بعد مذبحة الإسكندرية وثورة تونس: مصر إلى أين؟
فرانسوا باسيلي
سؤالان في مطلع العام الجديد 2011 الأول: هل مظاهر الوحدة الوطنية ووقوف الكثير من المسلمين بجانب المسيحيين في مصابهم في مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية يدل على “عودة الروح” الوطنية الواحدة إلى مصر والمصريين بعد غيبة أكثر من ثلث قرن من التمزق الطائفي والدروشة الدينية؟ والسؤال الثاني هو: هل سيظل النظام المصري يحكم بعد ثورة تونس، بنفس الأسلوب الذي كان يحكم به قبلها على مدي الثلاثين عاما الماضية، وهل يمكن “عودة الوعي” للنظام فيفيق من غفوته ويعيد النظر منتقدا ذاته ومغيرا مساره؟
عودة الروح» في السؤال الأول، و«عودة الوعي» في السؤال الثاني هما تعبيران للمفكر والأديب المصري الشهير توفيق الحكيم. كتب الحكيم “عودة الروح” عام 1933 وأعتبرت نبوءة لظهور المخلص الذي سينقذ مصر من غيبوبتها، وقد تأثر جمال عبدالناصر في شبابه بالفكرة التي دفعته إلى الاعجاب الشديد بالحكيم طيلة حياته حتى حينما كتب الحكيم مسرحيات مثل السلطان الحائر وبعدها “بنك القلق” وفيهما ما يمكن أن يعتبر نقدا لغياب الديموقراطية والحرية في مصر الثورة، ولم يصادر ناصر هذه الاعمال رغم طلب عبد الحكيم عامر بهذا. أما “عودة الوعي” فكتبه الحكيم في عام 1972 بعد رحيل عبد الناصر وفيه قال أن وعيه كان مغيبا طيل سنوات الثورة بسبب سحر وعودها، وأن الوعي قد عاد له الآن(!) وهو موقف بالغ الغرابة من كاتب شهير يطلق عليه لقب “المفكر” شغله الأساسي هو التفكير أن يقول أن وعيه كان غائبا لعشرين عاما! وكان الأكثر صدقا لو قال ان شجاعته كانت هي الغائبة لأن الكثيرين من المثقفين وقتها دخلوا المعتقلات بسبب إعلانهم لمواقفهم ” الواعية” المعارضة ورفضهم التنازل عنها تملقا للسلطة أو رضوخا لها. نموذج توفيق الحكيم مازال موجودا في مصر اليوم في كتاب و”مفكرين” لا يعود لهم الوعي إلا بعد زوال النظام!
عودة الروح؟
كنت أغالب الدموع وأنا أتابع على مدي أسبوع مظاهرة إعلامية وثقافية وشعبية عاشتها مصر بعد مذبحة القديسين في الإسكندرية، فإذا بمصر تهب هبة امرأة واحدة (مصر لدى الكثيرين “هي أمي” ولدى البعض هي “مرات أبويا” مثل مؤلف لكتاب بهذا العنوان) وتسمرت أمام الفضائيات المصرية أتابع مشاهد مظاهرات الوحدة الوطنية التي ترفع شعارات ولافتات الهلال وفي قلبه الصليب، وهتافات تصرخ: “عاش الهلال مع الصليب” والآلاف من شباب مصر وقد وضعوا صورة الصليب في حضن الهلال بدلا من صورتهم الشخصية في مواقعهم على الفيس بوك، وسمعت العشرات من المواطنين تقابلهم الكاميرات في الشوارع فيقولون في عفوية أنهم متألمون لمصاب إخواتهم الأقباط- وأن الجميع أخوة في الوطن الواحد، وكل يحكي عن جيرانه وأصحابه من المسلمين والمسيحيين، وأن مصر وطن الجميع ورحت أشاهد صورة الصليب والهلال بجانب إسم كل قناة طوال الوقت وسمعت عددا من الأناشيد الوطنية تحكي عن حسن ومرقس، وتراتيل دينية ترتل لمحمد والمسيح، فكانت مظاهرة عاطفية وطنية شجية ومؤثرة لم أتمالك أمامها إلا أن أتأثر وأدمع – ثم أنفعل وأغضب متسائلا: وما دمتم قادرين على الارتفاع إلى مثل هذا المستوي من الوطنية والتلاحم والمودة والتراحم فلماذا تركتمونا ثلاثين عاما نتنفس هواء الفتنة الطائفية الملوث ونتطوح في موالد الدروشة الدينية الزائفة البالية؟!
