي الحماقة ذاتها التي خشي ساركوزي من ارتكابها، إذ لم يجرؤ على مد عجلة النجاة لصديقه الجنرال الفار ليلا من شعبه الأبي وجيشه الوفي.. فبهذه الانتفاضة التونسية المباركة حجز الشعب التونسي موقعا مميزا له في كتاب التاريخ العظيم وفي صفحاته المجيدة والمشرقة، 23 وعشرون يوما فقط كانت كافية لإزاحة ظلم وتجبر وتغول استمر 23 وعشرين سنة كاملة، وأجبرت ثورة الياسمين لسان الجلاد على التلعثم ويديه على الارتعاد، وأطلقت أخيرا ساقيه للريح..!!
صدق من قال ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين، إن التاريخ البشري على امتداد هذه الأرض الذي تجاوز آلاف السنين مليء بآلاف الأمم والحضارات والدول والإمبراطوريات والقبائل والجنسيات و”العظماء” الذين سادوا وجاروا ثم بادوا، بغض النظر عن دياناتهم أو ثقافاتهم أو جنسياتهم، فأغلب الأمم الصاعدة ورموزها الواعدة ترفع شعار العدل ورفع الظلم عن الخلق فتميل إليها أفئدة الشعوب والجماهير، وما أن تتمكن حتى تعيد إنتاج ما جاءت لمحاربته، حيث يسري الفساد والظلم والاستبداد في شريان الدولة ورموزها ليجري عليها القلم، وتخضع مرغمة للسنن التي لا تحابي أحدا، فتلفظها الشعوب وتبصق على قبورها، ويسجلها التاريخ في صفحاته السوداء.. ويرجع سبب قلة الاعتبار أو انعدامه إلى أن شهوة السلطة ولذة الطغيان وشدة الطموحات الشخصية والأطماع، المعششة في نفوس الحاكمين ومن يدور في فلكهم، تعمي أصحابها عن استحضار سوء العاقبة والاستفادة من مصير من سبقوا من الطغاة والجبابرة المستكبرين في لأرض
طراز آخر من الولاة:
لم تضق يوما صفحات التاريخ بتسجيل أسماء الظالمين بشتى مستوياتهم، وما زال في الكتاب متسع للمزيد، والصفة الثابتة للتاريخ هي أنه لا يرحم، فالحقيقة يمكن أن تختفي لبعض الوقت، ولكن من غير الممكن أن تختفي كل الوقت، ولن يضيع حق وراءه طالب أبدا مهما طال الزمن، وإذا كان الظالم مدفوعا بشهوة التسلط وحب الجاه والرياسة فإن المظلوم قد جبل على حب الحق والإنصاف والعدل، وكره جلاديه والتمرد عليهم، فلم يخل عهد من ثورة أو تمرد أو إعلان عصيان على ظلم وال أو تجبر أمير أو طغيان سلطان، ليستمر التدافع والصراع على هذه الأرض إلى ان يعم العدل أرجاءها ويرثها الله ومن عليها.. وكما سجل التاريخ سير المتجبرين ومظالمهم ونهاياتهم المأساوية في هذه الحياة الدنيا، لم يغفل تسجيل صفحات ناصعة للعديد من بني البشر ممن نجحوا في نشر العدل بين الناس على اختلاف أصنافهم وتوجهاتهم، فنقشوا سياساتهم العادلة في قلوب رعاياهم فبايعوهم وأحبوهم وساندوا خياراتهم وانخرطوا في تنفيذ مشاريعهم، وقليل ما هم..
