أكتب هذه الكلمات ولا يهمّني أعيش أم أموت!
آدم فتحي
فهمتكم قال! بعد ربع قرن؟ فهل ننتظر ربع قرن آخر كي نفهم أنّ سقيفته طويلة وأنّ فهمه ثقيل؟
الآن سأبدأ التغيير قال! ثمّ غيّر موسى الحاج بالحاج موسى وكأنّه يهرب بنا من القطرة إلى المزراب!
من اليوم سنبدأ محاسبة الفاسدين قال! ومن يحاسبُ مَنْ إذا كان ربُّ البيتِ وأهلُه أساتذة الفساد بينما الآخرون مُجرّد تلاميذ نُجباء؟
من اليوم الإعلام حرّ قال! ثمّ إذا نحن نرى أحد عملاء الطرابلسيّة من ممثّلي شركة كاكتوس يدير حوارًا سرياليًّا وكأنّنا أمام ‘ ظلفة هنديّ’ تريد إقناعنا بأنّ حلوقنا هي مصدر الأشواك التي غصصنا بها طيلة سنوات من الإسمنت المسلّح بالرصاص الحيّ!
كيف يمكن الفهم لمن لا يريد أن يفهم؟
كيف يحدث التغيير على أيدي من لا مصلحة لهم في التغيير الحقيقيّ ولا قدرة لهم عليه ولا رغبة لهم فيه؟
كيف تجوزُ المُحاسبة والخصم هو الحَكَم؟
كيف يتغيّر الإعلام بينما المسؤولون عليه والمشرِفون على دواليبه والطبّاخون لمختلف أطباقه السامّة هم نفس المتخرّجين من مدرسة التطبيل والتزمير والبروباغاندا؟
أكتب هذه الكلمات وأنا حيث أنا، بعيدًا عن الكاميرات، نكرةٌ بين نكرات هويّتهم الوحيدة أنّهم أحرار. ولا أدري هل أقرأ كلماتي غدًا أم يُدبّر لي أمرٌ بليل. فالقنّاصة لا يرتدعون وكلّ شيء ممكن. لكنّني لا أريد أن أموت قبل أن أقول.
لا أريد أن أموت قبل أن أقول لتونس مرّةً أخرى، لا تقفي عند نصف الطريق، ولا تصدّقي مسرحيّةً إجراميّة بليدة، كلّ مشهد من مشاهدها هو مزيد من استفزاز أعصاب الناس التي دُمِّرَتْ أصلاً على امتداد السنوات والعُقود وأصبحت أصابع من الديناميت.
لقد جرّبنا كلّ شيء.
بعضُنا هاجر إلى خارج البلاد، وبعضُنا هاجر إلى داخلها، وبعضُنا انتحر وبعضنا احترق وانفجر، وبعضُنا اضطرّ إلى الصمت قهرًا مفضّلاً ذلك على الانخراط في الجوقة، وبعضُنا اختار حرب المواقع، محاولاً أن يُدافع عن بلاده ومؤسّساستها الوطنيّة المُحتلّة شبرًا شبْرًا ودقيقة دقيقة. لكنّ كلّ ذلك لم ينفع. طردونا من الإذاعات ومن التلفزيونات ومن الصُّحف. حرمونا من التصريح واستكثروا علينا حتى التلميح. رضينا بالقليل القليل كي لا نصمت فلا هو فهم ولا مُرتزقتُهُ شبعوا من دوسنا وتهميشنا والتطاوس علينا وإحباطنا وإجبارنا على الحرقان أو الاحتراق.
وها انّ شعبنا يفعل، ويثأر لنا، فهل نتوقّف عند نصف الطريق؟
أقولُ لِتونسَ، أمِّي وصاحِبتِي وذراعي وسُورِي
وصاريتي وشراعي، أقولُ لتونس لا تقفي
عنْدَ نِصْفِ الطَّرِيق ولا تَسْتَدِيري
وإنْ صَرَخُوا في الظَّلامِ ‘ قِفِي’!
