انهيار نموذج الدولة الفريدمانية التابعة: تونس كنموذج
ثائر دوري
نهاية عام 2008 حدث زلزال هائل دمر الأساس الفكري الذي ينهض عليه النظام الرأسمالي القائم، لاسيما طبعته الأشد تطرفاً التي تمثلها الايديولوجية الفريدمانية، فقد ظهر جلياً أن السوق ليس عقلانياً، وأنه غير قادر على تنظيم نفسه بنفسه. كانت هذه الأزمة طعنة قاتلة في قلب النظام الرأسمالي، أدرك بعدها كل العقلاء أن هذا النظام – خاصة طبعته الفريدمانية- لن تكتب له الحياة بعدها، رغم كل الأمصال ونقل الدم الإسعافي، ووحدات العناية المركزة التي عملت ليل نهار على إنقاذه، لكن كل ما فعلته أنها أبقت هذا النظام في حالة تسمى الموت السريري، جسد حي بواسطة الأنابيب والمنافس الاصطناعية ونقل الدم المتكرر، لكن الدماغ ميت، وبالتالي فقد بات بدون مستقبل. وصار موته الجسدي مسألة وقت، أو مرتبطا بقرار يتخذه المعنيون بإيقاف تزويده بالأمصال وسحب اجهزة التنفس الاصطناعي والأنابيب من جسده. حاله كحال شارون، الذي يرقد في سبات منذ سنوات، يتنفس بواسطة جهاز التنفس الاصطناعي، ويتغذى بالأمصال.
استولت الفريدمانية على السلطة في المراكز الرأسمالية، وتحديدا في كل من بريطانيا والولايات المتحدة منذ ثمانينات القرن العشرين، ثم بدأت تطبيق برنامجها بشكل موسع، بعد أن أجرت تجربة مبكرة في تشيلي بينوشيت في سبعينيات القرن العشرين. وخير من وصّف هذا النظام، الكاتبة الكندية نعومي كلاين، فمن صفاته إلغاء القطاع العام، ومنح الحرية الكاملة للشركات، والحد الكبير للانفاق الاجتماعي. تقول الكاتبة: «في كل بلد تطبق فيها سياسات مدرسة شيكاغو، كان ينشأ تحالف نافذ بين عدد صغير من الشركات الكبرى وطبقة من السياسيين الأكثر ثراء». وتتابع إن التعبير الأدق الذي يصف نظاماً يُسقط الحدود بين الحكومات والأعمال الكبرى ليس ‘الليبرالية’ أو ‘المحافظة’ أو ‘الرأسمالية’، بل ‘المؤسساتية’ ومن الميزات الرئيسية لهذا النظام:
التحويلات الضخمة للثروات من القطاع العام إلى يد القطاع الخاص.
اتساع الهوة بين أصحاب الثراء الفاحش وضحايا الفقر المدقع.
قومية عدائية تبرر الإنفاق اللامتناهي على حفظ الأمن.
انتشر صبيان مدرسة شيكاغو يعيثون خراباً وينشرون البؤس والفقر والمجاعة في كل أنحاء العالم، من روسيا إلى أمريكا اللاتينية وما بينهما، فأصبحوا رؤوساء ورؤوساء حكومات ووزراء اقتصاد، ولم تعد حتى أشد الدول ثورية في الماضي تخجل من الاستعانة بخبراء البنك الدولي، وتطبيق وصفات الخراب التي يجود بها. وهذا يمكن فهمه بدون القدرة على تبريره، إذ لا شيء يبرر بث الخراب والجوع والفقر في المجتمعات. هذا يمكن فهمه في سياق عقد التسعينيات الرهيب، حيث أحكمت الولايات المتحدة قبضتها على العالم، وحيث انعدمت البدائل الفكرية بعد أن أعلنت الرأسمالية نفسها نظاماً كونياً أوحد، لا يتسرب إليه الباطل، وحيث تحول فريدمان إلى نبي الأسواق الحرة، وتحول كتابه (الرأسمالية والحرية) إلى انجيل الأسواق الحرة.
كل ذلك يمكن فهمه حتى حدوث الزلزال الكبير عام 2008. وإذا كان المعنيون في المراكز الرأسمالية أدركوا أن نظامهم بات بحكم الميت سريرياً، كما وصفنا، فإن التابعين في أطراف العالم ظلوا على ضلالهم، فقد استمعوا بجدية كبيرة إلى تطمينات المركز الرأسمالي الذي يتبعونه، بأن كل شيء على ما يرام، وبأن الزلزال عابر وقد تم حصر أضراره، وفي طريق الترميم، وعليكم أن تستمروا. ولم يفهموا أن تطمينات المراكز تشبه تطمينات ربان أيقن أن سفينته تغرق، لكنه مضطر للكذب كي لا تقع فوضى تساهم في التعجيل بغرقها، إن قال الحقيقة للجمهور. فهو يخدر الركاب كي يكسب مزيداً من الوقت لينقذ كل غال وثمين من الركاب والمقتنيات، وبعدها يترك بقية الركاب لمصيرهم المحتوم. هذا ما يسكن في وعي العارفين بالأمور من سكان أمريكا، وتعبر عنه هوليوود بشكل مباشر أو موارب، على سبيل المثال يمكنكم مشاهدة فيلم 2012.
استمر فكر التبعية الذي يحكم الأطراف بالتصرف على أن كل شيء على ما يرام، فاستمر باتباع نصائح صبيان شيكاغو الذين ‘باضهم’ الشيطان فريدمان، فتفاقم الحرمان في جانب، والبذخ والثروات في جانب آخر، ودُمرت الطبقة الوسطى، وحُرمت غالبية الناس من حقها في السكن والتعليم والطبابة المجانية، ولم تعدم أنظمة التبعية من يزين لها خطواتها وتماديها في غيها من مثقفي السوء، والمستفيدين من نهب القطاع العام ونزح الأموال من خزائن الدولة إلى جيوبهم. لقد بقي أرباب الدول التابعة يتصرفون وكأن شيئاً لم يتغير. فإذ بالأرض تزلزل تحت أقدامهم فأخرجت أثقالها، فيتدفق الشعب التونسي إلى الشارع منتفضاً على الجوع والمرض والبطالة، مردداً الشعار القديم الجديد «ليس لدينا ما نخسره إلا قيودنا».
الأشياء تسقط في العقول أولاً، وبعدها تسقط في الواقع. وقد سقط النموذج الفريدماني الرأسمالي في الواقع بعد أن سقط في العقول.
كاتب سوري