فهذا عبد الرحمن الغافقي، قليل منا من يعرفه، ولكن ساركوزي ومؤرخو الفرنجة يعرفونه جيدا، فقد أفرد له التاريخ فقرات ناصعة بين صفحاته المجيدة، فقد شاءت الأقدار أن يتم تعيينه واليا على الأندلس في فترة عصيبة جدا، عرفت تفاقم الخلافات بين القبائل وتمرد المغاربة من البربر، وفساد الجيش وفقدان الاستقرار، وفي عز الفتن والمؤامرات والاضطرابات، التي أصابت الأندلس في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، إلا أن المؤرخين قد أجمعوا على أنه “كان طرازا آخر من الولاة الذين تعاقبوا على حكم الأندلس” وسجل التاريخ انه ” لم تنته هذه الحالة المضطربة إلا بتعيين عبد الرحمن الغافقي واليا على الأندلس في(صفر 113ه/أبريل 731)”، فما سر نجاحه في قمع الفتن وتجميد الصراعات القبلية وتوحيد الجميع تحت رايته؟
إن وصفته السحرية تكمن في تجرده القبلي، ورفع المظالم، وفرض الضرائب على الجميع بالمساواة والعدل، و”اجمع المؤرخون على انه كان متحررا من العصبية القبلية، حسن السيرة، عادلا، مجاهدا، دائبا على الغزو” 1، وبدأ ولايته بجولة قام بها في مختلف أرجاء الأندلس للاطلاع على أوضاعها، وتنظيم شؤونها، وعين على ولاياتها حكاما أكفاء عادلين، واعتنى بالجيش وبتقويته وكسب ثقته، بل قد أحبه الجند واحترمه الجميع والتزموا بالطاعة له…هكذا نجح الغافقي في كسب القلوب والعقول والسواعد بمختلف أطيافها، واعترف له النصارى انه عاملهم في أرضه معاملة سمحة لم يحلموا بها من قبل.. وبعد استشهاد الغافقي على أبواب فرنسا، تم تعيين عبد الملك بن قطن الفهري واليا على الأندلس، وزوده الخليفة بالنصائح والتعليمات وأمره بان يعمل على حماية المكتسبات وتوطيد هيبة الدولة، إلا أن هذا الوالي الجديد قد اتصف بالتعصب الشديد لقبيلته، كما كان فظا شديد البطش بخصومه ومخالفيه، فتفرقت عنه العامة والخاصة، وأدت سياسته إلى ظهور الخلاف بين القبائل، وطفت على السطح بوادر الفتن، واندلعت الثورات مجددا في الولايات المتمردة على سياسته الخرقاء، مما كان دافعا إلى عزله فورا.. والغريب العجيب حقا أن حكامنا وولاتنا في أيامنا هذه يعيدون إنتاج الحيف ذاته والبطش نفسه والجشع عينه، مما يؤدي حتما إلى لفظهم من قبل شعوبهم، وكرههم، وخلعهم، وعزلهم، بل والسعي بكل الطرق لإضعافهم والتخلص منهم، ورميهم في مزبلة التاريخ، هم وبطانتهم، وكل الدائرين في فلكهم غير مأسوف عليهم.
انتفاضة لها ما بعدها:
إن الانتفاضة التونسية المباركة لها ما بعدها، ولم تترك مجالا لكل مستبد منذ الآن إلا الاستماع لآلام شعبه والانصياع لتطلعاته والاستجابة لآماله، فكل الانتفاضات بعد الانتفاضة التونسية المباركة ستكون أسهل، فإذا كان شعب صغير مسالم قد استطاع في أسابيع معدودة أن يجبر ديكتاتورا كبيرا متغولا على الفرار، فما بالك بالشعوب التي سجل تاريخها العديد من الانتفاضات والثورات طلبا للعدل والإنصاف والكرامة..
ولم يكن الشاب التونسي محمد البوعزيزي يعلم أنه بإشعال النار في جسده قد أشعل شرارة انتفاضة أحرقت ورقة توت الديكتاتور، ولم يقف صدى كابوسها عند الجيران الأقربين فقط، بل تعداها ليصل إلى الشام و شنقيط وأرض سبأ وأم الدنيا والمملكة الهاشمية وبلاد السودان ..
فاستباقا لانتقال الشرارة للمغرب الأوسط من المغرب الأدنى سارعت الجزائر إلى تطويق الاحتجاجات المتصاعدة في بعض الولايات بطرح كميات إضافية من القمح في الأسواق، وتخفيض أسعار الطحين والبقوليات، وكذا اعتماد صرف منحة شهرية بقيمة 2500 دينار جزائري (32 دولارا) للمتخرجين من الجامعات ومراكز التأهيل العليا، إلى حين دخولهم مجال العمل. ومع ذلك أقدم عدة شباب جزائري عاطل عن العمل على حرق نفسه في مختلف الولايات في كل من تبسة وجيجل وبومرداس على نهج محمد البوعزيزي..