لا تُبَالِي وسِيرِي
أقول لتونس:
لا أحد منّا يرضى بأن تسيل قطرة دم أخرى من دم شعبنا…ولا أحد يرضى بأن يرى أمن الناس يُهدّد…ولا أحد يرضى بالعنف…لكنْ علينا أن نفهم أنّ عنف الشارع هو ردّ على عنف السلطة…وعلينا أن نفهم أنّ على عنف السلطة أن يتوقّف كي يستتبّ الأمن.
ثمّ علينا أن نفهم أنّ عنف السلطة متواصل، لا عن طريق الرصاص فحسب، بل عن طريق الرصاص الكلاميّ الذي يتولّى جنوده المزروعون في مختلف فضاءات الإعلام، الاستمرار في إطلاقه بنفس العمى والصّمم والدجل والاستفزاز.
يقولون لا للانفلات الأمنيّ!
نحن أيضًا نقول لا للانفلات الأمنيّ…لكنّ ما نقوله ولا يقولونه أنّهم جزء من أسباب هذا الانفلات الأمنيّ…
عليهم أن يعترفوا بغلطهم. ألم يقل الرجل غلّطوني؟ ألم يعترف بأنّه أخطأ؟ ألم يكونوا هم أكبر المُطبّلين لهذه الأخطاء؟ ألا تشهد مقالاتهم وافتتاحيّاتهم وكلماتهم المسموعة والمرئيّة على أنّهم كانوا أكبر شُرّاحٍ لصواب تلك الأخطاء؟ ألا يعني هذا أنّهم مخطئون هم أيضًا، وعليهم أن يرحلوا بذهنيّتهم وخطابهم ودسائسهم وائتمارهم بالأوامر وتفانيهم في استباق تنفيذها حتى قبل أن تصدر؟
أكتب هذه الكلمات والرصاص يلعلع، والجثث تتساقط، والدم لم يجفّ بعد من على الأرض بل تزداد بِركُهُ اتّساعًا، والقنّاصةُ يواصلون القنص، بينما الجلاّدون ومرتزقتهم يحاولون إعادة تمثيل المسرحيّة نفسها، على الركح نفسه، بذئاب جديدة، بممّثلين بدلاء، بكومبارس الصفّ الثاني الذين تدرّبوا في الدفء على نار هادئة، واستعدّوا منذ سنوات لاستلام مشعل الفساد والخديعة والدجل والنفاق والنهب والسلب، ثمّ ها هم ينقضّون على المنابر لسرقة دم انتفاضة شعبنا، واختطافها، وتحويل وجهتها، ولعب دورهم في مسلسل إجهاض أحلامنا، متعطّشين إلى احتلال الصفوف الأماميّة لازدراد تونس وكأنّها كعكة مُستباحة!
فجأة سمعناهم في الإذاعات وقرأناهم في الصحف ورأيناهم على شاشات التلفزيون، معيدين إنتاج السمّ الزعاف نفسه.
كفى للعنف أي نعم!
لكن كفى لعُنف السلطة وأذنابها أوّلاً!
إنّ بقاءهم في المشهد سبب من أسباب بقاء شعبنا في الشارع! لقد فقد شعبنا الثقة فيهم نهائيَّا، لذلك لم يعد يصدّق الوعود ولم يعد يصدّق الدجّالين ويكاد يفقد القدرة على تصديقنا جميعًا يكاد يفقد القدرة على تصديق نخبته ككلّ.
لذلك على هؤلاء أن يفهموا أنّ بقاءهم في مواقعهم أو على الأقلّ استمرارهم في ممارسة التضليل جزءٌ من الأزمة.
لقد أصبح كلٌّ منهم بمثابة ‘ بن علي’ صغير في موقعه، حتى لو كان هذا الموقع أكواماً من القاذورات، واستمرارهم في الخداع قمّة في استرخاص دم الشّهداء من أبناء الشعب التونسي وبناته! قمّة في الإصرار على الجريمة! قمّة في الانحطاط الأخلاقيّ والغباء السياسيّ! قمّة في قلّة الحياء وفي فقدان ماء الوجه! قمّةٌ في التخبُّط وقمّةٌ في الاستخفاف