ومن المسئول عن غياب هذه الروح طيلة هذه المدة؟ لقد عاشت مصر أسبوعا بالغ الجمال والعذوبة والأمل والتحضر، آمنت فيه بإمكانية “عودة الروح” إلى هذا البلد الأمين والشعب الطيب المرح الحزين، الذي ارتفع إلى مستوي الحدث وعاد فجأة إلى أصله الحصين ومعدنه الثمين، وسمعنا عن مسلمات محجبات يحملن الشموع وينتظرن خروج الأقباط من كنائسهم ليلة عيد الميلاد لتحيتهم ومجاملتهم بأجمل المشاعر وأنبلها، إن الشخصية المصرية الحقيقية هي تلك التي تنضح بالمرح والمودة والمجاملة، وقد ظهرت على حقيقتها مع عودة الروح إليها في الأسبوع الأول من يناير 2011، أعادتها أرواح أكثر من عشرين شهيدا صعدت لبارئها تشكو ما فعله فيها شقيقها قابيل لدي المسلمين أو قايين لدى المسيحيين. وبقية السؤال هو: هل عودة الروح هذه دائمة أم مؤقتة؟ لقد انقضى الأسبوع الجميل وعاد الإعلام والشارع والناس إلى حالاتهم العادية فهل ستقوم القيادات السياسية والثقافية والإعلامية والتعليمية في مصر باتخاذ إجراءات تجعل من عودة الروح المصرية حالة دائمة وحميمة بعد غياب ثلث قرن؟ هل ستعيد وزارة التربية والتعليم النظر في مناهجها التي قامت بتغييب عقول جيلين كاملين لم يتعلموا أسلوب التفكير العلمي والمنهج العقلاني في التفكير والتساؤل، فأخرجت لنا الملايين من البشر بلا قدرة على التمييز بين الحقائق والخرافات، ولا بين المقاصد السامية للدين وألاعيب المتاجرين به الذين لا يقدمون للشباب سوى فتاوي بائسة وتعاليم مشوهة، فأخرجت الملايين من العصر وأدخلتهم في دوامة من السلوكيات الشكلية والقضايا الوهمية والأحقاد الطائفية. بينما راحت مصر تنحدر بهم إلى قاع الدول في مختلف المقاييس العالمية من تعليم وجامعات وحريات وحقوق وإنجازات وحضارة؟ وستقدم لنا الأشهر القليلة القادمة إجابة لسؤالنا هذا.
عودة الوعي؟
والسؤال الثاني: هل سيعود الوعي للنظام المصري فيغير من أسلوب حكمه بعد ثورة الشارع التونسي التي طردت حاكمها بعد ثلاثة وعشرين عاما؟ لقد كان آخر ما قاله الحاكم المخلوع لشعبه هو: لقد فهمتكم! فهمت ما تريدون! فهمتكم! لا رئاسة مدي الحياة. أكرر: لا رئاسة مدي الحياة! لقد شعرت بالحزن وأنا أشاهد الرئيس التونسي يقول هذا. ألم يكن في مقدوره أن يفهم ما يريده الشعب إلا بعد ثلاثة وعشرين عاما ومائة شهيد برصاص قوات أمنه في الشوارع؟! وهل يقبل أحد مثل هذا الاعتراف والإعتذار الإضطراري المتأخر جدا؟ كيف لا يفهم حاكم في نظام جمهوري أن الشعب لا يريد رئاسة مدى الحياة، أي لا يريد نظاما ملكيا متخفيا في زي جمهوري؟ كيف لا يفهم حاكم أن الشعب ليس قطيعا يساق في طاعة أبدية حتي لو كان الزيف والبلطجة السياسية هي في أساس النظام نفسه الذي يدلس على الجماهير في هويته فيشوه جوهر الجمهورية ويحولها إلى ملكية مقنعة؟! كيف يستمر حاكم في إهانة شعبه إلى هذا الحد؟
لقد قام الحاكم التونسي المطرود في سنوات حكمه الأخيرة بإقصاء كامل لقوى المعارضة السياسية عن البرلمان والساحة ووضع رموزها في السجون وهرب باقيتهم خارج البلاد، واستراح إلى ذلك متوهما أنه نجح في التخلص من “وجع الدماغ” الذي تسببه كل معارضة في النظم الديموقراطية- والمؤسف أن الحاكم المطرود كانت له إنجازات لا تنكر في بعض المجالات في فترات من حكمه مثل النهضة التعليمية حتى أن الأمية في بلده انخفضت إلى 10 في المئة بينما تصل إلى 40 في المئة في مصر، وكانت له مشروعات عمرانية وسياحية ناجحة، ولكنه في نفس الوقت منع رياح الديموقراطية عن البلاد وحكم حكما بوليسيا بقبضة الأمن وسمح لعائلته وزبانيته من التغول في الثراء فاستشري الفساد وعم البلاد. فإذا بخريجي الجامعات يضطرون للعمل بائعي خضروات ورغم ذلك يطاردون من رجال وسيدات الأمن حتى صفعت إحداهن الشاب الشهيد البوعزيزي على وجهه ورفض الأمن تسجيل شكواه عندما لجأ إليه فأشعل النيران في جسده أمام وزارة الداخلية وهو لا يعلم أنه بذلك قد أشعلها في قلوب كل التونسيين فثاروا لأجله ولأنفسهم ولم يهدأوا حتى طردوا الحاكم الذي حرمهم من الحرية والكرامة.