وفي ليبيا تم التصدي لصدى الانتفاضة، التي تدق الأبواب عبر بلدة بنكردان الواقعة على الحدود مع ليبيا، بإلغاء كل الرسوم الجمركية وغيرها على المواد الغذائية الأساسية، كما اقتحم آلاف الليبيين عدة وحدات سكنية وسيطروا على شققها أمام قوات الأمن التي انسحبت من المكان بعد توصلها بأوامر عليا بعدم اعتراض المحتجين ومنعهم من الاقتحام . وتكرم الزعيم الثائر المسلم بفتح سوق العمل في بلاده أمام التونسيين دون أية قيود، ولم يفته أن يلومهم على تعجلهم في طرد زميله الذي يرى انه أفضل من يحكم تونس على الإطلاق..!!
وفي نواكشوط نظمت المعارضة الموريتانية مسيرة سلمية احتجاجاً على الفقر والفساد، ومساندين زملاءهم في تونس، وحثت الأحزاب العشرة المشاركة الرئيس والحكومة على اتخاذ إجراءات عاجلة لضبط الأسعار المتصاعدة. وقال الناطق باسم المسيرة إن الموريتانيين بحاجة إلى “الغذاء والسكن والعمل والصحة” وقد حان الوقت لتحقيق التغييرات الإيجابية، ودعا إلى فتح حوار بين الحكومة والمعارضة..
أما في المغرب الأقصى، فبمجرد ما نشرت صحيفة “أخبار اليوم” المغربية خبر ارتفاع أسعار بعض المواد الاستهلاكية (خلال الانتفاضة التونسية)، حتى سارعت الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالشؤون الاقتصادية والعامة إلى نفي أي زيادة في أسعار السكر وباقي المواد المدعمة من الدولة، “بالرغم من ارتفاع أسعار هذه المواد في الأسواق الدولية” على حد قولها، إلا أن الصحيفة ذكرت أن ثمن بعض المواد قد ارتفع بالفعل وأن القطاني بدورها لم تسلم من موجة ارتفاع أسعارها، مما يعني أن هناك من لديه ثقة عمياء في “سكون” الشعب، مما يشجعه على “المغامرة” بالزيادة في هذه الظروف، مراهنا على”الغفلة” واعتماد الأساليب القديمة في رفع الأثمان بليل دون الإعلان عنها ليفاجأ بها المواطن في الصباح، فتصبح واقعا لا ولن يرتفع إلا برفض أو انتفاضة..
القاسم المشترك بين كل التحركات الشعبية والاحتجاجات السلمية، التي خاضتها الشعوب العربية في الأسابيع القليلة الماضية، هو أنها جميعها ذات طبيعة اجتماعية، مما يعني أن الحكومات العربية، التي تململت شعوبها في شمال إفريقيا وغيرها، قد فشلت في ضمان الكرامة لمواطنيها بتوفير الحاجات الإنسانية الضرورية، وأن حكامها لم يشبعوا قط من استنزاف جيوب رعاياهم، والاعتماد على تلك الجيوب الصغيرة والكثيرة في إثراء فئة وأسر قليلة فاسدة ومتنفذة، مما يزيد من نماذج “البوعزيزي” في المجتمع، ومنسوب والاحتقان و”الرفض” و”التمرد” على طبقة “الطرابلسية” الجشعة في كل مكان..
وإذا كانت انتفاضة الياسمين في المغرب الأدنى قد فاجأت الجميع بنتائجها السياسية الهائلة، وفشل الرصاص الحي وبطش الأمن الرئاسي للزين في إرغام الشباب التونسي على إيقاف انتفاضته، وانتهت بفرار الديكتاتور بعد أربعة أسابيع، فإن بطش جنرالات المغرب الأوسط قد نجح في إجهاض انتفاضة الشباب الجزائري في أربعة أيام، وان استمرت بعض “المناوشات” هنا وهناك لحد الان.. أما “انتفاضة” جنوب المغرب الاقصى، التي سبقت ثورة الياسمين، فما يميزها هو عدم استعمال الرصاص الحي، ونجاح قوات الأمن المغربية في تفكيك المخيم الاحتجاجي في أقل من ساعة، دون إطلاق رصاصة واحدة، وإن خلف التدخل قتلى في صفوف قوات الأمن دون المحتجين، مما دفع صناديد البوليساريو إلى فبركة الصور لدعم أكذوبة “المجزرة” التي روجوا لها، وكانت فضيحة مجلجلة لهم أفقدتهم الكثير من المتعاطفين معهم، وأتت على ما تبقى من مصداقيتهم، وعدالة قضيتهم المزعومة..
