واقعنا وأحكامهم المسبقة
ميشيل كيلو
أثار الحدث التونسي استغراب كثيرين من الذين يتابعون شؤوننا العربية، ويطبقون عليها المعايير السائدة في بلدانهم المتقدمة، حيث تتمحور علاقة المواطن مع الدولة حول مسائل اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، وتبقى السياسة ومشكلاتها بعيدة عن وعي القسم الأكبر من المواطنين، الأمر الذي يعكسه الانخفاض المضطرد في أعداد ونسب من يشاركون في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وارتفاع أعداد ونسب هؤلاء في الانتخابات البلدية، ذلك أن البرلمان يناقش مسائل تبدو تجريدية بالنسبة للشخص العادي، في حين تنهمك البلديات في معالجة مشكلاته اليومية، التي غالباً ما تتصل بمعاشه ومدارس أبنائه ومستشفياته ومواصلاته والمعونات الاجتماعية والسكنية التي يتلقاها .
يقول هؤلاء المتابعون في ضوء خبرتهم : إن تونس من أحسن الدول العربية تقدماً على صعيدي التنمية والدخل الوطني والفردي، ويستغربون أن تبدأ منها الثورة التي لم يكن يتوقعها أحد، وربما ما كان يجب عليها أن تحدث، بينما تبقى الشعوب العربية الأخرى ساكتة أو ساكنة، بصورة مطلقة أو نسبية . بعد هذا، وفي نظرة إلى وجه الأمور الآخر، ترى هؤلاء يحصرون أسباب الثورة، بكل ثقة وعلم، في ما يسمونه المسألة الاجتماعية، وترى إعلامهم ينشر صور أشخاص تبدو عليهم علامات البطالة والبؤس، أو صور جموع هائجة ترفع قبضاتها في الهواء صارخة ضد النظام، وقد كتب تحتها: تظاهرات الجوع التي تطالب بالخبز، والعاطلين عن العمل . . . الخ .
هل تلعب الخبرة التاريخية لدى هؤلاء دوراً في إنكار أهمية المسألة السياسية في احتجاجات تونس وتمردها، باعتبار أن مواطنيهم، الذين نالوا حقوقهم السياسية منذ وقت طويل لا يخرجون في تظاهرات من أجلها، خاصة وأنها غير مهددة، وإنما يطالبون في إضرابات ومظاهرات شبه دائمة بمسائل تنصب حصراً على الأجور والأسعار والضمانات الاجتماعية وفرص العمل؟ وهل يظنون أن التونسيين لا يمكن أن يفعلوا غير ما يفعله مواطنو الغرب، وأن مطالباتهم اقتصرت – ويقول اليمينيون منهم بصراحة إنها كان يجب أن تقتصر بالضرورة – على القضية الاجتماعية من وجوهها المختلفة، خاصة وأن التونسيين شعب يحول مستواه العلمي والثقافي، المحدود بالمقارنة مع مستوى الشعوب الأوروبية، بينه وبين تحسس وإدراك أهمية مسألتين خاصتين حتى الآن بالمجتمعات الأوروبية المتقدمة، هما مسألتا الحرية والديموقراطية، اللتان تتطلبان، في معايير هؤلاء، مستوى مرتفعاً من التعليم والدخل- يقدرونه أحيانا ب22 ألف دولار في العام يتيح فسحة من الوقت تكفي للتفرغ للمطالب النوعية، المتمثلة في قيم يظن معظم هؤلاء إنها غربية وليست – أو لا يجوز أن تكون – كونية كالحرية والمواطنة والعلمانية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب وحكم القانون والنظام التمثيلي وتداول السلطة . . . الخ .