لقد جاءت ثورة الشباب التونسي بعد شهرين فقط من آخر انتخابات لمجلس الشعب المصري والتي “نجح” فيها الحزب المصري الحاكم في إقصاء كل قوي المعارضة في مصر فخلت له الساحة البرلمانية تماما! ووقف السيد أحمد عز مدبر السياسة الانتخابية لحزبه يتباهي بهذا النجاح الساحق الماحق- غير مدرك أن مثل هذا النجاح المتطرف الذي شابه الكثير من السلوكيات الغير قانونية لا يمكن أن يكون عملا مفيدا أو صحيا للنظام السياسي في مصر- لإن إقصاء المعارضة عن كافة المجالات المشروعة قد يدفعها إلى اللجوء إلى التعبير عن نفسها بطرق غير مشروعة وهو ما لا نريده، وقد تدفع الشباب المصري الصابر الذي لا يجد له دورا في اللعبة السياسية إلى الجنوح نحو التطرف والوصول إلى أعمال العنف وهو ما نخشى منه على مصر، وقد كان إقصاء المعارضة التونسية أحد أسباب الانفجار الأخير، فهل سيراجع النظام المصري نفسه بعين موضوعية خالية من غطرسة القوة ونشوة النجاح المتطرف ويقوم – قبل فوات الوقت- باستعادة الوعي بحقيقة الأوضاع في الشارع المصري وخطورة تأثير “نجاحاتهم” الوهمية على مشاعر المواطنين وعلي رغبتهم المشروعة في ممارسة حق المعارضة السياسية فعليه النظر في الاصلاحات الأساسية التالية:
الاعتراف بالأخطاء التي وقعت في الانتخابات الأخيرة وإعادة الانتخابات في عدد من الدوائر التي وقعت بها هذه الأخطاء لكي تعود المعارضة لتمارس دورها داخل البرلمان بدلاً من دفعها لأن تمارس دوراً آخر خارجه مثل البرلمان الموازي الذي أعلنته المعارضة والذي يمكن أن يكون نواة لاشتعال حركة معارضة أوسع في مصر.
• القيام بتعديل عدد من المواد الدستورية التي تعوق الديموقراطية الحقيقية وتبادل السلطة منها تحديد مدة الرئاسة إلى فترتين فقط، وكذلك تعديل المواد المفصلة للحد من قدرة المعارضين على ترشيح أنفسهم للرئاسة لكي يمكن للمواهب السياسية المتوفرة في مصر أن ترشح نفسها.
• رفع يد النظام عن الصحف القومية في مصر كالأهرام والأخبار والجمهورية وغيرها وإيجاد حلول إما بتخصيصها أو تمليكها للعاملين فيها حتي نقضي على ظاهرة النفاق السياسي الفج الذي يمارسه رؤساء تحرير هذه الصحف للنظام القائم وحزبه الحاكم. فهذه ممارسات من مخلفات أساليب الاتحاد السوفيتي البائد بحكمه الشمولي وحزبه الأوحد وصحفه الدعائية الرسمية البالية، ولا يصح أن تظل مصر تمارس أساليب الاتحاد السوفيتي المنحل.
• حتى لا نصل في مصر الحبيبة إلى وضع يضطر فيه الحاكمون والمسئولون إلى الصراخ فهمتكم!! لا رئاسة مدى الحياة! لا رئاسة مدى الحياة! فيمكن للرئيس مبارك أن يدخل التاريخ ويسري قاعدة ديموقراطية هامة بأن يعلن في أقرب فرصة أنه لن يرشح نفسه مرة أخري للرئاسة هذا العام- وأن يعلن أيضا هو وأبنه السيد جمال مبارك ما اعلناه من قبل أنه لن يكون بمصر توريث، ولذلك يعلن جمال مبارك أيضا عدم ترشيحه للرئاسة هذا العام حتى لا تكون هناك أية شبهة للتوريث إذا ما رشح في مناخ وتقاليد فرعونية تدفع بكافة أجهزة الدولة بالانحياز التلقائي لأي شخص من طرف الرئيس في أية انتخابات مما يفقدها العدالة والشرعية، وستبقي أمام السيد جمال مبارك فرص لترشيح نفسه في المستقبل بالطبع بعد أن يحتل الرئاسة شخص أخر من خارج العائلة، كما حدث في حالة الرئيس بوش الأصغر الذي رشح نفسه وأصبح رئيسا ولكن بعد أن كان كلينتون قد أحتل الرئاسة لمدة دورتين بعد دورة بوش الأب.
• إذا قام النظام بهذه الخطوات الإصلاحية هذا العام قبل انتخابات الرئاسة في نوفمبر يكون قد حقق قدرا كبيرا من عودة الوعي المطلوبة لسلامة أمن مصر وتحقيق أمنيات شبابها المشروعة في مستقبل أكثر إشراقا وجمالا ونظافة، أما إذا لم يعد الوعي للنظام فإن عودة الروح للمصريين ستعني أنهم لابد سيجدون أنفسهم يهتفون بالآلاف كما هتف الشباب التونسي في الشوارع أبيات أبو القاسم الشابي العبقرية: إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر.. ولابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أن ينكسر.
فأي الخيارين سيختار النظام في عام الحسم هذا الذي بدأ بمذبحة في الاسكندرية وثورة في تونس وسينتهي نهاية ستكون فارقة في تاريخ مصر؟
كاتب من مصر يقيم في نيويورك