تصدير الثورة !
تنبأ الصحفي الأمريكي “سيمور هيرش” (Seymour Myron Hersh) في محاضرة له بقطر بأن ما وقع في تونس سينتشر بسرعة في المغرب والجزائر بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة، مضيفا أن الزعيم الليبي معمر القذافي سيواجه كوابيس مرعبة بسبب ما حصل لابن علي مثله مثل بقية القادة في شمال إفريقيا.. وإذا كانت الحركات الاحتجاجية الاجتماعية في شمال إفريقيا وغيرها، هي نتيجة فشل سياسات حكومات متعاقبة وحالية وتراكم أخطاء، فيكمن الحل الجذري إذا في إعلان “ثورة” فى أعلى مستوى على السياسات العتيقة المؤدية إلى هذه الحال، والسعي الجاد إلى “تحصين” المجتمع بإطلاق الحريات، وإشراك الشعب وقواه الحية في رسم توجهات عامة جديدة للدولة، تلتزم بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، إلى جانب تفعيل المساءلة لتعزيز الثقة وضمان الشفافية.. إن شمال إفريقيا بطاقاتها الشابة المتقدة قادرة على ربح رهان “الرفاه الاجتماعي”، إذا توفرت الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار في هذه البلدان، فشباب ثورة الياسمين قد قطعوا نصف الطريق بإزاحة الدكتاتور، ويبقى أمامهم تحدي الانتقال الديمقراطي، والتخلص من الرموز الفاسدة للنظام السابق، لينعموا بعهد جديد لم يعيشوه من قبل، وذلك رهين بنجاح الثورة في مرحلتها الموالية بعد استعادة المجتمع المدني التونسي لعافيته، وعودة الهيئات السياسية المختلفة للقيام بواجبها في تنظيم وتاطير المواطنين، والشباب الذي أطلق ثورته بعيدا عنهم..
وفي الجزائر، التي تصدر الغاز والنفط وتنام على عشرات الملايير من العملة الصعبة، فإن أمامها تحدي التخلص من هيمنة المؤسسة العسكرية على الحكم، واسترجاع الحريات المصادرة عن طريق القهر والاستبداد، والقطع مع حالة الطوارئ التي استمرأها الجنرالات الفاسدون والمتسلطون على ثروات الشعب، الذي لم تنعكس على تحسين معيشته وضمان كرامته.
أما في المغرب، الذي يقوده ملك شاب، ويتوفر على مجتمع مدني فاعل، بخلاف باقي دول المنطقة، فإنه المؤهل لتحقيق عدالة اجتماعية ومساواة حقيقية بين المواطنين، وكذا المحافظة على استقرار المجتمع وتعزيز وحدته الوطنية، وأمنه الاجتماعي والسياسي، باحترام إرادة الشعب، والقطع مع “تغول” بعض المقربين من الجهات العليا بالبلاد، فدخول “جرار” مثلا بعجلاته الكبيرة على أرضية سياسية “مبللة” ليس من الحكمة في شيء، كما أن دخول “الصدر الأعظم” على خط تدبير بعض الملفات الحساسة، وهو ليس من ذوي الخبرة والكفاءة، سيزيد الطين بلة والمجتمع فتنة وبلبلة، ويجر البلاد إلى الوراء، ويسرع بتحقيق تكهنات انتقال العدوى من الجيران، التي يروج لها الأمريكان، وأنصح بقراءة سيرة الغافقي عبد الرحمن، وبه تم الإعلام والسلام ..!!
*إعلامي مغربي مقيم بقطر