لماذا يغلط هؤلاء في شعوبنا ويحملون هذه الصورة المؤذية وغير الصحيحة عنها؟ هل هناك عنصرية ما وراء الطريقة التي يفهمون من خلالها وقائعنا، بما فيها تلك الواضحة والتي لا مجال للخطأ فيها؟ أم إن في الأمر انحيازاً إلى نظم تمسك بخناقنا، وتعاملنا كبشر ليس لديهم بعد حاجات تتصل بإنسانيتهم وكرامتهم وفرديتهم الإنسانية وخصوصيتهم الشخصية، وحقوقهم، يكتفون من الدنيا باجترار طعامهم وابتلاع شرابهم، وتخلو حياتهم من تلك النعمة التي وضعها الله في روح وعقل الإنسان، وجعلته مخلوقاً يتفرد دون سائر المخلوقات الأخرى بالعيش عليها، ألا وهي القيم المعنوية والروحية، التي يعيش عليها بينما يعيش سواه من المخلوقات على الطعام والشراب، فإن خلت حياته من قيم معنوية تحولت إلى حياة بهيمية نافية لإنسانيته، مخالفة للتعاليم الروحية التي أنزلها الله عليه عن طريق أنبيائه ورسله، مغايرة لطبيعته ككائن لا تعوضه عن حريته وكرامته ثروات وخيرات الأرض، والطعام والشراب والملذات الجسدية، فهو يستطيع العيش على حد أدنى من الطعام والشراب، لكنه لا يعيش على حد أدنى من الحرية والكرامة، ويجد نفسه مدفوعاً بقوة طبيعته الإنسانية إلى الثورة والتمرد في سبيل الحصول عليهما، وللتحرر من عسر العيش الذي يعانيه من دونهما، إن هو حرم منهما أو افتقر إليهما، لسبب من الأسباب . وللعلم، فإن أبسط إنسان في هذه الدنيا يشعر بالبهيمية وبأن شيئاً ينتقص من إنسانيته عندما يفقد حريته وكرامته . كما أن من فقدوهما في عصرنا الحديث فقدوا معهما حتى الحق في لقمة العيش، مع أنهم كانوا قد تلقوا وعداً سياسياً من أعلى مستوى بتعويضهم عنهما معيشياً ومادياً، ثم بينت تجربة الواقع أنه لا يوجد تعويض عنهما، وأنهما أساس أي عيش بشري إنساني، أليس من الغريب والعجيب أن لا يلاحظ مراقبون مهمون يعيشون في مجتمعات تقر لإنسانها بالحرية هذه المسألة المهمة في الحدث التونسي، وأن يحصروه في المطالب الاجتماعية وحدها، في حين تقدم المتظاهرون منذ اليوم الثاني من حراكهم بمطالب تتعلق بالنظام السياسي أهمها الحرية لهم وللإعلام والأحزاب، وبالديموقراطية كنظام حياة وحكم، وصبوا غضبهم على الاستبداد والدكتاتورية، وواصلوا تمردهم رغم وعود تلقوها من الرئيس السابق زين الدين بن علي تكفل حريتهم وتعلن التعددية السياسية والحزبية وحرية الإعلام ووسائل التواصل الإلكترونية . . . الخ؟ . أراد التونسيون الخلاص من نظام أهانهم عندما انتقص من حريتهم وداس على كرامتهم، وأدركوا بحدس جماعي رائع أن المسألة الرئيسة تتعلق بحريتهم وليس بلقمة الخبز، لكن الإعلام الغربي أصر على أحد أمرين: إنكار أن المطالبة بالحرية كانت الأمر الرئيس في التمرد الشعبي، واستهجان تركيز المتظاهرين على المسألة الاجتماعية في بلد تعد أحواله من الأحسن في العالم العربي وشمال إفريقيا، من دون أن يلاحظ هؤلاء المتابعون التناقض في موقفهم، والعنصرية التي تفوح منه .
لم يكن الحدث التونسي من أجل الخبز وحده، بل كان كذلك من أجل الحرية . وإذا كان هناك من برهان يثبت ذلك، فهو معلمة مدرسة ابتدائية غير عاطلة عن العمل ولا تفكر بحرق نفسها، سئلت عما جرى في تونس فأجهشت بالبكاء وهي تقول: شعب تونس لا يستحق ما جرى له، لا يستحق الظلم الذي كان واقعاً عليه، ولا يستحق أن يبقى ثلاثة وعشرين عاماً تحت التعذيب والقمع . لم تقل السيدة كلمة واحدة عن الجوع، الذي كان حقيقة مرة وقائمة، وحصرت كلامها في الحرية والكرامة .
أيها السادة المتابعون في الغرب: نحن الذين علمناكم قيمة الحرية، فلا تنكروها علينا، وتنظروا إلينا وكأننا لا نحس بغير الحاجات المادية والشهوانية . راجعوا أفكاركم المسبقة عنا، التي ترى فينا متأخرين وكذابين وكسولين وشهوانيين وعدوانيين، وتذكروا دائماً أن واحداً منا، الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، هو الذي قال بصيغة استنكارية: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” . ولا تنسوا أن هذا كان قبل نيف وخمسة عشر قرناً مما قاله فلاسفتكم عن الحق الطبيعي وحقوق الإنسان .
احترموا شعوبنا، فهي تستحق الاحترام وتثور على الذل .
الخليج